صفحات العالم

الدبّابة السورية التي تقتل عشوائياً


    اوكتافيا نصر

أكتب اليوم بقلم متأثّر بالندوب العميقة التي تركها في نفسي القصف الكثيف لإحدى الدبابات السورية التي كانت مهمّتها الوحيدة أن تُبقي مدفعها موجّهاً صوب حيّنا وتطلق القذيفة تلو الأخرى من أجل القضاء على الأرواح والممتلكات، فتتسبّب بالمآسي وتزرع الرعب في نفوس الصغار والكبار من دون استثناء. لا شك في أن النظام السوري الذي كان يصدر الأوامر بقصف أحيائنا في لبنان يومياً بلا هوادة في الثمانينات والتسعينات، كان يأمل ألا يبقى أحد على قيد الحياة ليتذكّر ما جرى، فكم بالحري لينقل تاريخنا الشفوي إلى أجيال المستقبل.

النظام نفسه يستخدم دبّاباته وسواها من أسلحة المدفعية لزرع الرعب في أحياء دمشق وإدلب وحلب وحماة وعدد كبير من المدن السورية الأخرى، فيهدّد حياة الأبرياء بذريعة محاربة “الإرهابيين”. إنهم يقتلون شعبهم هذه المرّة بالأسلحة والنيران الفتّاكة نفسها. آلات القتل هي هي، والأيدي الدموية هي نفسها. يجعلنا هذا نتساءل، ايهما الأسوأ؟ أن تقتل القوات السورية جزءاً من الشعب اللبناني أم أن تقتل أبناء بلدها من رجال ونساء وأولاد؟

على غرار عدد كبير من أبناء جيلي، أقف مصدومة وعاجزة في وجه العنف الذي يستهدف المدنيين في سوريا. بعضنا يندد، وبعضنا الآخر يصفح، فيما يقف كثرٌ صامتين وغير قادرين على التعبير عن مشاعرهم لأن الصدمة التي تعرّضوا لها على أيدي القوات السورية تحزّ عميقاً في نفوسهم؛ فلا شيء يضاهي الألم الذي عانوه آنذاك ولا يزالون يحملونه في قلوبهم. إنه العذاب الذي عاشوه لفقدان أحبّائهم وأصدقائهم وجيرانهم. إنها أصوات الموت التي كان تئنّ فوق رؤوسهم فيما كانوا يُحصون القنابل وقذائف الهاون والرصاصات والأسلحة الأخرى، وينتظرون أن يأتي دورهم.

كلما سمعت عن مدينة أو قرية سورية تنهال عليها قذائف المدفعية وتعيث فيها دماراً، أتساءل ما إذا كانت تتعرّض للوابل نفسه الذي كانوا يمطروننا به ليل نهار، وكان محمّلاً بالقسوة الشديدة والكراهية والترهيب. لقي أكثر من 19 ألف سوري حتفهم منذ بدء الانتفاضة. إنه رقم مؤلم جداً ولا يمكن تحمّله، لكن من عاشوا بيننا المجزرة عن كثب في لبنان، يعلمون أن هذا الرقم يمكن أن يزداد بسرعة كبيرة لأن آلة القتل لا ترحم ولا تشعر بالخزي. علّمتنا التجربة اللبنانية أن ضمير العالم أسطورة. فالمجتمع الدولي يتصرّف بحسب ما تمليه المصالح القومية غير عابئ بعدد القتلى أو المصابين أو الأشخاص الذين يتعرّضون للتعذيب أو الترهيب.

انسحبت القوات السورية مع دباباتها وأسلحتها من لبنان منذ عام 2005، لكن التروما باقية. لقد هاجمت آلة الحرب السورية أجزاء من لبنان، وسحقت جزمة الاحتلال والمطاردات السورية الحرية فيه. كان السياسيون في ذلك الوقت دمى في أيدي النظام السوري، ومن يتجرّأ على انتقاد سوريا في العلن كان يُسكت باغتياله أو زجّه في السجن، وكان الناس يعانون. يصعب أن ننسى كيف وقف لبنان وحيداً في وجه الحديد والنار اللذين قضيا على الأرواح والأرزاق. أين كانت الدول العربية أو الغربية في ذلك الوقت؟ أين كان الغضب من القصف المتواصل والترهيب الوقح؟ اعتبر المواطنون والديبلوماسيون والمراسلون الأجانب في ما مضى أن بقاءهم في لبنان لمتابعة مهماتهم بات محفوفاً بالمخاطر، فرحلوا. وساد شعور باليأس لدى كثيرين في ذلك الوقت.

وها هو نظام الأسد يتسبّب بالشعور نفسه بالعزلة واليأس لدى ملايين من السوريين بمنع المراقبين المستقلّين والمراسلين من دخول سوريا.

من سخرية القدر إنما من المؤسف أيضاً أن نرى السوريين يتوافدون إلى لبنان بعشرات الآلاف هرباً من النزاع الدموي، لكن طريقة استقبالهم تشكّل اختباراً ودرساً على السواء لعدد كبير من اللبنانيين. إنه اختبار في نسيان الماضي الأليم والشفاء من الجروح، ودرس في مواجهة التاريخ وربما الحصول للمرة الأولى على فرصة رؤية المواطنين السوريين العاديين بمعزل عن الديكتاتورية البعثية التي كانت تمثّلهم وارتكبت طوال عقود فظائع في لبنان باسمهم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى