صفحات الثقافة

في عشق الكتب


بشير مفتي

عندما أسمع بعض الأصدقاء يتحدثون بانبهار عن الكتاب الالكتروني، لا أدري لماذا أنفر من حديثهم ذاك، ولماذا في لاوعيي أرفض هذا النهج الذي تسير على دربه المسارات المستقبلية، وخصوصاً الذين يقولون إنه يعبّر عن عصر العولمة الجديد، ولا مفر منه مستقبلاً ما دام هو الحل الأسهل، والأسرع، وحتى الأقل تكلفة، وإن القراءة هي المهمة، وليست الوسيلة، سواء أكانت ورقية أم شاشة كومبيوتر مضيئة بخدمات لم يحلم بها جهابذة القراء في أي عصر من العصور.

لكن هذا لم يغرّني قط، ولم يثر فيَّ أي رغبة في أن أقول: “نعم، معكم حق”. لا، ليس معكم حق، ولا أريد أن أسمع حديثكم المضجر هذا، والمثير للحزن. وإذا كان عليَّ أن أبقى الوحيد (وأعرف أنني لست وحدي في هذا العشق) الذي يدافع عن حقه في الكتاب الورقي فلن أتراجع قيد أنملة لأنني ببساطة أحب الكتب، وأحب رائحة الورق، وأحب السطور والحروف التي تحبَّر بها هذه الكتب، وطريقة إخراج النص، وترتيبه، وتركيبه على الهيئة التي سيقرأ عليها، وأحب غلاف الكتاب، وظهره الخلفي، وأحب حتى بيانات الناشر، وحتى عنوان المطبعة، وسنة الطبع، وعدد الصفحات، وأحب كل ما ينتمي الى هذا الشيء المادي والروحي. أحبه، ليس فقط لأنه كان وسيلة التثقيف المهمة للجيل الذي أنتمي إليه، كما للأجيال التي سبقتني، أي ليس من باب النوستالجيا والحنين، ولكن لأن في الكتاب شيئاً لا أعرف كيف حتى أصفه الآن. لنقل إنه شيء من السحر الذي لا يفارقه البتة. شيء من الغواية تستدرجنا إليه دائماً. شيء من الجمال، أو كثير من الجمال يبهر العين، كما الأذن الذهبية التي تحدّث عنها نيتشه، كما اللسان، وهو يتهجى تلك الحروف والأسطر، ويصنع من لحظة الكلمات أبهى لحظة، ويعيد خلق العالم بلغة من كتبوه في كتاب.

¶¶¶

لست أذكر بالتحديد متى بدأ هذا العشق، لكن الكتاب كان دائماً حاضرا في البيت الأسري وموجودا في أمكنة مختلفة، بدءا من مخطوطات لأبي حملها معه من القرية التي جاء منها إلى الجزائر العاصمة مع استقلال البلاد عام 1962، هي الآن في ذاكرتي أقرب إلى الكتب النورانية الغريبة المخطوطة بخطوط سحرية وملونة تلوينا باهرا، وتعطي البصر متعة إضافية جديدة.

 لم اقترب منها كما لم أحاول اكتشافها، وأنا طفل في السادسة أو السابعة من عمري، وكان الكتاب الوحيد الذي سمح لي بتناوله هو جزء “عم” من القرآن الكريم، حيث كان أبي يفرض عليَّ حفظه لكي أقوم بتأدية الصلاة كما يجب. وبما أني لم أكن بالراغب في الحفظ اضطر أبي لتسجيلي في حلقة شيخ بمسجد يقع في الحيّ الذي نسكنه، ولا أذكر من ذلك الشيخ إلا بعض ملامح وجهه المتيبسة، ولحيته الكثة البيضاء وعصاه الغليظة، وكنت أجد الأسباب الكافية كي أهرب من حلقته تلك كلما وجدت فرصة، أو مبررا سانحا لذلك. ولقد عوقبت أشد العقاب على هذا الفعل دون أن ينفع ذلك معي. ولشدّ ما لمت نفسي لاحقاً أني لم أستفد من تلك الفرصة لحفظ كثير من سور ذلك الذكر الحكيم. بقيت بعيدا عن مخطوطات أبي التي كانت تبدو لي مهيبة، وذات شأن ما دامت تتحدث عن الله والعالم الآخر، وما دام فيها شيء من قبس الرحمن الرحيم فتهيبتها، وهربت منها، أو تركتني في عالمي الطفولي أسبح فيه، وأمرح بداخله. لا شك أن مرحلة الدراسة الابتدائية، ودور معلّم العربية الذي كان هو أيضا خشن الطبع وقاسي النظر، قد جعلتني أطالع بعض سلاسل قصصية تتحدث عن الأنبياء والرسل وأبطال من التاريخ، فقط لأنه كان يرغمنا كل يوم خميس على استئجار كتاب من خزانته بالقسم، وقراءته بالبيت. وكان يوم السبت بعد العطلة الأسبوعية، يختار تلميذا ليلخص ما قرأ، وإن وجده لم يقرأه ناله عقاب شديد، ولهذا السبب كنت اقرأ خوفاً من أن يختارني أنا فلا أكون مستعداً، وأنال ضربه المشين. عجبت كيف أن ما بدأ بالخوف، صار متعة وحباً بعدها، وصرت بالعكس لا اقرأ خشية منه بل لمتعة ألقاها في تلك القصص الساحرة، والتي دفعتني حتى لحلم غريب، حيث رأيتني في حلقة أنا أرأسها، ويحيط بي الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله لهداية البشر، وهو الحلم الذي جعل والدي ينتظر أن أحقق له بشارة لم تحدث قط.

¶¶¶

تعلمتُ من أبي حب الكتب من دون أن يكون أبي قارئا كبيرا للكتب بأشكالها وأنواعها. كان له كتبه الدينية التي يحتفظ بها كما يحتفظ قرصان بمجوهرات العمر التي يخفيها في مكان آمن، وكانت رؤية تلك الكتب التي تشبه المخطوطات من بعيد تفتح في داخلي عوالم كثيرة من الأسئلة عن هويتها، وقيمتها. تعلمت منه من دون أن يقول لي إنها مهمة، وخاصة، وإن من يقرأها يفتح له الله باباً من أبواب الجنة. كان إيمان أبي الديني يجعله مقتنعاً بأمر كهذا، وهو ما لم يكن في حوزتي. بعد دخولي الثانوية وبداية سن المراهقة، راحت أعاصير الأفكار المشوّشة تنبت في رأسي وتحيل أكثر اليقينيات قوةً، رماداً رميماً. هنا اكتشفت الأدب من طريق رواية قدّمها إليَّ أخي لأقرأها كعقوبة على شغبي المستمر في البيت. بغرابةٍ حتى من نفسي، رحت التهمها بمتعة كبيرة. إنها رواية “شوغون” لبرنار كلافل إن لم تخنّي ذاكرتي. شاهدتها كمسلسل أميركي بعد ذلك بسنوات، ومن يومها لم يبرح الكتاب قلبي، أو أحسب أنه صار عشقي الأبدي الذي يمكنني أن أفتخر بأنني أعيشه من دون توقف أو ملل. مع مرور الوقت، أشياء كثيرة تغيرت في حياتي وتقلبت على عقبها، إلا هذا العشق الذي أشعر بأنه لا يفنى أو يموت.

¶¶¶

كتبت مرات مقالات ونصوصاً عن الكتب، أذكر أولها “في مديح شراء الكتب”، كما أذكر آخرها “المصحف، بورخيس، والأدب”. كنت دائماً مهووساً بالحديث عن عشقي للكتاب وعن إحساسي بفداحة الخسران الذي ينتابني عندما لا أعثر على كتب أبحث عنها. وفي المعارض التي أحضر بعضها هنا أو هناك، أعيش كما لو أني في حلم. صحيح أن القدرة المادية لا تفي لاقتناء كل ما أريده، وقد أحسد الأغنياء على متعتين كبيرتين، هما القدرة على السفر، والقدرة على شراء كل الكتب التي يريدون، لكني أصرف أغلب ما أملك على شراء ما أستطيع شراءه منها. غير أنك لا تستطيع شراء كل ما ترغب فيه، فاليد قصيرة والعين بصيرة، مثلما لا تستطيع قراءة كل ما كتب، فتبقى الحسرة تلازمك في داخلك وأنت تتأسى على النقص الفادح للزمن الذي لن يمنحك الوقت لإعطاء الكتب التي تحبّها حقها من القراءة.

المرة الأولى زرت فيها باريس، ظل خيالي يشطح في الطائرة وأنا أتخيلني سأجد مكتبات لن أخرج منها سالماً بالتأكيد. غاب عني حتى زيارة اللوفر أو غيره من المواقع التي يتدافع عليها السياح ويتباهون بأنهم زاروها لأنها تمثل واجهة باريس الجميلة، فيما أنا بقيت كل يوم أمر على شرفة نهر السين لأتفقد بائعي الكتب القديمة عبر ذلك الشريط الطويل، أو أدخل تلك المكتبات التي بها طبقات عدة، وأبقى منبهرا من عدد هذه الكتب ومشدودا إليها.

¶¶¶

أعرف أنني لست الوحيد يعشق الكتاب الورقي وخصوصاً الكتب التي لها علاقة بالأدب والفن والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والسير الذاتية والأساطير. كثيرون حتماً نشعر بأننا ننتمي الى هذا الزمن الذي لا يزال الكتاب فيه يحمل ما يحمل من دلالات ومعان كثيرة. لعل هذا ما يثلج صدري بعض الشيء، وخصوصاً أننا نحن العرب نحب القفز على الوقائع، والتاريخ، مثلما قفزنا فوق الحداثة إلى ما بعدها من دون حتى أن نطرق أبوابها. ها هم المنشدون الجدد للعالم الافتراضي (أنا منهم في نقاط وليس في كل شيء) ومحبّو التقليد يسارعون أيضا في طي صفحة الكتاب نحو كتاب الكتروني لست عدوه بالتأكيد، ولكن شرط أن لا يكون هذا على حساب ذاك.

¶¶¶

عندما أتذكر سنوات الجامعة أتذكر عدد المكتبات التي كنت مسجلا فيها، والتي كانت تجعلني في سباق مع الزمن لأقرأ أكبر عدد من الكتب في خلال أسبوع. عندما استعيد ذلك النشاط القرائي أتساءل الآن لماذا كنت أفعل هذا؟ طبعاً، كانت هنالك أحلام وأمنيات أن أصبح كاتبا مثل هؤلاء الذين اقرأ لهم، لكن أكثر من النفعية التي قد تظهر على سطح مبرر كهذا، كانت الكتب منفذا للروح كي تسأل، وتحاور وتستكشف، أي أن الكتب كانت هي الطريق إلى اللانهائي.

إنني مثل العجوز بورخيس أحلم بكتاب كوني، بمكتبة كونية، وبكتاب لا تنتهي حروفه وأسطره ورائحة حبره، وخيراته الرمزية. كتاب هو كل الكتب، وهو كل كتاب نقرأه في لحظات من حياتنا فيزيد من أعمارنا قليلا بتجربة، أو برعشة، أو حتى بحلم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى