المثنى الشيخ عطيةصفحات سورية

في اللحظة السياسية السورية: يسار محتار أمام دروب الحرية


المثنى الشيخ عطية

    يعكس مقال نشره المفكّر ميشيل كيلو مؤخراً في جريدة السفير اللبنانية تحت عنوان: “أوليات سياسية.. دروب الحرية” أحد مشاكل اليسار النخبوي السوري الممثل بأغلبيته في هيئة التنسيق الوطنية، وتتركز هذه المشكلة في فهم قاصر للحراك السياسي وقواه المحركة، أدى به إلى تعارض مع اتجاه حركة الثورة السورية، واتهامات له من قوى الثورة أقلّها أن فهمه السياسي لهذا الحراك يصب في مصلحة النظام وتقوية موقفه أمام الجامعة العربية والعالم وتوفير مبررات بأن لديه معارضة لا ترفض الحوار معه، وتوافق على التغيير بقيادته، في الوقت الذي تسعى فيه قوى الثورة إلى عزله كقاتل لشعبه بعد أن نزعت عنه شرعيته كنظام يمثل شعبه، كما أدى الفهم الخاص للحراك السياسي من قبل هذا اليسار إلى زيادة قلّته قلةً، وتعرّض أحزابه وقواه لتحولات في المواقف وانفصالات وانشقاقات…

مشكلة اليسار النخبوي السوري في الحقيقة ليست غريبة عن مثيلاتها في تاريخ اليسار، وتم تشخيصها بالانفصال عن الواقع وتحجّر الوقوف على الضفة والتساؤل عن مدى عمق النهر وسرعة التيار وبرودة المياه دون الخوض فيه عند انعدام أي وسيلة أخرى لمعرفة ذلك، كما هي غير بعيدة عن تجربة حركة التغيير الوطني الديمقراطي في سورية بنهاية السبعينات عندما تردّد جزء من هذا اليسار، ولم يكن بينهم المفكر ميشيل كيلو للإنصاف، عن الوقوف مع رفاقهم الشيوعيين من المكتب السياسي ووافقوا النظام على اتهامهم بالوقوف مع الإخوان المسلمين عندما حاول هؤلاء الرفاق ضرب مثل مناقبي سوري في الدفاع عن حق التعددية السياسية، مع تحويل هذا اليسار للتجمع الوطني الديمقراطي الذي خاض هذا الصراع كمأساة، إلى مؤسسة كسيحة تحت قيادة حسن عبد العظيم الذي جمّد نفسه وحزبه أيضاً عن العمل في إعلان دمشق، ليكرر مع هذا اليسار الآن في لحظة حاسمة من تاريخ الثورة السورية انفصال هذا اليسار عن الواقع كمهزلة، ووقوفه على الضفة بخصوصية إعلاء هذا الوقوف إلى التنظير على من رموا أنفسهم وسط النهر كيف يتجهون، وممارسة نخبوية العارفين بنصحهم دراسة السياسة وفهم فنونها المفضي إلى نصح العودة إلى الضفة بعد قطع نصف المسافة، أي نصح سياسة الحوار مع النظام، بعد نجاح السابحين بمهارة في نزع شرعية النظام بفعل “سياسة” امتداد الثورة تحت شعار إسقاط النظام، دون أن يسأل نفسه هذا اليسار إن كان يمكن الركون لوعد سكين بشار الأسد المشهرة على عنق عبد الرحمن الداخل وأخيه وسط النهر بعدم ذبحهما إن هما عادا واعترفا بأنهما مندسّان، على أرضية مقولة هذا اليسار ذاتها بضرورة نزع التقديس الموهوم عن الشارع، واعتبار الثورة السورية ثورة شباب يقودها أغرار “عازفون عن السياسة كمعرفة وفن”، رغم اعتراف هذا اليسار تحت حقيقة نجاحات الثورة وقطعها الجزء الأكبر الخطر من النهر بـ: مهارة السابحين وسط التيار…

وبصورة أكثر تركيزاً لرؤية انفصالاته وتبريراته، يقدم اليسار النخبوي فرضية تتبلور في وجود فجوة “بين نشاط الشباب العملي، المتسم بقدر كبير من المهارة، وبين رؤيتهم السياسية لهذا النشاط، التي تظهر عديداً من الثغرات والنواقص؟”.. ويحدّد أسباب هذه الفجوة بعاملين أولهما “افتقار الشباب، رغم معرفتهم لهدفهم، إلى رؤية دقيقة للتوسطات أي السياسة التي توصل إليه، بل إن بعضهم يؤمن بأنه لا وجود لتوسطات كهذه، وأن تكرار المطالبة بالهدف بعد خفضه إلى شعار تكتيكي، آني ومباشر، يكفي لتحقيقه”، وهذا في رأي هذا اليسار: “درب فشل وليس طريق نجاح”… وثانيهما “عدم قبول الشباب بالاختلاف وتخوينهم للآخر وعدم فهمهم أن العمل السياسي في ظل الأنظمة الشمولية لا ينجح إذا لم يتم انطلاقا من المشترك والجامع، وإذا لم تنجح أطرافه في إقصاء خلافاتها عن المجال المشترك، وفي النظر إليها باعتبارها ثانوية الأهمية بالمقارنة مع ما هو جامع ومتوافق عليه”.. ويحدد هذا اليسار مع التورية خلاف الشباب مع الآخر أي معه/ اليسار النخبوي حول شعار إسقاط النظام، ويبلوره على أنه شعار وليس هدفاً يتم التوافق عليه، وهذا الشعار كما يقول “بحدّ ذاته لا يسقط النظام، حيث إنه لم يـوجد على مرّ التاريخ شعارات، مهما كانت تعبوية وإجرائية، أسقطت بمفردها النظم، وإن موازين القوى هي التي تفعل ذلك”…

وحيث أن النظرية هي ابنة واقع ينتجها، وأن الواقع المنظّر هو واقع خاص بأحمد المعيّن بمواصفات خاصة به، وفي زمن خاص ومكان خاص من تطوره، وليس واقعاً خاصاً بمحمد المختلف في مواصفاته وزمنه ومكانه.. يكشف هذا الكلام النظري الجميل حقاً ودون اتهامٍ بالتضليل المقصود، عن فواته عند مصادمته بالواقع الذي يتحدّث عنه، ولا يبدو الأمر ميكانيكياً إطلاقاً في القول بتناقض المقدمة مع النتيجة في تحديد هذا اليسار لـ “فجوة بين نشاط الشباب العملي المتسم بالمهارة وبين رؤية الشباب السياسية التي تتسم بالثغرات والنواقص”! عند تحديد ماهية قوى الثورة في سورية التي جرى تصويرها مغالاة ومماهاة مع ثورة تونس ومصر بأنها قوى شباب تصرفت بعفوية وسبقت قوى المعارضة في هزّ حصون الاستبداد على ما في هذا الكلام من بعض الحقيقة، وأنها برأي اليسار النخبوي قوى شباب “لا تعرف ولا تريد أن تعرف فن السياسة”، لمجرد أنها ترفض الحوار مع القتلة… فالحراك الثوري في سورية الذي انطلق عفوياً وبرد فعل على دوس الكرامة والحرية بدأ منذ الخامس عشر من آذار في معظمه بمثقفين مسيّسين، والاعتقالات منذ بدايتها إلى استمرارها شملت مثقفين وسياسيين من معظم الأحزاب وفي مقدمتها أحزاب يسارية مثل حزب الشعب الديمقراطي الذي نشر أعضاءه في الشارع المتظاهر، وهم شباب مسيّسون ناهيك عن شيوخه الموجودين بقيادة قوى التظاهر والذين اعتقل منهم الأمين الأول لهذا الحزب غياث عيون السود وعضوا أمانته العامة ولجنته المركزية جورج صبرا، وفوزي الهايس من الشارع، وشملت الملاحقة رمزه رياض الترك/ ابن الثمانين المعروف أنه موجود في قيادات تنسيقيات شباب الثورة، وأن له يداً كبيرة في رسم سياسات التظاهر وتطورها الذكي وفقاً لامتداد الثورة وترسّخها على الأرض، من التغيير إلى إسقاط النظام بكل أركانه وفي مقدمة هذه الأركان رئيس النظام وعائلته، مع الحفاظ بصورة طهورية نادرة على سياسة سلمية الثورة.. ولا يمكن القول أن قوى إعلان دمشق الموجود في الشارع بشبابه وقادته، والقوى الإسلامية وعلى رأسها مفكرون وقادة سياسيون، وقوى المثقفين السوريين في الداخل والخارج، وقوى شباب هيئة التنسيق نفسها الخارجة عن رأي قياداتها.. هي قوى لا تتعامل بالسياسة ولا تعرف فنها لمجرّد اختلافها مع سياسيين تقليديين أقلّويين ثبت أن ممارسة سياستهم تعطي النظام هواءً لسفك المزيد من دماء الشباب والنساء والأطفال…

واستتباعاً لذلك فإن الرؤية الدقيقة للتوسطات أي السياسة التي توصل إلى الهدف، هي التي تم استيعابها من قبل قوى الثورة برؤية التغيرات وإدراك أننا في عصر الموبايل ولسنا في عصر خوف مجزرة حماة الثمانينات التي بقي اليسار النخبوي متحجّراً فيها، وأن سياسيي الثورة من الشباب والشيوخ والمثقفين لم يخفضوا هدف إسقاط النظام إلى شعار تكتيكي بل على العكس، قاموا بترقيته وفقاً لامتداد الثورة من التغيير إلى رفعه هدفاً أول مرتبط بهدف بناء الدولة المدنية الديمقراطية، وكان هذا درب نجاح الثورة وحصادها في تحويل الشارع إلى شعب، في الوقت الذي بقي اليسار النخبوي يتعامل مع الشعب كطائفة ويطلب منها التعامل بسياسة التقيّة المرذولة في مفاهيم الديمقراطية.

إضافة إلى ذلك حققت قوى الثورة نجاحاً إعجازياً في تشكيل المجلس الوطني السوري، وإن بعملية قيصرية ترافقت بجهود مضنية وتنازلات لعبت فيها الرؤية السياسية النفاذة لرياض الترك دوراً كبيراً في إعلاء “الجامع المشترك” وهو إسقاط النظام بكل أركانه على المحاصصات في تشكيل هذا المجلس، في الوقت الذي عزل اليسار النخبوي نفسه بمفرّق لا جامع مشترك هو الحوار مع النظام، في اللحظة التاريخية المحددة بعزل النظام من قبل الجامعة العربية والعالم، والتي وجب فيها بكل وضوح الاصطفاف دون مخاتلات إما مع الثورة أو مع النظام، وكان حريّاً بهذا اليسار أن يصطف مع الثورة لتغليب ميزان القوى لصالحها، لا أن يعطي المبرّر للروس في استمرار فرض الفيتو اعتماداً على أن هناك معارضةً مستعدة للتغيير مع النظام، وما استيهامات هذا اليسار في الضحك على النظام بقبوله التغيير إلا ضحك على النفس وأضغاث أحلام…

على دروب الحرية، بعيداً عن العيون العمياء لمن لا يبصر معنى الإيمان بالشعب، يلملم الشعب السوري جراحه، يتقاسم رغيف الخبز والدمعة، يظهر للعالم صورة الأم التي تحاول إعادة طفلها المدمّى بهزّه  للحياة، صورة الأم التي تقبّل أقدام طفلها الشهيد، صورة الرضى الباسم بكامل بهائه على وجه الشهيد. يحدّد اللحظة، يسمّي الجمعة التالية لإطلاق ما يعبّر عنها، يطرحها للتصويت، يبدع شعارات اللافتات، لا يسأل عن معنى إبداعه في إعادة السياسة للفعل في الواقع.. ويسير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى