صفحات الثقافة

في حاضر الثورات العربية


عناية جابر

 لعلني بالغت في ترك روحي تغتبط، بما ساقهُ بعض الشباب العربي، المصري والسوري واليمني والليبي، والتونسي بالطبع، قبل الجميع، من حراك ثوري، معتقدة أنني تحررّت ربما، من جميع معوقات ما يُمتّعنا بنعمة امكانية حرية لا محدودة، هادئة ومتألقة. أسلمتُ حواسي كلها لإحتمال تغيير ما في مجتمعاتنا وأنظمتنا المتخلفة، بتنهدة ارتياح منتشية، واستسلمت لشعاعات الثورات الباسمة.

هكذا أنا، ساذجة ويسهل خداعي، ويسكنني هذا التوق الذي لا يبارى للإنعتاق من إرهاصات الوضع العربي. الآن، كما لو تحت وطأة خديعة كبرى، وتتملكني ألوف الشكوك والمخاوف الظرفية، منها الانسلاخ الحاسم عن مبتدأ وبراءة تلك الثورات، التي يُعمل على اجهاضها، سواء في اليمن أو مصر وسواها، كما لو كان قيامها مجرد مصادفات بسطت يدها، ثم استعادتها حاذفة بركة تلك الشعلة التي عادت وأغلقت على نفسها في لحظة بربرية، احتشد لها بضراوة كل أعداء الثورات وأعداء الحرية.

بقيت الثورات حساً غامضاً يرافقه ظل بأنها ليست إلا نصفاً من شيء. نصفٌ من شيء

جميل بقي، وثمة ما هو ناقص لحفظ التوازن، وتتقدم خطوة الى الأمام وخطوة الى الوراء مثلما يفعل بهلوان سائر على حبل، يحاذر التأرجح والسقوط.

هناك هذا الجدار الذي إنتصب مع الوقت، ويرخي ظلال عتمة ما بين بدايات الثورات وحاضرها. وهي كما نتابعها، كما لو دودة الخشب تستطيع الاستدارة الى الأمام كما تشاء، بل وحتى تعرف تكتيك الاستدارة الى الخلف، ولكنها تترك وراءها مساحة فارغة دائماً، سرعان ما يحتّلها أعداؤها. يسكنني الآن هذا الشعور بالمساحة العمياء المقطوعة وراء إمتلاء كل شيء، في هذا النصف الذي يظل ناقصاً دائماً، حتى عندما يكون الهدف واضحاً والنوايا الطيبة كُّلاً واحداً .

اننا جميعاً نهجس بالشكوك بالطبع، حين نفكر ونحدس ونشعر بأشكال مختلفة من البدائل عن قهر الأنظمة الاستبدادية. بدائل عن أيّ قهر. شكوك تتجلى عند الشباب الثائر كشعور واضح بعدم التأكد. شكوك في ما إذا كان ما نفعله صحيحاً.

رغم فداحة كمّ الشهداء الذين سقطوا، والأحياء / الأموات الذين سجنوا، والذين شوّهوا وتهجروا أو اختفوا، نرى كم هو قليل( بسبب شكوكنا) ما أنجزنا، مما كنا نحلم بانجازه في الحقيقة. وما بين ذلك نجد العزاء بأننا قد بدأنا على الأقل، ورمينا بذرة ما في أرض خصبة، وهي لابدّ نشطة وطيّبة، بحيث ان ما فعلناه، ولو بدا قليلاً، يظل يمثّل تسوية عادلة، وفي النهاية نفكر بأن المزيد من الاصرار والبذل والصبر، هي الأمل الخالص، ومن خلالها ينمو في الواقع، النصف الثاني من الأمر الكامل والجميل.

لست متشائمة، لكنني قلقة من اصطدام قوى الثورة الروحية، بتلك الثأرية الكيدية التي يدّخرها الشر. اصطدمت قوى الثورة بتيارات سوداء، باهتزازات بركانية متموجة قادرة. قوى ملعونة تفوق بشكل هائل قوى الشباب الطاهرة، نسيبة النجوم، واندفعت من كل منهما باتجاه الأخرى، عواصف لا تقاس سرعتها.

كان البوعزيزي أوّل من هزّ القوة السحرية. فالبقاء الطويل من دون اشتعال كان من وجهة نظره، صعبا وغير ممكن. اختار البوعزيزي أن يرتفع في حريق مُقبض، لكن ممتلىء المحتوى ونبيّا، بدل ان يمكث في قهره المحرق، ينّز عاراً وبهتاناً، منصرفاً الى عبادة هيكل ثابت من فكرة ممسوخة.

صحيح أن وسيلة البوعزيزي حمراء مفجعة، لكنها أحيت أرواحا مليونية، وكانت الجسر الى العالم الذي أراده البوعزيزي، وذهب اليه بأخلاقياته وفلسفته الانسانية البسيطة.

على شباب الثورة هنا وهناك، الكثير بعد، من المهام المحيرة، والمصارعات الصعبة الهائلة، واهمها عدم التراخي في مقاومة العالم الفاسد الذي سوف يصعب كسره. وعلى الأرواح المقهورة أن تجد وطنها الحقيقي، ان تصنعهُ وتنّقيه. أجل الأمر لا يبدو سهلاً ، لكنه يستغيث لأجل أرواح الشهداء، للدخول في حيز التنفيذ، لمّا ينبغي اكمالهُ أو بلورته بفكرة جامعة تواعد الشعوب المتلهفة الى الحرية على الفهم الواضح عبر طبيعة الفكرة المتعددة الدلالات، لكن العنيدة والماضية الى خواتيمها المشرفة.

اننا نعيش رغم الصعاب في زمن عظيم، مادام الزمن عامراً بالأفكار العظيمة، وكل الشروط متوفرة لنهاية سعيدة ما خلا حتى اللحظة، معرفة أيّ من هذه الأفكار هي الأعظم، بمعنى الوضوح والفهّم سواء بالنسبة لمصر أو للبنان، أو لليمن وتونس وسواها.

الشعوب المنتفضة، الثائرة تتوفر وبكثرة على الشجاعة الروحية، ولديها عزيمتها الكبيرة، واكبر مما حسبناه او توقعناه، ولكنه الحذر عليه ان يكون كافياً ومنتبهاً، وعلى الحسابات العقلية أن تكون في أوّج تألقها.

لم يعد يسعنا العودة الى الوراء، وشعار الحرية يختزن كل الأماني، رغم الفوضى، ومحاولات التضليل والخداع و’ البلف’ لأطول فترة ممكنة. فقط اتاحة الفرصة لتوازن ضروري بين الثائرين على تنوّع هتافاتهم وشعاراتهم ما يحول دون هيمنة فئة على أخرى، الأمر الذي لا يقّل سوءاً عمّا انتفضنا من أجله . ليكن الاصغاء الى الآخر، الدنيوي والسماوي والمحتار بين المنزلتين، لكن الهدف ذاته في نوعية حياة لا تشبه حياتنا العربية القديمة، الكئيبة والبائسة في شيء.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى