صفحات مميزةعمر قدور

في فرادة نموذج كوباني/ عمر قدور

 

 

عندما تدعم الإدارة الأميركية صمود مدينة كوباني، بينما على مقربة منها يُسمح للنظام بالتمدد لتطويق الجزء الخارج عن سيطرته في حلب، فهذا بمثابة رسالة خاطئة لقسم كبير من السوريين. وجه الخطأ ليس في دعم كوباني، وإنما في تجاهل معاناة الكثير من المناطق السورية، ومنها مناطق لم تقصّر في محاربة «داعش» حين لم يكن هناك تحالف دولي ضده.

عندما يلتقي الفرقاء الأكراد «السوريون» في كردستان العراق، بطلب ورعاية أميركيين لا يخفيان، بينما تُهمل المعارضة السورية وتترك لصراعاتها الداخلية، وصراعاتها بالوكالة عن دول منضوية في التحالف، فذلك أيضاً بمثابة رسالة خاطئة لقسم كبير من السوريين حتى إذا فُهمت الرعاية الأميركية على أنها استقطاب لحلفاء الأسد بين الأكراد. فالإدارة لم ترسل أية إشارة في المقابل إلى موالي النظام من غير الأكراد لتشجيعهم على الانفضاض من حوله، بل يكاد يكون تركيزها على الحل السياسي مع الأسد تشجيعاً على البقاء إلى جانبه في انتظار الحل السياسي العتيد.

فهم الرسائل «الخاطئة» ليس متأتياً من فهم ملتبس لمهمة التحالف، فالجميع يعلم أن الأخير لم يُنشأ لإسقاط الأسد، ولن يتدخل لدعم المعارضة التي تقاتل نظامه. لكن، في المقابل، كان ثمة وعد صريح بألا يتمكن الأسد من استغلال عمليات التحالف ضد «داعش»، وكان ثمة وعد بتمكين المعارضة من التصدي لـ «داعش» والأسد معاً. من الواضح أن الوعد الأخير يتعثر لمصلحة عدم الإيفاء بالأول. لذا، قد يكون أهم ما تستقر عليه صورة الدعم الحالي تحييد المناطق الكردية عن النزاع السوري العام، وهو أمر يتعلق أساساً بالعلاقات «الطيبة» بين حزب الاتحاد الديموقراطي ووحدات الحماية الشعبية التابعة له مع النظام، من دون أن يكون هذا مصدر قوة للمعارضة السورية ككل، خصوصاً لأن النظام سبق له التخلي عن السيطرة على المناطق الكردية، ولا يُستبعد منه التخلي عنها نهائياً إذا حظي بتسوية مشابهة لتسوية عمر البشير مع انفصال الجنوب السوداني.

أغلب الظن أن إدارة أوباما وجدت في كوباني ضالتها لتحقيق إنجاز لتحالف بدأ متعثراً، فمنع «داعش» من السيطرة على المدينة سيُعد انتصاراً عسكرياً هو الأهم حتى الآن، وسيمنع التساؤل عن الإنجازات الفعلية في مناطق سيطرة «داعش» الأخرى، أو سيرجئها على الأقل.

أيضاً، في دعم كوباني والأكراد لا تدخل الإدارة في مواجهة مع الأسد وحلفائه الخارجيين، لأن النظام كما سلف القول تخلى طوعاً عن سيطرته على المناطق الكردية، مقابل تكفل سلطة الأمر الواقع بلجم الأكراد عن المشاركة في الثورة، ولا يضيره في شيء أن يكرس التحالف وضعاً سبق له المساهمة فيه، بل يحاول أن يؤسس عبره تفاهماً مع التحالف على استثناء الأكراد من الصراع السوري الحالي في انتظار أن يحصل على الجائزة الأهم باستعادة السيطرة على مناطق سيطرة المعارضة العربية.

بالطبع، يكسب الأكراد بسبب وقوعهم على خط تتلاقى فيه مصالح التحالف والنظام حالياً، لا لأحقية لهم أو مظلومية تاريخية اكتشفها الجميع بغتة بسبب هجوم «داعش» على كوباني.

وزير الإعلام السوري أعلن تقديم نظامه الدعم اللوجيستي والعسكري لكوباني، وبصرف النظر عن الأكاذيب المعتادة لإعلام النظام، تبقى أهمية القول في ترحيبه بالفصل بين حال المدينة وحال المدن الأخرى الخارجة عن سيطرته. هو تكريس لفرادة ما يحصل في كوباني، فالنموذج الذي يُقدّم فيها ميدانياً، ويحيط بها سياسياً، لن يتكرر مطلقاً، ولا أحد من الفرقاء المنخرطين في صنع نموذجها يريد له أن يكون معمماً على مناطق سيطرة المعارضة.

اتفاق دهوك بين الفصائل الكردية، إذا وجد طريقه إلى التنفيذ الحقيقي، سيعني انسحاب طرفي الاتفاق من أطر المعارضة لمصلحة مرجعية كردية موحدة ومستقلة، وسيسحب من الرصيد السياسي للمعارضة الضعيفة والمستضعفة أصلاً.

لننحِّ جانباً ما سمّاه حازم صاغيّة في أحد مقالاته «حب الأكراد المستجد»، وما رافقه من دهشة الاكتشاف الأول لدى الكثيرين في المنطقة، فإلى حين قريب كان الأكراد أنفسهم يشكون من تشرذم تنظيماتهم السياسية وعدم قدرتها على الاتفاق على الحد الأدنى المطلوب، وكان النشطاء بمن فيهم كوادر الكثير من الأحزاب يشكون من هيمنة لجان الحماية الشعبية وقمعها الحراكَ السياسي الكردي. مدينة كوباني نفسها شهدت إغلاقاً لمكاتب أحزاب كردية وتضييقاً شديداً أدى إلى نزوح نشطائها. فرحة الأكراد العارمة باتفاق دهوك الذي اقتضى مفاوضات مكثفة لأكثر من أسبوع، تدل وحدها على الحال التي كانت سائدةً من قبل، غير أن الرعاية والضغوط الإقليمية والدولية لإنجازه تدل أيضاً على هشاشة الديناميات الداخلية لإنجازه، ما يذكر بحال المعارضة السورية التي لم تجتمع مرة إلا تحت الضغوط الدولية والإقليمية، ولم تتفاهم مكوناتها مرة إلا تحت التفاهمات الدولية والإقليمية.

قسم كبير من المثقفين الأكراد الذين كانوا ينتقدون الحالة الكردية قبل دعم التحالف، سرعان ما ركب موجة «فرادة» كوباني، ليؤسس عليها أرجحية «بنيوية» للتنظيمات الكردية قياساً إلى المعارضة السورية، وكأنه بذلك يقرر أيضاً إغلاق الباب أمام وضعه كنموذج يُحتذى. هذا لا يعود فقط إلى مشاعر قومية جياشة، أو حتى عنصرية، فأصحابه موضوعيون من حيث استبطانهم عدم وجود رغبة دولية في تكرار النموذج، وإن ظهروا غير موضوعيين في ردّ ثمار النجاح إلى عوامل محض ذاتية كردية، أو حتى إذا ذهب قسم منهم إلى ما يشبه التشفي بأحياء ومدن عربية اقتحمتها قوات النظام مدعومة بتحالف خارجي بعد حصار ومقاومة طويلين، بحجة أن المعارضة العربية غير قادرة على تقديم المثل الصامد الذي تقدمه كوباني. بالتأكيد، من يتحفظ عن دعم المدينة من المعارضين السوريين ليس أحسن حالاً، لأنه يوجه الأنظار إلى عيوب النموذج بدل العمل على الاستفادة وتعميمه، لكننا لا نستطيع تجريده من الحس الموضوعي أيضاً لأنه يدرك عدم رغبة القوى الدولية في تعميمه.

على الأرجح، سيبقى نموذج كوباني فريداً طالما تتحرك القوى الفاعلة في ما دون التصدي لنظام الأسد، ومن دون أن نبخس أبناء المدينة شجاعتهم لا بأس بالتنويه بحسن «الطالع» الذي جعل «داعش» عدوهم المشترك مع الإدارة الأميركية التي لم تصنف الأسد حتى الآن في مرتبة العدو.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى