صفحات العالم

البعث خارج الدستور والقوميون خارج المشهد العربي


سليمان تقي الدين

أُسدل الستار رسمياً على نصف قرن من حكم حزب البعث العربي الاشتراكي لسوريا. آخر حزب قومي في العالم العربي يعلن خروجه من السلطة بعد الناصرية في مصر، وجبهات التحرر في الجزائر واليمن، وبعد ليبيا والبعث في العراق. في كل هذه التجارب لم تكن المؤسسات الحزبية هي الجهة المقررة في السلطة.

النخبة العسكرية هي التي صادرت القرار السياسي ولو كان ذلك بشرعية مستمدة من المؤسسات الحزبية والشعبية. كوّنت هذه النخب أنظمة تعكس صورة الفريق الحاكم وجعلت من الأحزاب واجهة وغذّتها بامتيازات السلطة. انتهت التجربة «القومية» وينتهي معها فكرها وأحزابها وسلطتها.

ما تتم تصفيته في العالم العربي الآن هو الإرث القومي، السياسي والفكري والتنظيمي. أخلت العروبة بمكوّناتها الحزبية ومعانيها العلمانية التقدمية الوحدوية مكانها لمشروع الإسلام السياسي بمكوّناته التقليدية والسلطوية والتصالحية مع موازين القوى الإقليمية والدولية.

فشل القوميون العرب بكل تياراتهم في مهمة بناء الدولة. وفشلوا من قبل في بناء الحزب السياسي الحديث. في جميع أحوالهم قدّموا السلطة لحاكم فرد أحاط نفسه بفريق يعطيه الولاء ويستمد منه القوة لإدارة المجتمع. هذه الشخصانية التي اتخذت طابعاً شعبوياً وهي تشكّل جمهورها السياسي على أنقاض النظام السابق، تحوّلت إلى تملكية أشد وطأة من الملكية حين استنفدت قدرتها على استعطاف الجمهور ببعض المكتسبات الاجتماعية أو بشحن العواطف القومية. ظلت الدولة السورية تنتسب بدستورها إلى العروبة الوحدوية والاشتراكية، بينما كانت السلطة تتراجع واقعياً إلى حدود المصالح الضيقة التي فرضها التطور الإقليمي والاقتصادي الاجتماعي الجديد الذي تبلور في رعايتها.

انضمت السلطة السورية إلى حصيلة التوازن العربي الذي نشأ بعد غياب جمال عبد الناصر. أقامت أوثق العلاقات مع المملكة العربية السعودية وحالفتها في معظم السياسات العربية. دخلت في حلف تاريخي مع إيران يوم كان العراق تحت حكم البعث في حرب معها. كل ذلك نجح في إدارة النزاعات خارج الملعب الداخلي. لكن العد العكسي بدأ حين تبدّل النظام العربي كله من حول سوريا ووضعها أمام خيار الالتحاق أو المواجهة. في وجه الحصار يلقي النظام أثقاله التاريخية ويقاتل في تراجع منتظم. يبحث عن تسوية مع ضغوط الخارج ويحاول الانقلاب على نفسه نصف انقلاب فيضع حزب البعث خارج السلطة الدستورية. لكن حزب البعث أصبح منذ زمن بعيد جزءاً من احتياط السلطة وليس السلطة. حزب البعث إحدى الركائز وليس كل الركائز. حزب البعث من بعض مشكلات النظام وليس مشكلة النظام. ليس خروج حزب البعث من صفة المرجعية الشرعية حلاً ولن يكون ذلك كافياً لمطالب الداخل السوري ولا لضغوط القوى الخارجية.

ليس مهماً الآن كم يستطيع النظام أن يحتفظ بالسلطة بين أقرانه في الأسرة العربية والدولية وبتمثيله في تلك المحافل. هناك متغيّر جذري يحصل في المنطقة لا يستقر مع أنصاف الحلول. قد ينجز النظام حله الأمني الداخلي ويقضي على المعارضة المسلحة، وقد يلجم التدخل العسكري الخارجي وهو قد نجح حتى الآن، وقد يستنفر الوطنية السورية أو يستنفر قواه الشعبية بألوانها المختلفة وقد فعل، لكن المنطقة أطلقت تيارات كبرى يصعب احتواؤها والسيطرة عليها. الجمهور الذي خرج في طلب الخبز والحرية والكرامة والمشاركة، والجمهور الذي قرّر أن يستعيد السلطة من جماعات سياسية أو غير سياسية استولت عليها أو امتلكتها في سياق تاريخي آخر، لن يقف عند حدود تعديلات دستورية ذات مردود ضئيل على المشكلات السابقة والحالية. والنظام الإقليمي الذي شنّ هجومه السياسي على ما بقي من إرث المرحلة القومية لن يتوقف وهو يملك سلطة المال الأكثر فاعلية في الحياة المعاصرة. والنظام الدولي المدجج بقوة السلاح والتكنولوجيا وجاذبية الثقافة الحديثة وإغراءاتها المتعددة لن ينكفئ عن مواجهة عالم متخلف يمانعه في إرادته ويضغط عليه بمصادر الطاقة. صحيح أننا لا نعرف بالضبط كيف سيدير هذه المواجهة وبأية أساليب ووسائل لكننا متأكدون أنه يستمر في هذه المواجهة. ونعرف نقاط ضعفنا والمعابر المفتوحة التي يستخدمها وهو ينفخ على جمرها الطائفي المذهبي الجهوي ويعزف على أوجاعنا المعروفة المزرية من بؤس اجتماعي وسياسي وثقافي. تخطت الأزمة سوريا وما حول سوريا والنظام وكل التحسينات، إلى ما يمكن اعتباره الانتقال بالنظام العربي شعوباً ودولاً من حال إلى حال.

من مرحلة الركود والغموض والتعايش الاضطراري لمكوّنات سياسية متناقضة إلى مرحلة هيمنة خيار ومسار في دائرة العولمة المتنافرة أو المتآلفة بين مراكز النفوذ الدولي. يتم هذا الانتقال بقوة دفع عربية، من القوة الاقتصادية في الخليج، ومن مؤسسات الأنظمة الأمنية الممسوكة في مصادر تسليحها وتمويلها، ومن الإسلام السياسي في زواجه غير الشرعي مع ثقافة الديموقراطية الغربية الجاذبة لفئات اجتماعية وثقافية واسعة.

بعد نصف قرن طوى العرب مرحلة القيادة القومية في صراع دموي رهيب، من لبنان إلى العراق واليمن والجزائر وليبيا وسوريا وفلسطين. حصل هذا التحوّل في غياب شرعية عربية «عروبية» استهلكتها الأنظمة التسلطية.

قامت هذه الأنظمة على احتجاز شعوبها في ثقافة هجينة وتحت سلطات غريبة عن طموحات أوسع جمهور استحضرته باسم حقوق الأمة ومصيرها. من كامب ديفيد إلى حرب لبنان وحرب العراق مع إيران، خرج معظم العرب من المشروع العربي إلى الوطنية الإقليمية ثم إلى الجهوية والمذهبية والفكر السياسي الديني. ومن لبنان إلى فلسطين، ومن تونس إلى سوريا مروراً بمصر والعراق المفكّك، عالم من الفوضى السياسية التي لا تعرف وجهة واحدة للتعامل مع التحديات والضغوط المتنافرة. لا شيء من الماضي يشكّل نقطة ارتكاز ولا شيء في الحاضر يشكّل نقطة استقطاب.

يكمل العرب اليوم تفكيك أنظمتهم وقيودهم السابقة، لكن تقدمهم مرهون في قدرتهم على تجاوز ثقافتهم التقليدية وعنفهم السياسي الإلغائي لصالح مشروع عربي ضروري عقلاني ديموقراطي تقدمي متصالح مع نفسه ومع العالم.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى