خلود الزغيرصفحات مميزة

في خصوصية الثورة السورية..’إشكاليّة المثقف ودخوله السلطة السياسية’


خلود الزغير

يبدو أن العبارة التوصيفــــية الأكثر واقعــــية، لحد ما، التي خرجت من فم النـــظام حتى الآن هــــي: ‘سورية ليست تونس وليست مصر ولا ليبيا ولا اليمن..’ وإن قصـــد النــــظام بكلمة (سورية) شخص الرئيس الذي لا يتنحى ولا يسقط.

كثيرةٌ هي ملامح التباين ويبدو أجلّها في ثلاث صور: أوّلها صورة النظام الذي تفوّق ليس فقط على الأنظمة العربية الساقطة والمتنحية، بل على معظم الأنظمة الديكتاتورية البائدة في تاريخ العالم. بتجاوز العتبة المعقولة للقمع والتعذيب والترهيب، عبر سياسة ترسيخ السلطة الأمنية والسلطة الأيديولوجية في جميع بنى التنشئة العامة للأفراد في المجتمع، من الأسرة مروراً بالمدرسة والجامعة والعمل إلى نوادي الترفيه. نظام لا يرى شعبه حتى كعبيد بل لا يراهم أصلاً. وضع جيشه ‘الوطني’ بحالة حرب مع الشعب، بعد أن أخضع هذا الجيش لسلطة الأيديولوجية أربعين عاماً، فأصبح جزءاً منه يقاتل ليحمي أوهام النظام وكأنه مغيّب عن الواقع وخاضع للإعلام العبوي، وجزءاً آخر يواجه الموت حين يتلمس الحقيقة الأخرى. لذلك لا نستطيع مقارنته حتى بالقذافي الذي اشترى مرتزقة من الخارج لقتل شعبه بينما الأسد لديه فائض يصدره لليبيا واليمن. نظام كل العالم يكرهه ولكن بنفس الوقت يتواطأ معه ويخشى زواله، من أقرب الأصدقاء والأشقاء والحلفاء إلى أشد الأعداء والطامعين.

ثاني صورة لهذا التباين عن ربيع الثورات العربية هي صورة شعب بصمود أسطوري متفرد، يواجه الدبابة والمدفع والتعذيب الوحشي حتى الموت منذ مايقارب التسعة أشهر وينزل للشارع بإصرار أكبر ليطالب بالحرية والكرامة، رغم تخلي العالم عنه بمن فيه أخوته السوريين وقتلهم له. شعبٌ يقدم صورة جديدة للتضحية في سبيل الحرية على شاشات التلفزة: أناسٌ يشيعون شهداءهم كل يوم بالعشرات، ثم يعودون للساحات ليحتفلوا بهم ويقيموا لهم أعراساً وطنية، شبابٌ يقابل تُهم التخوين والتآمر والعمالة بالنكتة والسخرية والأغنية.

الصورة الثالثة المفارقة هي صورة المعارضــــة التي قدمت ملمحاً واضح الإختلاف عما رأيناه من تشكـــيلات وحركات معارضة للأنظمة العربية الساقطة والمتنحيـــة. حيث أنّ التنوع، الغنى، التشابك والإختلاف الذي ظهــــر في المؤتمرات العـــديدة التي تميّزت بها الثورة السورية ثم توحدها، غير المكتمل تماماً، في المجلس الوطني السوري يترك أسئلة عديدة لدى العرب والغرب عن كثافة البنية السياسية للمجتمع السوري.

التميّز الآخر للمعارضة السورية بعد تكتلها والذي لم تعرفه المعارضات العربية أو المجالس التي قادت الثورة في الدول العربية الثائرة على أنظمتها الديكتاتورية تتعلق بقيادة مرحلة التغيير أو الثورة.

ففي الوقت الذي اختارت المعارضة والشعب في الدول العربية الثائرة قادة للمراحل أو المجالس الإنتقالية من النخب العسكرية أو السياسية أو الدينية. نجد أن المؤتمرات المتعددة للمعارضة السورية والشعب على اختلاف شرائحه يدفع بإتجاه اختيار مجلس وطني برئاسة مثقف ومفكر أكاديمي يحمل فكرا علمانيا ليس بالمعنى الإلحادي للكلمة ولكن بالمعنى التسامحي ‘ tol’rance’ أي تقبل الآخر أيّاً كان فكره وعقيدته واحترامه، وهو أساس مجتمع المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية والحرية الفكرية.

لذلك أسئلة مشروعة نطرحها على أنفسنا كسوريين: هل نحن محظوظون بوجود مثقف ومفكر من هذا النوع برئاسة المجلس في هذه المرحلة الحرجة بدلاً من وجود رجل السياسة أو رجل الدين أو العسكري؟ خاصة في مجتمع غني سياسياً واجتماعياً ومعتقديّاً كسورية.

وإلى أي درجة يبقى المثقف، بجزئه الثقافي-الإنساني الحر والنقدي، هو هو بعد دخوله المؤسسة السياسية ومناوراتها وصفقاتها وتنازلاتها ودبلوماسيتها المطلوبة؟

نعرف أن أي تشكيل سياسي يتكون من مجموعة قواعد ومعايير تتمحور حول هدف، هذا الهدف يلبي حاجات المنتسبين إليه، هؤلاء الذين تجمعهم مصالح وأغراض مشتركة. إنّ أي تشكيل أو مؤسسة سياسية تمارس نوع من المراقبة والتقييد على أعضائها حفاظاً على مصلحة وسلامة المؤسسة وديمومتها. كذلك نجاح أي هيكليلة سياسية يتوقف على شبكة العلاقات الناجحة فيها وبالتالي على قدرة أفرادها على المجاملة والحياد والدبلوماسية والزيف. كما أن علاقات البنى السياسية والتشبيك السياسي بين التكتلات السياسية أو الدول أو الشخصيات هو تفاوض مصلحي بالدرجة الأولى. وهذه حقيقة عالم السياسة وألف بائها دون تجميل.

بينما تتشكل عوالم المثقف الحر في أجواء مختلفة، حيث يمارس نقده الموضوعي غير المنحاز ودوره المعرفي الثقافي متحرّراً من قيد الأيديولوجيات أو الأطر الهوياتية الضيّقة بنزعة إنسانية. متصالحاً مع رفضه للمساومة مخلصاً لحريته وموقفه أولاً وقبل كل المؤسسات.

لن نذهب بعيداً برومانسيتنا، نحن السوريون، لنطمح ببناء جمهورية أفلاطون في الجمهورية السورية القادمة وبأن يكون حُكّامنا هم نخبة الفلاسفة، لكن أحداً لا يستطيع الإلتفاف على السؤال التاريخي حول سلطة المثقف وسلطة السياسي في المجتمع وأتذكر هنا المقاربة المدهشة التي يجريها الروائي الفيلسوف (ميلان كونديرا) بين شخصية السياسي متمثلة بنابيلون وشخصية الفنان/المثقف متمــــثلة بيتهوفن حين يطرح فكرة الخلود الذي يخلّفه كلّ من السياسي والمثقف وراءه، ليبدو من مقارنته أن التاريخ يمجد ويمنح خلوداً أعظم للسياسي من المثقف/الفنان، مما يجعل السلطة السياسية ونجوميتها محطّ إغراءٍ قد لا يقاوم أحياناً. بنفس الرواية يجري كونديرا لقاءاً وحواراً متخـــــيّلاً بين غوته وهمنغواي في العالم الآخر يبدي فيه غوته ندماً على خياره نمط حــــياته بالإنحياز للثقافة والحياة العاقلة والإبتعاد عن مغامــرة الحــياة والسياسة التي خاضها همنغواي وشَهَرته أكثر بكثير من إنتاجه الثقافي.

لطالما كانت إشكالية المثقف والسلطة ســـؤالاً فلسفيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً، حيث اعتدنا الجدل في علاقة المثقف بالسلطة السياسية كوجودين مختلفيــــن. من حيث دوره كناقد ومعارض وموجّه لإنحرافات السياسي، وكمدافع عن المصلحة المعرفية والثقافـــية والأخلاقـــية-الإنسانية في مقابل المصلحة السياسية والحزبية والأيديولوجية. كما تمّ الخوض في إشكالية سلطة المثقف نفسه في الحقل الثقافي، تلك السلطة التي سبق وطرحها (بيير بورديو). أي كيف يحتكر بعض المثقفين عبر رأسمالهم الرمــــزي/الثــــقافي الحقل الثقافي ويمارسون سلطتهم فيه كرأسماليين ثقافيين. لكننا هنا ننظر في إشكالية المثقف حين يصبح داخل السلطة السياسية عينها.

فالمثقف الذي يُعرّف عبر خطابه الثقافي/الفكري، بحيث يكون هو خطابه وخطابه هو، ترى ماذا سيطرأ على هذا الخطاب بعد خروج المثقف من الحقل الثقافي وانخراطه بالحقل السياسي؟ سؤال يجعل المهتمين بدراسة وتحليل الخطابات يصغون بكل ترقب اليوم لهذا الخطاب ليتحسسوا مستوى ارتفاع أو انخفاض نبضه، ما احتفظ به من فردانيته وما طغى عليه من جمعية المؤسسة السياسية وأهم من كل هذا مدى استمرار شعاع الروح النقدية الكاشفة أو ميله نحو ضبابية المراوغة السياسية ولغتها الدبلوماسية الناعمة منها والخشنة حرصاً على المصالح، أيضاً كم احتفظ هذا الخطاب بخصوصية المفكر وحسّهِ وما طغى عليه من مادية السياسة وواقعيتها.

يعتقد البعض أن دخول المثقف ضمــــــن تشكيل سياسي ما سيُخفض سقف الحرية الخاص للمثقف ليـــــأتلف مع الرأي الجمعي للتشكيل السياسي، وأن أي انحرف لهذا التشكيل السياسي بقراره عن قناعة المثقف الخاصة ستضطــــره للدفـــاع عنه لمصلحة وحدة وديمومة المؤسسة السياسية لا انتقاده.

بينما يراهن آخرون على الحيّز الثقافي-الإنساني في المثقف بأنه المعادل الأخلاقي للكفّة السياسة في أي تشكيل سياسي بمطامعها ومصالحها مهما كانت نسبتها. وقد عرف التاريخ العربي الحديث بعض الأمثلة القليلة لهكذا حالات يبدو أبرزها (خيرالدين التونسي) المصلح السياسي والاجتماعي الذي تسلم مناصب سياسية عليا في تونس وتركيا عمل من خلالها على إحداث تغييرات فعلية في المجتمع والدولة واستقال من هذه المناصب في المرات الثلاث بسبب حريته في تفكيره واستقامته التي جعلت الأعداء حوله كُثر.

ربما يكون الشعب السوري والمعارضة السورية بخطوتها هذه سبّاقة في ظاهرة إتاحة المجال للمثقف أن يصل لمكان صنع القرار السياسي ويقود مرحلة الثورة بالعالم العربي بعد انطلاق ربيعه، وهذا أمر مهم، خاصة حين يكون هذا المثقف من أول المنظرين العرب للديمقراطية وحقوق الإنسان والدعوة للثقة بالشعب حين كان معظم المثقفين ينظرون له كرعاع. وقد يعطي هذا بعض الأمل بوجه حضاري لسورية المستقبل. وربما تكون هذه الخطوة ردة فعل على أكثر من أربعين عاماً من حكم العسكر الذين احتلوا الحقل الثقافي والسياسي بشعارات البعث المفرغة من مضمونها وثقافة الولاء للقائد الخالد. وقد يكون وجود المثقف الآن صمام أمان للتنوع السياسي، الاجتماعي والثقافي المتخوف من بديل عسكري آخر أو بديل سياسي طامع ذو أيديولوجية ترضي طرف وتثير خوف أطراف، أو بديل ديني لاإمكانية لتثبيت سلطته في بلد متنوع دينياً إلاّ بالإستبداد. هنا يكون خيار المثقف العلماني، بالمعنى الذي أشرنا إليه، يأتي كحل لواقع موجود. بنفس الوقت نستطيع النظر للموضوع من جانب أنه خيار وليس حلا، خيار لشعب يقوم بثورة شاملة على نظام مجوّف ومتآكل لذلك فإن الثورة هنا ليست فقط سياسية واقتصاديّة بل اجتماعية وثقافية وأخلاقية، وهو ما أثبتته مسيرة وشعارات الثورة السورية طوال الأشهر السابقة. بحيث لا يكون غريباً على ثورة الحرية والكرامة أن تدعو مفكراً كي يدعمها. وكي يشارك مع باقي النخب في إعادة بناء المؤسسات السياسة والثقافية والتعليمية والأخلاقية- الإنسانية البائسة في سورية اليوم.

لكن كل هذا لا يمنع بقاء الإشكالية الأساسية للمثقف ودخوله السلطة السياسية، من حيث خياره بين البقاء في معارضة السلطة و المعارضة وتوجيههما بالنقد الحر والبنّاء لكن من خارج أي تكوين سياسي رغبةً بعدم التقيد بجدران أي تكتّل قد يضطره بلحظةٍ ما للدفاع عن أخطاء أعضائه أو الترويج له أو تحمل نتائج فشله بإنقاذ البلد.

وبين الإنخراط الجريء بصناعة القرار السياسي للدولة القادمة فعلياً من خلال الوجود بمركز القرار وأرض الحدث والوقوف على تفاصيله من الداخل لتوجيهه قدر المستطاع ونقده وجهاً لوجه، أو الموافقة عليه ربما، معتبراً هذا واجبا وطنيا مرحليا.

‘ باحثة في جامعة السوربون الجديدة باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى