صفحات سورية

في تمايز جماعة “داعش”/ فايز سارة

 لا تشبه دولة العراق وبلاد الشام الإسلامية “داعش” أي تشكيل مسلّح في سوريا، وهذا التفرّد لا يظهر في الشكل كما في لباس أفرادها وشعاراتها فحسب، بل في المضمون والأفكار والعلاقات، وهو أمر واقع في الممارسات، سواء كانت ممارسات على صعيد العمل المسلح، أم على الصعيدين السياسي والشعبي.

لقد بدت ولادة جماعة “داعش” أول ملامح التفرّد من خلال علاقاتها مع جبهة النصرة لأهل الشام، والتي كانت سبّاقة للظهور مع بداية عام 2012، وعبرها أفسح في المجال لكوادر “داعش” بالتسلّل إلى قلب النصرة التي أعلنت كياناً يمثل امتداد القاعدة، وهو أمر لم يمنع “داعش” من الخروج منها، والإعلان عن أنها أخت القاعدة وذراعها في سوريا، مما خلق التباساً في مرجعية “داعش” وعلاقتها مع تنظيم القاعدة الأم الذي يقوده الظواهري، وقد أكدّت تصريحات البغدادي أمير “داعش” هذه الإشكالية وبالتالي غموض العلاقة مع القاعدة.

والعلاقة مع القاعدة، لا تعني الروابط التنظيمية، رغم أن للأخيرة ملامح وسمات في علاقة القاعدة مع أخواتها وتوابعها في البلدان المختلفة، وإنما تشمل الروابط الفكرية، مما يعني، أن التباس العلاقة بين القاعدة و”داعش” يشمل الجوانب الفكرية، وهو ما يحتاج إلى حيّز يتجاوز الإشارة، وتعبيره حاضر في الفارق بين ما تتبنّاه النصرة و”داعش” في موضوع الدولة الإسلامية.

و”داعش” في علاقاتها الخارجية، تبدو مختلفة عن غيرها. إذ هي على علاقات تناحرية وصراعية مع محيطها. وهذا لا يشمل التنظيمات والتشكيلات غير الإسلامية السياسية والعسكرية، وهو أمر مفهوم. بل هي على تناقض وتناحر مع جماعات وتنظيمات تتبنّى الفكر الإسلامي أو تنطلق منه، مما يجعل العالم بالنسبة للجماعة مقسوماً إلى شقين هما: الجماعة والآخرين، وكل الآخرين أعداء وخصوم على سويات متعددة بالنسبة لها، وبالتالي فإن حرب الجماعة ضد الآخرين قائمة، وهي مطلوبة بصورة  عاجلة في أغلب الأحيان.

ولأن ممارسة الحرب ضدّ الآخرين صفة أساسية من صفات الجماعة، فإن توفير إمكانات مادية ضرورة من ضرورات وجود “داعش” واستمرارها، وهذا ما يفسّر الإمكانيات الكبيرة التي تملكها، وفيها أموال وأسلحة وذخائر وتجهيزات وخطوط إمداد، تفوق وفق ما هو معروف عنها قدرات التنظيمات الأخرى بما فيها جبهة النصرة.

وإذ تأكد وصف ممارسات “داعش” بالتشدّد والتطرّف منذ البداية، وهي سمة عامة لأغلب التشكيلات المسلّحة والمتطرفة. لكن ما يميزها في الممارسة هو دمج أساليب اللين والضغط والاحتيال مع الاستخدام المفرط للقوة والعنف باعتبارها طرقاً متعددة لتحقيق هدف إخضاع وإجبار الآخر وللاستيلاء على قدراته وإمكانياته وتدميرها سواء كان فرداً أو جماعة، وهذا ينطبق على العلاقة مع المسلّحين والمدنيين في آن معاً.

وكان من الطبيعي في إطار تشدّد وتطرّف “داعش”، أن ترسم قيادتها خط عملياتها ضد الآخرين. فتوجّه قواتها وبنادقها ضد مدن وقرى اشتهرت بوجود حراك مدني سعياً للسيطرة عليها، وإحكام القبضة على الناشطين فيها من السياسيين والإعلاميين والإغاثيين وتعريضهم للقتل أو الاعتقال والتهجير، وشن عمليات ضد تشكيلات تتبع الجيش الحرّ، وتنظيمات أخرى وقتل قياداتها وإخضاعها والسعي للسيطرة على المناطق وحصر السلاح والمسلحين بالجماعة.

لقد جعلت تلك الملامح المميزة للجماعة في نهجها وعلاقاتها وسياساتها وممارساتها منها قوة تخدم نظام الأسد من الناحيتين السياسية والعملياتية في آن معاً. فهي من الناحية السياسية منعت استقرار تلك المناطق وصادرت فرصة تحسين أوضاعها، وأشاعت الحرب والدمار والفوضى في المناطق الخارجية عن سيطرة النظام، ودفعت إلى تراجع المشروع الوطني للثورة من أجل نظام ديمقراطي لصالح مشروع دولة إسلامية استبدادية قريب من نموذج القاعدة، يرث نظام الاستبداد البعثي. ومن الناحية العملياتية، قدمت “داعش” خدمة كبرى للنظام في إنهاك واستنزاف قوى القوى الشعبية والمدنية وتدمير طاقاتها وكذلك التشكيلات المسلحة ومنها الجيش الحر في ملاحقات ومعارك وحروب داخلية، دون أن تتقدم الجماعة لخوض معارك جدية مع قوات النظام على خطوط تماس تلك المناطق.

ولا يمكن النظر إلى خدمات الجماعة للنظام بمعزل عن الظروف المحيطة بها وبالقضية السورية وخاصة في أمور منها دور عراقي مدعوم من طهران في إطلاق مئات من عناصر القاعدة في السجون العراقية ودفعهم للتسلّل إلى سوريا، والقيام بتسريب أسلحة وذخائر لصالحهم عبر الحدود العراقية السورية، إضافة إلى دور للمخابرات الروسية في تمرير كثير من متطرفي الشيشان إلى سوريا، والأهم من كل ما سبق علاقات معروفة لأجهزة الاستخبارات السورية مع متطرفين إسلاميين لعبوا دوراً مؤثراً في تنظيمات مسلحة بينها “داعش”.

إن تمايزات “داعش” عن غيرها من التشكيلات المسلحة في سوريا، وتمايزها الجزئي عن جبهة النصرة، جعلتها في دائرة رفض سوري في المستويات الشعبية والسياسية والعسكرية، مما يفسّر سرّ الاتحاد ضدها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وهو ما تمّ التعبير عنه في حراك مدني و تظاهرات ضدها، ووقوف الجماعات السياسية في مواجهتها، وتشارك قوى وتشكيلات عسكرية ضدها في أكبر معركة داخلية تشهدها المنطقة، وهذه قد تكون آخر تمايزات “داعش” السورية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى