صفحات مميزةياسين الحاج صالح

في الليل السياسي، حيث تتخلق الأشباح وتنتشر/ ياسين الحاج صالح

 

 

بوصفه مصادرة جذرية للسياسة، قد لا يقود الطغيان في خط مستقيم إلى نشوء ظواهر غولية، تعادي المجتمع والدولة، مثل السلفية الجهادية («جبهة النصرة» في سورية)، أو السلفية الجهادية المخابراتية (داعش)، لكنها التشكيلات التي تتضرر منه أدنى الضرر. أعظم الضرر يلحق، بالمقابل، بالتكوينات الاجتماعية والسياسية المرتبطة تكوينياً بالعالم الحديث وممكناته ومشكلاته وتطلعات الناس فيه. وبينما تعجز هذه المجموعات الأخيرة عن الحرب، فتخرج من السياسة، يعجز الجهاديون عن السياسة، فتبقى حربهم عدمية وعقيمة. هذا بينما يقع «الإسلاميون السياسيون» في منزلة بين المنزلتين.

1

ينتقل السلفيون الجهاديون في سورية من أقبية المخابرات أو من زنازين يتعرضون فيها لتعذيب متوحش إلى حكم «يدير التوحش»، توحشهم الخاص، في مناطق خرجت عن سيطرة دولٍ متهاوية. هذان هما قطبا عالم السلفية الجهادية عموماً: إما أن يكون الجهاديون موضوع تعذيب وامتهان عند المخابرات، أو فاعل التعذيب والامتهان مثل المخابرات. وبين القطبين، ربما تلاعبت ببعضهم المخابرات الأسدية في العراق ولبنان، وفي سورية ذاتها. شكل السلفيون الجهاديون وأجهزة المخابرات قطبا العالم السفلي في العالم العربي وخارجه، منذ أيام «الأفغان العرب» في تسعينات القرن العشرين إلى جهاديي ما بعد احتلال العراق، يتماثلان في السرّية والإرهاب والقسوة الوحشية. المجتمع ليس لازماً للجهاديين (ولا لدول المخابرات) إلا كركيزة سلبية للحكم. يمكن أن ينتشر التيار الجهادي في وسط بعينه في ظروف محددة، ظروف تهميش وفقر، أو ظروف حرب وتحطم اجتماعي، لكنه ليس معنياً برعاية هذا الوسط، ولا هو يبدي اهتماماً خاصاً بأمنه وشروط حياة أفضل للناس فيه. فمجتمع الناس كبيئة حية، متدخلة وفاعلة، مالكة للسياسة، ومجالٍ للهيمنة والتنافس الفكري والسياسي بين تيارات سياسية وفكرية متنوعة، ليس من لوازم هوية الجهاديين وعملهم. وليس منها أيضاً السياسة كشيء متميز عن الحرب ومهيمن عليها، كتفاوض وتسوية محتملة بين مصالح اجتماعية متعارضة.

يستفيد من السرّية والتحجّب من لا يحتاج إلى العلنية في شيء ومن لا يريد أن يسفر عن وجهه، بينما يتضرر من السرّية من يحتاج إلى العلنية كي يسفر عن وجهه ويعرض فرقه عن غيره.

لكن هل كانت السياسة ومجتمع السكان المتنوع والفاعل ضرورات وجودية لأية تيارات فكرية أو سياسية أخرى في سورية؟ الواقع أن الجباية السياسية الجائرة التي تبقي السكان في حالة من الإملاق السياسي الشديد، وبصرف النظر عن أي نقاش حول دور هذا الإفقار في نشوء الظاهرة السلفية الجهادية، قد ضيق الفرق بين أحوال الجميع، إن لم يكن محاه تماماً. كان الجهاديون واقعين تحت الغمر مثل الإخوان المسلمين، ومثل العلمانيين المعارضين، ومثل أية منظمات اجتماعية وثقافية مستقلة: روابطهم منقطعة أو تكاد بأية بيئات اجتماعية حية، وفاعليتهم الإقناعية والتعبوية المحتملة سعياً وراء الهيمنة تقارب العدم. وفي ليل السياسة البهيم هذا قد يكون الأخطر من نشوء الوحوش والغيلان هو امحاء الفروق بين الوحوش واللاوحوش، بين الغولي والإنساني، بين من لا يحتاج أصلاً إلى السياسة ولا يتضرر بحال من أفولها، بل ربما لا يظهر إلى الوجود إلا في الليل السياسي، وبين من لا يعيش إلا في نهار السياسة ويتضرر كل الضرر من الظلام السياسي. يستفيد من السرّية والتحجّب من لا يحتاج إلى العلنية في شيء ومن لا يريد أن يسفر عن وجهه، بينما يتضرر من السرّية من يحتاج إلى العلنية كي يسفر عن وجهه ويعرض فرقه عن غيره. يقول المثل الألماني: في الليل كل الأبقار سوداء! الليل يعدم الفوارق بين الأفراد والمجموعات والتيارات، ومن يستفد من محو الفروق هم سود اللون تحديداً. ومن خبرتنا الحية نعلم أنه تضيع الفروق بين النساء المنقبات المغطيات بليل دائم. كل المنظمات السياسية المعارضة والمستقلة نساء منقبات يغطيهن الليل الأسود في شروط التنقيب السياسي القسري للمجتمع. وهو ما يعني أن لا فرق بين تيار وآخر إلا في نهار السياسة، مثلما لا فرق بين امرأة وأخرى إلا بالسفور. (ولعله ليس خارج السياق كثيراً القول إن النقاب، وهو سياسي جداً دوماً، هو بمثابة استعباد للنساء، وإحالتهن إلى ليل سياسي لا ينتهي. تحرر النساء من النقاب، بالمقابل، هو أحد وجوه عملية التحرر السياسي وأهم مقاييسها).

تشاطرت تيارات السوريين ومنظماتهم شروط الحياة تحت خط الفقر السياسي (الليل السياسي)، فلا تجتمع بغيرها، ولا تتبادل الكلام في الشأن المشترك مع آخرين، ولا تخاطب السكان أو قطاعات منهم، ولا تتجمع وتحتج علناً. وهو ما أفضى إلى تضاؤل الفرق بين إسلاميّ وشيوعي مثلاً، وبين إسلامييّ الإخوان وإسلامييّ حزب التحرير والسلفيين الجهاديين، وبين أي يساريين أو ليبراليين معارضين. وأكثر من ذلك أفضى ليل السياسة إلى تجمد هوية هذه المجموعات على أصول إيديولوجية قديمة، لا على أنشطة سياسية مزامنة، معدومة. الكل مجهولون، مفتقرون إلى الملامح المميزة، محصورون في أوضاع دفاعية يائسة. تشاركهم حال توقف النمو أية مجموعة ثقافية أو اجتماعية أو حقوقية تعمل على تنظيم نفسها وتتطلع إلى لعب دور عام مستقل.

2

لكن هل يعني ذلك أن الارتفاع فوق خطر الفقر السياسي مصلحة جامعة لهذه المجموعات؟ وهل إن تغطية الليل السياسي للجميع، يعني شراكة الجميع في طلب النهار؟ وهل تتطلع هذه التيارات والمنظمات بالقدر نفسه أو بمقادير متقاربة، إلى امتلاك السياسة، إلى التحرك الحر ضمن الفضاءات العامة، إلى التجمع المستقل، إلى امتلاك الكلام الناقد والمعترض، إلى محاولة الهيمنة والفوز برضا قطاعات اجتماعية أوسع، إلى التظاهر في الشوارع؟

ولا بأي حال من الإحوال. لا يحتاج السلفييون الجهاديون إلى السياسة كما سبقت الإشارة. ولدوا في شروط الحرب وتداعي الدولة الوطنية، في أفغانستان، ووجدوا في تداعيها في الصومال واليمن والعراق، واليوم في سورية وليبيا ومصر…، إطار التوحش الأمثل لعملهم، حسب أبو بكر ناجي، مبدع نظرية «إدارة التوحش». يفترض أن هذه «المرحلة الأخطر» من «تاريخ الأمة» مؤقتة، لكن «لا شيء يدوم أكثر من المؤقت»، ومن البدايات الوحشية لا تأتي خواتيم إنسانية.

الجماعة يزدهرون في شروط الحرب العامة، والحرب العامة هي طلبهم وحاجتهم. وأقل ما يناسبهم هو الحياة العادية في شروط من السلام العام وتحسن الأوضاع الاقتصادية والأمن المتساوي للجماعات والآراء والعقائد. وهم في غير ما حاجة إلى السياسة، وليس في إعدام السياسة من قبل نظم أسدية وقذافية وسيسية وما شابه ما يتسبب بضرر لهم، بقدر ما إن هذا الإعدام هو أول شروط حياة الحرب التي يحتاجونها كشرط حياة. بل إن ليل السياسة، بوصفه كتماناً وسرّيةً وانعداماً للفضاء العام، هو أنسب شرط لهم لأنهم متكتمون، سرّيون، مغتربون، لا يريدون المشاركة في سوق سياسية علنية مثل غيرهم.

الإخوان يتضررون من غياب السياسة خلافاً للسلفيين الجهاديين، لكن بقدر أقل من مجموعات «علمانية» معارضة، يسارية أو ديمقراطية أو قومية أو ليبرالية. تكونت هذه المجموعات في إطار الدولة الوطنية، وهي دولة السياسة مبدئياً، تقوم على المواطنة، ونفي صفة العدو عن أي فاعلين داخليين وطردها، ومعها الحرب، إلى الخارج الوطني، وتالياً تقوم هذه الدولة أيضاً على الشرعية المبدئية المتساوية لتيارات وقوى اجتماعية وسياسية متعددة.

من يتضرر أعظم الضرر من الطغيان «العلماني»، المفقِر سياسياً، هو التيارات التي توظف في السياسة وتُعرّف نفسها بالسياسة، التيارات «العلمانية» الحديثة. وأقل التيارات تضرراً هي الإسلاميون، والجهاديون منهم بخاصة.

الإخوان أيضاً ظهروا في سورية (وفي مصر قبلها) في إطار الدولة الحديثة، وبوجود سوق سياسية ليست مغلقة، يجاورهم ويجايلهم فيها يساريون وليبراليون و«قوميون». كانت العلاقات بين الإسلاميين وهؤلاء «العلمانيين» غير ودية غالباً، لكن حملوا من ملابسات هذه الولادة استعداداً سياسياً مترجرجاً، يبرز أكثر في أوقات الخروج من الغمر: مصر في العقد السابق للثورة، سورية بين ربيع دمشق واليوم، ويتراجع وقت الحرب: مصر أيام ناصر، وسورية في الزمن الأسدي، والبعثي عموماً. يبقي الوجه السياسي للإخوان محاصراً بوجههم الديني الذي يوجه سياستهم نحو الهوية والماضي (إلى حيث لا يزال وجه الإسلام منداراً)، وليس نحو المجتمع والراهن، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى تبقى علاقتهم بأية مجموعات أخرى مفتقرة إلى عمق فكري وقيمي، بالنظر إلى أن مخيلتهم السياسية وذاكرتهم أوثق صلة بماضٍ امبراطوري، يرفع المسلمين فوق غيرهم، منهما بحاضر وطني يفترض تساوي المرتبة السياسة والحقوقية فيه بين الجميع.

ويبدو أنه في شروط الإفقار السياسي يتضرر الإخوان بحكم صفتهم السياسية، سواء من الحرب المخابراتية والعسكرية، أو من التقييد المتشدد للنشاط العام، لكنهم لا يفنون على ما يظهر المثالان المصري والتونسي. فإذا أتيح القليل من السياسة والقدرة على الحركة، كان سهلاً نسبياً عليهم إعادة بناء شبكاتهم التعليمية وجمعياتهم ومساجدهم، واستئناف نشاطهم الدعوي والسياسي، والظهور كقوة سياسية مؤثرة.

من يتضرر أعظم الضرر من الفقر السياسي هي المجموعات التي تُعرِّف نفسها بالسياسة وتستثمر في السياسة كقيمة، وقد ظهرت عملياً في إطار الدولة الوطنية (لعل لها «ما قبل تاريخ» حديث، هو ما قبل تاريخ الدولة الوطنية أيضاً: عصر التنظيمات العثماني و«النهضة العربية»…). قد يكون هؤلاء يساريين أو ليبراليين أو ديمقراطيين…، لكن السياسة كنشاط عام في فضاء عام مفتوح مقتضىً وجوديٌ لعملهم. في غيابها يُحتضَرون، هذا دون قول شيء عن احتمال تعرض منظماتهم للتصفية والاستئصال المخابراتي.

ما أريد الخلوص إليه هو أن من يتضرر أعظم الضرر من الطغيان «العلماني»، المفقِر سياسياً، هو التيارات التي توظف في السياسة وتُعرّف نفسها بالسياسة، التيارات «العلمانية» الحديثة. وأقل التيارات تضرراً هي الإسلاميون، والجهاديون منهم بخاصة. بالعكس، هؤلاء الأخيرون، اللاسياسيون جوهرياً، ظهروا وازدهروا في ليل السياسة، حين كان الطغيان منتصراً في حربه من طرف واحد على السكان، أو حيث هناك حرب مفتوحة متعددة الأطراف في بعض البلدان. أما السلفية الجهادية المخابراتية فهي تنتفع أكثر أيضاً من شروط الحرب، لأنها تشكيلات حربية تكوينياً. أسميها سلفية جهادية مخابراتية لأن أجهزة المخابرات تشكل نموذجها الأصلي، وخرج غير قليل من كادرها من أجهزة مخابرات نظام صدام في العراق فعلاً، وأفضل من يحوز معلومات عنها هي أجهزة المخابرات، وهذا بصرف النظر عن صواب الاشتباه باستتباع أجهزة مخابرات متنوعة لها اليوم أو عدم صوابه.

3

هذا واقع لم تلحظه مقاربات أربعة للطغيان، فأخطأت وأضرت.

واحدة «علمانية» متمركزة حول معاداة الإسلاميين، ولا ترى أنهم أقل تضرراً من الطغيان «العلماني» الذي تواليه هي، أو تسكت عنه في أحسن الأحوال، وأن المتضرر الأكبر هو في الواقع تيارات علمانية. وثانية إسلامية، تعارض طغياناً قائماً، لكن لا تدافع عن استقلال الدولة الديني، أي عن علمانيتها في الواقع، وعن المجتمع كبيئة حية لعمل تيارات فكرية وسياسية متنوعة، وعن حق متساوٍ وشرعية متساوية مبدئياً في العمل العام، فتعمل في النهاية من أجل ليلها السياسي الخاص (تتقبل إشكالية الإخوان أطرافاً أخرى كممثلة لهويات قديمة معترف بها إسلامياً، مع إشغال تلك الأطراف مرتبة أدنى). وثالثة سلفية جهادية، لا تدّخر للمغمورين سياسياً غير ما يتراوح بين الإبادة الفعلية والإبادة الرمزية، بمن فيهم ممثلي أي هويات قديمة، وهي في ذلك لا تكتفي بليل سياسي، تريد ليلاً اجتماعياً دائماً. وتنطلق مقاربة رابعة، «ديمقرطية»، من أن شركاء الليل شركاء في النهار أيضاً، أو أن كل من غمرهم الليل بظلامه شركاء في مقاومة الطغيان والحصول على السياسة. وهذا مفتقر إلى المرونة على الأقل، ويمكنه أن يكون غير صحيح تماماً. قد يكون شركاء الليل شركاء في إرادة قلب الأوضاع القائمة، لكن ليس بالضرورة في امتلاك السياسة العام الذي هو أساس الديمقراطية.

سياسة الهوية أو الجماعة الخاصة هي ملعب الإخوان، والسياسة الأنجع في مواجهتها هي سياسة المجتمع، ليس سياسة هوية مضادة، ولا قمع كل تعبيرات سياسية وثقافية.

وبينما ليس من حسن السياسة إجمال إسلاميين مختلفين بسياسة واحدة، فإن إمكانية استثمار المساحة المشتركة القلقة مع أي «إسلاميين سياسيين» تقتضي من الديمقراطيين توظيف أكبر طاقاتهم في المساحة الخاصة المميزة لهم، وبخاصة السياسة الاجتماعية المعنية بشروط حياة السكان، هنا والآن، وبناء شبكات التضامن الاجتماعي العابرة للهويات، والعمل على تحييد دور الهويات الموروثة في السياسة العامة. سياسة الهوية أو الجماعة الخاصة هي ملعب الإخوان، والسياسة الأنجع في مواجهتها هي سياسة المجتمع، ليس سياسة هوية مضادة، ولا قمع كل تعبيرات سياسية وثقافية.

القطيعة ليست سياسة صائبة أيضاً، وتخدم الجهاديين حصراً. ومع هؤلاء الأخيرين ليس هناك مساحة اشتراك مع أي قوى تحررية. هؤلاء ولدوا في عالم المخابرات، وحلفاؤهم في النهاية هم أترابهم المخابرات.

4

صرفت النظر فوق عن دور محتمل للإفقار السياسي أو الليل السياسي في نشوء الوحوش والغيلان. كان تركيز الفقرات السابقة على التضرر من الإفقار أو الليل، وترتيب المتضررين. لكن ليل السياسة ملائم لتولد الغيلان وتكاثرها، وليس هو فقط بيئة أصلح لعملها. ظهرت القاعدة في أفغانستان حين كانت واقعة تحت احتلال أجنبي، فرض ظلاماً سياسياً مديداً على محكوميه الخاصين، وواجهه مقاتلون من بلدان يعمها الظلام السياسي (السعودية ومصر، وسوريين من جماعة الطليعة المقاتلة، وجزائريون…)، ومع دور قوي لأجهزة الظلام، المخابرات الأميركية والسعودية والباكستانية في صنع «الجهاد الأفغاني» الذي ولدت القاعدة من أحشائه. وظهرت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في سورية، وهي تنظيم قاعدي قبل القاعدة، في ظل نظام حافظ الأسد، بينما كانت سورية تمعن في «قلب الظلمة». وانتشرت القاعدة إلى بلدان محطمة، لا سياسة فيها، مثل العراق والصومال، واليوم ليبيا وسورية. بيئة الحرب مناسبة لها، وكانت تشكل نموذجاً جاذباً لسوريين وليبيين قبل الثورات، لم يعرفوا السياسة يوماً.

وبحكم تكوينهم ذاته، لا يمكن للقوم أن يعيشوا في ظل أوضاع سياسية عادية. الحرب ليست شيئا يقوم به السلفيون الجهاديون، بل هي شيء يكونونه. ولذلك بالذات التعايش معهم غير ممكن، وهم لا يريدون على كل حال التعايش مع أحد. أما السلفيون الجهاديون المخابراتيون، داعش، فهي نتاج ظلام مضاعف: القاعدة، ثم مخابرات صدام وجيشه. وهي تحمل من أصولها هذه عداء للمجتمع والحياة العادية أكثر مما تعادي دول الطغيان.

وما يجعل هذه التكوينات بالغة الخطورة أنها تطلب الحرب كشرط وجود، وأن وفرة الموت شرط حياة لها. وبينما قد تشكل خطراً أمنياً وقتياً، فإن حياة سياسية عادية (وليس دولة المخابرات بحال) هي شرط موت لهذه التكوينات، مثلما تزول الأشباح مع شروق الشمس.

الحرب ليست شيئا يقوم به السلفيون الجهاديون، بل هي شيء يكونونه.

ولأن مجموعات السلفية الجهادية تشكيلات لا سياسية معادية للسياسة جوهرياً، تمزج الدين بالحرب (= الجهاد)، فإن هذه المجموعات عاجزة عن الاستثمار السياسي لما قد يتحقق لها من مكاسب عسكرية. هذا لأن حربها ليست أداة سياسية أو استمراراً مغايراً للسياسة على ما يقول كلاوسفيتز، بل هي سياسة بديلة ومفضلة. وبحكم تكوينها اللاسياسي، واللااجتماعي في الواقع، فإن ما تحققه عسكرياً يبقى مجرد إنجاز عسكري بدون قيمة عامة، لأنه هو لها وحدها، لا شريك فيه من غيرها، ولأنها لا تقدم برنامج مشاركة مع أي غير، ولا تعترف بغير أصلاً، ولا تخاطب جمهوراً متنوعاً وتحاول إقناعه أو كسب وده، ولا تعطي لأحد شيئاً كي يكون ما تأخذه شرعياً ومقبولاً. تريد كل شيء لنفسها ولا شيء لغيرها، تماماً مثل السلطان الأسدي. هذا منطق إخضاع ليس سياسة. لذلك يمكن لهذه المجموعات أن تلحق هزائم عسكرية بالنظام، لكنها لا تستطيع تحقيق انتصارات إيجابية. النصر سياسي وسياسي حصراً، والسياسة تعني قبول آخرين ومشاركة آخرين، والأخذ والعطاء مع آخرين. حين لا آخرين لا سياسة. وحين لا سياسة تنحط الحرب إلى إرهاب عدمي.

وإذا تعذر الاستثمار السياسي لانتزاع إدلب مثلاً من يد الأسديين، فبالضبط لهذا السبب. يتحقق تقدم عسكري، لكنه عقيم لا يبنى عليه شيء. وصحيح أن «جبهة النصرة» مجرد طرف من الأطراف التي انتزعت إدلب من يد النظام، إلا أنه طرف قوي وربما الأقوى من جهة، ولأن المجموعات الأخرى تشارك النصرة في التكوين اللاسياسي، لا تكاد تخرج عليه في شيء.

وهذه مشكلة عانى منها الإخوان أنفسهم بقدر ما، في مصر بخاصة. لقد أعطوا الانطباع بأنهم يعملون على امتلاك الدولة كلها، والاستئثار بالسياسة لأنفسهم، ولا يريدون شركاء. هذا بينما كان الشيء الصحيح والثوري هو توسيع امتلاك السكان للسياسة، التنظيم والكلام والاحتجاج، والتحصن بهذا المجتمع النشط سياسياً. لكن مقابل قوى الانقلاب التي انزلقت بسرعة نحو الفاشية، ظهر الإخوان كديمقراطيين: خصومهم ظلوا، والإخوان يحكمون، ينشطون سياسياً وإعلامياً واجتماعياً بأكثر مما أتيح للإخوان في أي وقت في ظل دول خصومهم. ترى، لو طال الأمد بالإخوان، هل كانوا سيتحولون إلى نظام حزب واحد، دكتاتوري؟ كان هذا وارداً جداً في رأيي، ولكانوا عندئذ استثاروا عداء إسلاميين آخرين، وليس المنظمات العلمانية وحدها. لكن ينبغي القول، بعد الانقلاب العسكري ومجيء االسيسي، أن عبء إثبات جدية الدعوة الديمقراطية يقع على كاهل خصوم الإخوان، أكثر مما يقع على كاهلهم هم.

5

هل الصفة النهارية الحصرية للمجموعات الديمقراطية والعلمانية، هي ميزة إيجابية حصراً؟ ولا بحال من الإحوال. إنها علامة سطحية اجتماعية وسوء تكيف، في مواجهة الطغيان، ثم اليوم في مواجهة الحرب، وصعود الكائنات الليلية.

وبينما مشكلة السلفيين الجهاديين أن تكوينهم اللاسياسي ذاته يحول دون أن يستطيعوا الاستثمار السياسي لما قد يحققونه عسكرياً، فإن مشكلة الديمقراطيين والعلمانيين أنهم لا يستطيعون الحرب أو المقاومة المسلحة، دفاعاً عن أفكارهم وتوفير خيار اجتماعي إضافي، وهو ما يخرجهم من السياسة ذاتها. فمن لا يستطع الدفاع عن خياره الاجتماعي والسياسي، أو حتى عن وجوده، يكون قد نذر نفسه عملياً للموت السياسي. قد يستمر بصورة ما عبر التبعية لمن يقدرون على الحرب، لكن التبعية أيضاً شكل من الموت السياسي.

لكن هل يحارب الديمقراطيون؟ أليس في هذا ما يتعارض مع مثالهم الاجتماعي والسياسي؟ تجاربنا خلال جيلين تفيد أننا نُسحق إن لم نستطع الدفاع عن أنفسنا، وأن المجتمع ذاته يُسحق، مرة على يد السلطانية الأسدية، ومرة اليوم على يدها ويد مجموعات إسلامية مشدودة إلى النموذج السلفي الجهادي (بفعل مزجه بين «العلم السلفي» و«العمل الجهادي»، ووضوحه وبساطته، والافتقار إلى نموذج منافس للقتال). وبقدر ما إن سياسة الديمقراطيين هي المجتمع فإن الدفاع عن المجتمع، وعن النفس، يقتضي القدرة عليهما. الانشداد إلى المثال المجرد عن ديمقراطيين مسالمين يعملون بوسائل ديمقراطية للوصول إلى مجتمع ديمقراطي، وتعريف النفس حصرياً به، قد يعكس ضعف الارتباط بواقع أرضي، وربما يدفع إلى الانضواء تحت جناح من هم أكثر رسوخاً وتمكُّناً.

إن المثقفين الذين يحتمون بالطغيان خوفاً من الإسلاميين يظهرون جهلاً كبيراً بتاريخ البلد، فوق خيانتهم المجتمع والقيم التحررية.

أقول إن سياسة الديمقراطيين هي المجتمع، وهذا بالتقابل مع الجماعة/ الجماعات التي هي سياسة الإخوان والطائفيين عموماً، وبالتقابل مع الحرب الدينية أو الجهاد، سياسية الجهاديين، وبالتقابل مع الطغيان السلطاني الذي هو امتلاك الدولة وسياستها، وردُّ السكان إلى أتباع. المجتمع فضاء للتفاعلات بين أفراد ومجموعات صنعية وجماعات أهلية، وبين الدولة، قائم على الثقة والاحترام. وهو في ذلك يتعارض مع السيطرة بالقوة، ومع التمييز والامتيازات، كما مع نشر الكراهية وتسميم الإجواء والتحقير. وهو أيضاً في تعارض مع الطغيان (حرب من طرف واحد على المحكومين)، ومع الحرب العامة، ومع الطائفية وسياسات الهوية. الدفاع عن المجتمع، بهذا المعنى، هو أول الديمقراطية، وآخرها هو التملك العام للدولة من قبل السكان. وبينهما الحرية، حرية كل فرد كشرط لحرية الكل (ماركس)، وحرية المغاير كشرط لحرية المماثل، وحريتـ«هم» كشرط لحريتـ«نا».

الحرية هي سند الاجتماعيين في مقاومة ثالوت الطغيان والطائفية والحرب. ليس الطغيان «العلماني» سنداً كما جنح إلى الظن مفكرون مكرسون في بضع العقود الأخيرة بفعل موجة صعود الإسلاميين. بالعكس، لقد صعد اليسار والسياسة الاجتماعية مرتين في تاريخ سورية، مرة قبل الوحدة مع مصر، ومرة بعدها مباشرة، بفضل أوضاع ليبرالية بقدر ما. وفي المرتين استفاد الإسلاميون أيضاً.

لكن الإسلاميين الذين يستفيدون من شروط الحرية لن يتأخروا عن أن يضيقوا بها، ويحاولون استخدام الدولة ضد نزعات التحرر الاجتماعي التي تنتعش حتماً في شروط الحرية السياسية. مثل ذلك حصل غير مرة فعلاً في خمسينات القرن العشرين، وخصوصاً ضد حضور النساء أكثر في الفضاء العام (جاءت التدخلات وقتها من طرف المشايخ ورجال الدين أكثر مما من طرف الإخوان). لذلك فإن المثقفين الذين يحتمون بالطغيان خوفاً من الإسلاميين يظهرون جهلاً كبيراً بتاريخ البلد، فوق خيانتهم المجتمع والقيم التحررية.

6

والخلاصة أن لدينا أربعة أدوار سياسية، وعوالم مثلى لأربع جماعات: دور المحارب وعالم الحرب العامة التي لا سياسة ولا مجتمع فيها بخصوص الجهاديين؛ دور سياسي الهوية وعالم تعددية ثقافية بهيمنة إسلامية، أي نظام ملل محدث؛ ثم دور السياسي الاجتماعي وعالم مجتمع يعمل بامتلاك السياسة وشروط حياته المادية؛ وهناك بالطبع دور رابع وعالم رابع، عالم الطغيان الساحق للجميع ودور وكلاء الطغيان العاملين كأدوات تحطيم اجتماعي وسياسي.

الطاغية لا يريد أطرافاً، يريد كرة اجتماعية مصمتة، لا يكف عن تشذيب ما قد ينتأ منها. المحارب أو المجاهد طرفٌ يعمل على إلغاء طرف آخر، إن انتصر يترقى إلى طاغية ويحصل على كرته المصمتة. سياسي الهوية طرف يتقبل وجود أطراف آخرى، على أن تكون ذات هويات جمعية قديمة؛ هنا لدينا كرة مصمتة كبيرة وحولها كرات مصمتة أصغر. السياسي الاجتماعي يتطلع إلى عالم لا يتكور على نفسه ولا ينغلق، تتجه تفاعلات جماعاته المختلفة لأن تتغلب على التفاعلات داخل هذه الجماعات، فتتشكل في كل حين تراكيب جديدة وعوالم جديدة.

مستنداً إلى القوة العارية، الطاغية يستصلح لنفسه صورة مجتمع قبل سياسي وبلا سياسة، يدوم إلى الأبد. ماذا إن تحقق الحلم ونال الأبد؟ يبدأ هو بتقويض ملكه على ما فعل بشار: فوق الأبد والسياسة كلها، يريد امتلاك السكان والثروة كلها. الجهادي يستند إلى الحرب والدين، في صورة حرب مستمرة لسحق العدو، فماذا إن سحق العدو؟ ربما يتقاتل المقاتلون ويسحقون بعضهم. سياسي الهوية رائقٌ طالما هو مهيمن ومرتاح «الذمة»، فماذا إن تلجلج التابعون؟ ربما ينقلب طغياناً عنصرياً عاتياً. أتكلم هنا على النظم الذمية الحديثة في الغرب، كما عن نظام الذمة المحتمل التجدد عندنا. حيال احتجاجات الضواحي في فرنسا قبل سنوات، كان نظام ساركوزي عنيفاً وعنصرياً في الوقت نفسه. سياسات القوى الغربية المعاصرة سياسات ذمية جديدة، وليست سياسات اجتماعية عالمية.

أما السياسي الاجتماعي فيريد سياسة بلا أعداء، بالكاد خصوم، هذا إن لم يكن الجميع أحباباً وإخوة. إذا تحقق ذلك تنتهي السياسة ذاتها.

رباعي الطاغية (محارب الدولة) والمحارب الديني والسياسي الديني وسياسي المجتمع يحيل إلى قوى تاريخية مميزة، يمكن رسم ملامح لها متشكلة في التاريخ الحديث، وكلها معاصرة لنا. يحيل الرباعي أيضاً إلى برامج أو وجهات عامة: امتلاك الدولة، امتلاك الجهاد (الحرب والدين)، امتلاك الدين، وامتلاك السياسة. هذ الأربعة مقولات سياسية مجردة أيضاً، تكثّف تاريخنا السياسي المعاصر، وتوفر أدوات مفهومية للتفكير فيه.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى