صفحات الرأي

في بعض الخلاصات الإيديولوجية للانتفاضات العربية الراهنة

 


كرم الحلو *

يتبين المراقب في خلفيات الانتفاضات العربية أن ثمة خلاصات مركزية يمكن استنتاجها من حراك الشعوب العربية الراهن. من هذه الخلاصات:

أ – استعادة الخطاب التأسيسي لليبرالية العربية بتأكيد أولوية الحرية التي كان الليبراليون النهضويون الأوائل قد أرسوها قاعدةً وشرطاً للنهضة السياسية والاجتماعية. هذه الأولوية كان قد تم تجاوزها أو تأجيلها تحت ذرائع شتى قومية أو وطنية أو اشتراكية. طرح القوميون العرب شعار الوحدة العربية أولاً، أو تحرير فلسطين أولاً، لأن لا حرية حقيقية في رأيهم قبل الوحدة أو تحت الاحتلال. وطرح الاشتراكيون العرب شعار الاشتراكية أولاً لأن لا حرية عندهم في ظل التفاوت الطبقي وقبل إلغاء الطبقية. وطرح الوطنيون شعار الوطن أولاً لأن لا حرية قبل تحقيق الوحدة الوطنية العابرة للانقسامات الأهلية والطائفية. وعلى هذا النحو كانت الحرية دائماً هي المؤجلة والمضحّى بها لمصلحة غايات أو أهداف «عليا» تتجاوزها وتعلوها.

على عكس هؤلاء، جاء الخطاب السياسي للانتفاضات العربية الراهنة ليؤكد الحرية وحقوق الانسان الطبيعية من جديد: حرية الرأي والتظاهر والرقابة على السلطة وتقييدها ومساءلتها، العدالة الاجــتماعيـــة والاقــتـصــادية، المســـــــاواة المواطنية والقانونية والأمن، حق الاقتراع الديموقراطي وتداول السلطة. وهكذا غابت عن الانتفاضات الراهنة كل شعارات المرحلة الايديولوجية الآفلة، القومية أو الاشتراكية، ليطغى شعار الحرية وحقوق الانسان الطبيعية ويتقدم على ما عداهما، بوصفهما مناط قيمة الانسان ومعناه وجوهر وجوده في الكون والمجتمع والتاريخ.

ب – إعادة الاعتبار الى مقولة الجماهير التي طالما ازدُري بها لمصلحة مقولات «القائد» أو «الحزب» أو «المثقف». تقدمت مقولة القائد حيث بدت الجماهير إطاراً باهتاً في مشهد يكتسحه بالكامل فرد أُسبغت عليه كل هالات القداسة والحكمة والجبروت وكأنما الأمة اختصرت كلها في شخصه التاريخي «الفريد».

وتقدمت مقولة «المثقف» فاعتبر عقل الأمة وروحها، وأُلقيت عليه كل مهام التقدم والنهوض بالمجتمع المدني والتحول الديموقراطي، والقضاء على التخلف والجهل والتعصب. وتقدمت مقولة «الحزب» بوصفه طليعة النضال الوطني والقومي وحامل الأمانة التاريخية في الوحدة والتحرير والارتقاء بالشعب والأمة، في مقابل جماهير قاصرة بحاجة على الدوام الى من يرشدها ويوجّه إيقاعها. وهكذا، في كل الحالات، غُيِّبت الجماهير كأن لا دور لها في حركة التاريخ سوى طاعة القادة «الملهمين» أو الاصغاء الى نبض المثقفين والدأب وراء ما يطرحونه من شعارات، أو الاضطلاع بما يكلفهم به الحزب من مهمات «جليلة».

على الضد من هذه التصورات التي هيمنت في كل الحقبة الايديولوجية الآفلة، جاءت الانتفاضات العربية لتعيد الى الجماهير موقعها الأساسي المركزي في حركة التاريخ. عادت هي صانعة الحاضر والمستقبل، وصاحبة القرار الفصل، والوجه الناتئ في المشهد السياسي، وبات القائد أو المثقف أو الحزب هو «التابع»، ومن عليه أن يصغي الى نبض الجماهير ويلتمس منها المشروعية. صارت هي في المقدمة وبات كل أولئك يصطفون وراءها، يرصدون توجهاتها وتطلعاتها، يبغون ودّها ورضاها، جازعين من مساءلتها ومحاسبتها.

ج – ازدواجية الدولة العربية وتناقضها وتهافت شرعيتها، هي دولة تسلطية ضارية مدججة بالقوى الأمنية والمخابراتية، تقبض على كل مفاصل المجتمع وتصادر قراره وتتوغّل في صميم تكويناته الأهلية والسياسية والاجتماعية، وهي في آن دولة خاوية خائرة تراقب مذعورة حراك مجتمعها جازعة إزاء أي تحول ديموقراطي قد يفلت من سيطرتها ويتجاوز توقّعاتها. وقد وضعت الانتفاضات الراهنة هذه الدولة وجهاً لوجه أمام مأزق تناقضها فلم يعد في إمكانها الاستمرار في ازدواجيتها وتغطية لا شرعيتها بالقوة السافرة، وباتت مجبرة على التماس الشرعية الشعبية المفتقدة، من خلال عقد جديد مع المجتمع غير قائم على القسر والاكراه.

د – التنبّه المفاجئ الى الخلل في التعامل العربي مع الزمن. اكتشف الحكام العرب فجأة أن لكل حكم أجلاً محدوداً، وأنهم لا يمكن أن يستمروا الى ما لا نهاية، وأن سنّة التطور والتحول لا بد من أن تكتسح في طريقها كل ما عدّ ثابتاً عصياً على السقوط والانقلاب. أدركوا متأخرين أن حال الطوارئ لا يمكن أن تبقى عقوداً وأن الحكام لا يمكن أن يظلوا قابعين على كراسيهم لا يبرحونها إلا لأولادهم على رغم كل ما جرى ويجرى في هذا العالم من تغيرات ثورية عاصفة. أدركوا متأخرين أن السلطة تداول وهي الى زوال، وأنها عقد بين حكّام وبين مواطنين لهم حقوق وإرادات، وأنها لا بد من أن تقيّد بقوانين من صنع هؤلاء. أدركوا كل ذلك، لكن متأخرين، حتى هبّت ملايين شعوبهم منذرة بجفاء أنظمتهم مع منطق التاريخ، فسارعوا الى تقديم التنازل تلو التنازل، ولكن بعد فوات الأوان.

هـ – استدعاء الدولة العربية المتجدد للخطر الأصولي في محاولة لإطالة أمدها بتخيير الشعوب بين تسلطيتها وتسلطية الأصولية المحيقة بالمجتمعات العربية. إلا أن ثمة تماثلاً وتلازماً بين التسلطين، إن في الخطاب الايديولوجي الأحادي الإقصائي الرافض للآخر، أو في آلية التعامل مع المجتمع والناس، وطالما خرج الارهاب الأصولي من رحم التسلطية وجاء رداً على ارهاب الدولة بالتعامل معها بسلاحها نفسه. لكن مبادرة بعض الأنظمة العربية الى اصلاحات ديموقراطية تشي بأن الدولة العربية قد بدأت تدرك فعلاً أن التسلطية لا تنجب إلا التسلطية، وأن لا سبيل الى مواجهة الأصولية إلا بالديموقراطية وليس بالمزيد من التسلط والديكتاتورية.

* كاتب لبناني

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى