صفحات العالم

في المفاهيم: عن العشيقات… حتماً!

نهلة الشهال

قصة سكينة كانسيز معبرة، تلخص وحدها موقفاً يتكرر كلما جرى تناول امرأة يصادف أن تبرز لسبب ما.

السيدة من مؤسسي حزب العمال الكردستاني عام 1978، ومن أبرز وجوهه، وقد كشفت «ويكيليكس» أن واحداً من تقارير السفير الأميركي السابق في تركيا، روس ويلسون، خصها عام 2007، ذاكراً أنها واحد من أبرز ممولَين اثنين لهذا الحزب في أوروبا، «ومورِّد أسلحة ومخطط استراتيجي» له. وهي اغتيلت في باريس منذ أسبوعين، وقتلت معها امرأتان كرديتان، لعلهما قضتا لوجودهما برفقتها.

وخصصت لها كبريات الصحف العالمية صفحات تتكلم فيها عن هذه الشخصية الاستثنائية، المسؤولة السياسية عن حزب العمال الكردستاني في أوروبا، التي هي واحدة من أبرز ساحات فعله. والسيدة في الخامسة والخمسين من العمر، ولها شعر أجعد كثيف، تصبغه بالحناء الحمراء، وقد أصبحت واحدة من علاماتها الفارقة. وهي أمضت أكثر من عشر سنوات متواصلة في السجن (1980 – 1991)، حيث تحكى الأساطير عن صمودها، وعن قياديتها بينما هي خلف القضبان، حتى استحالت «أيقونة».

يمكن أن يقال الكثير عن حزب العمال الكردستاني، عن بنيته من جهة، وعن خياراته السياسية من جهة ثانية. ولكن النقد مهما كان صائباً (على فرض ذلك) لا يلغي أن هذا الحزب ظاهرة مهمة إلى حد يصح معه اعتبارها أنها تدخلت ليس في سياقات الأحداث السياسية للسنوات الثلاثين الماضية في تركيا (والعراق وسورية) فحسب، بل في ما يتولاه التاريخ عادة، أي في تغيير التركيب الاجتماعي لبيئتها، أو ما يقال له «مواقع» الفئات، أو «أماكنها».

وهو ليس تفصيلاً. فالحزب بدّل مواقع الفلاحين والمعدمين الأكراد من جهة، والنساء من جهة ثانية، في مكان خبِر الإقطاع والقِنانة، ودونية قاسية للمرأة، زادت حال الفقر المريع والعشائرية القوية في تحكيمها. وتقدِّر الدراسات عدد الأكراد في تركيا بأكثر من عشرة ملايين إنسان، يمثلون على الأقل 15 في المئة من السكان.

والانتفاضات الكردية قديمة، بدأت مع ولادة الدولة الأتاتوركية التي سعت بصرامة إلى تحقيق دمج قسري يمحو كل أنواع الفروقات في شكل عام، وإلى تتريك الأكراد، واعتبرت مجرد المجاهرة بالنطق بالكردية جريمة تستحق الإعدام.

وتقدر نسبة النساء في حزب العمال بربع عدد منتسبيه. وهن لسن ديكوراً ولا فائض عدد، ولا هن مقاتلات عسكريات فحسب، يرتدين البزة الكاكية، ويحملن بنادقهن ويسرن في الجبال، وفق الصور «الأكزوتيكية» التي كانت تنشر عنهن… مع العلم أن اقتحامهن ميادين القتال والحروب يمثل انتهاكاً لانتماء تلك الميادين حصراً إلى الذكورة، بل لكونها واحداً من تعريفات «الرجولة» المرادفة هنا للشجاعة، ولكن أيضاً للنبل بما هو مسؤولية الذود عن «الجماعة» أياً كانت.

كل ذلك جميل. فما دخل الحياة الجنسية لسكينة كانسيز فيه؟ ومن يمكنه تفحصها للقول إنها كانت في أحد الأيام «عشيقة» أوجلان؟ هذا أولاً. وما أهمية هذه المعلومة، هنا تحديداً، ثم على الإطلاق. وهل مثل هذا الإعلان، كما ورد في مقالات نُشرت بالعربية (ولم أرَ لها شبيهاً في سائر الصحف العالمية، ولا حتى تلميحاً)، يهدف حقاً إلى لفت الانتباه فحسب، أي أنه تكتيك إعلامي يضمن لصاحبه نسبة قراءة وتداول… مما لا يبرر الأمر على أية حال، أم إنه يكشف عن عقلية تستسهل استخدام الصيغة الفضائحية حين تتناول النساء، فيصبح مهمّاً معرفة أسرار المرأة الحميمة، علاوة على (بل قبل) مساهماتها في الحقل العام، سواء كانت تلك المساهمات سـياسـية أو فكريـة أو فـنية أو عـلمـية… ويـروح يرتـبط الدور في الحقل العام بالـضـرورة برجل ما، ومن الأفـضل أن يكـون عشيقاً لتكتمل الإثارة.

وسرعان ما ينزلق أصحاب هذه الرؤية إلى محو حتى تلك الحصة الضئيلة من فعل المرأة هي نفسها، فتصبح سكينة كانسيز في النص قد «عُينت» أو «اختيرت» عضواً مؤسساً في حزب العمال الكردستاني (لأنها «مسؤولة التنظيم النسائي فيه»، ولكن هذا تفصيل نافل!). وهو ما يعني أن صفتها القيادية أو التأسيسية تلك منحةٌ أعطاها إياها الرجال، وبالتحديد رجل كانت هي عشيقته.

… أم هو عشيقها أيها السادة؟ وكاستطراد يستحق موضوعاً بذاته، ليست الصيغة المستخدمة بريئة، وليس الأمران صنوين: هي عشيقته أم هو عشيقها. واللغة فاضحة هنا، كما هي عادة، فلاختيار نسبة الأمر دلالة عامة، تعيِّن صاحب القرار أو الفعل، والآخر المستتْبَع، أي مجدداً تشير إلى ترتيب وتوزيع «الأماكن» في الفضاء العام.

في جنازة النساء الثلاث في اسطنبول، خرج أكثر من مليون مشيع، تحية لهن. وكان ذلك أيضاً وبالتأكيد استعراض قوة، يتجاوز حتى حزب العمال الكردستاني إلى مكانة الأكراد في الحياة العامة.

وشارك في المسيرة عشرات الألوف من غير الأكراد، الذين سئموا استمرار هذا الصراع المكلف (بشرياً: 45 ألف ضحية في العقود الثلاثة الماضـــية في تركيا وحدها)، والمعطِّل (اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً إلخ…)، والذين يناهضون مفهوماً قسرياً أو إقصائياً للاندماج الوطني، لا يمكنه إلا أن يكون بالغ القمعية والقسوة، وهو فوق ذلك فاشل، لا يحقق غايته. تلك هي الأسئلة التي يثيرها مجدداً حدث الاغتيال، وأسراره بالتأكيد مرتبطة بها، لا سيما وأنه وقـــع فيما يتفاوض أوجلان (هي عشيقته!) مع أردوغان… وإن كان من إثارة ما، فهي تتعلق بمعـــرفة مواقف سـكينة كانـسيز من النقاش الدائــــر حول هذه الأمور، ودورها الذي استحق أن تُقتل من أجله، أو ما خـطط لقـطفه من ثمار نتيجة اغتيالها، وليس أي شيء آخر، يمثل الخوض فيه عيباً لـصـاحبه، وقـصوراً منه عن فـهم ما يـجري حوله!

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى