صفحات العالم

في ما خصّ رثاء الثورة السورية أو نقدها/ ماجد كيالي

 

يسود اعتقاد مفاده أن مساندة أي ثورة لا يستقيم إلا مع الاعتقاد بانتصارها المحتّم، وباستمرارها، وبصحّة طريقها، مهما كانت الظروف والتحوّلات والأثمان، علماً أن هذا اعتقاد إيماني آخر، لاعلاقة له بالواقع والمنطق والتاريخ. والحقيقة، فإن مساندة أي ثورة ترجع إلى الاقتناع بمشروعيتها وضرورتها وعدالتها. أما نجاحها فيخضع لموازين القوى، والمعطيات المواتية، والإدارة الملائمة، مع أن التجربة التاريخية تكشّفت عن ثورات أخفقت، أو انحرفت، أو حقّقت بعض أهدافها، وهذا يشمل التجارب العربية، وثورات «الربيع العربي»، ناهيك عن أنه لا توجد ثورات كاملة أو نظيفة أو ثورات إلى الأبد.بيد أن الكلام النقدي عن الثورة، أو احتمال انحرافها أو فشلها، قد لا يستهوي البعض، على رغم أن الواقع أصعب وأقسى، وأن هذا الكلام يصدر عن مؤيدين للثورة، ويتوخّى التنبيه إلى مكامن نقصها، والأخطار التي تتهددها، على نحو ما يحصل، مثلاً، في مصر وسورية.

عموماً، انطوت المرحلة التي كان يجرى فيها التأييد المطلق للثورات، لمصلحة الكتابات النقدية، بعدما باتت متعيّنة بالتجربة، بما لها وما عليها.

في هذا الإطار، مثلاً، لاحظ حازم صاغيّة «أنّ تلك الثورات ستُغرق مجتمعاتها قبل أن تُنقذها، وأنّ هبوطاً حادّاً سيسبق الصعود المرتجى». ففي مقالته «الربيع العربي: متى نقول إنه فشل» («الحياة»، 6/4/2013)، تحدث حازم عن حدود تقبُّل كلفة الثورات، بعدم تحولها إلى «حروب أهليّة مفتوحة… فوضى بلا أيّ أفق سياسي… موت معمّم ومفتوح… استخدام السلاح الكيماويّ، من دون ردّ خارجيّ رادع… أصوليّات وطيدة حاكمة تعطّل السياسة… فراغ المنطقة من أقليّاتها الدينيّة والمذهبيّة، أو من كوادر الطبقات الوسطى ومتعلّميها…»، علماً أنها كلها أمور تحصل في الحالة السورية.

أما حسام عيتاني فعبّر عن قلقه مما يجري في مقالته «قبل نعي الثورات»، بتساؤله: «هل بالغت الشعوب العربية التي ثارت على أنظمة الاستبداد في التفاؤل قبل أن تصطدم بحائط الواقع؟ هل نشهد اليوم انتكاسة آمال «الربيع العربي»؟ وكان عيتاني يشير إلى الواقع «بتعقيده وذئبية قواه وانحطاط قيمها المحركة» («الحياة»، 13/8/2013). لكن عصام الخفاجي ذهب أبعد من ذلك فكتب «في رثاء الثورة السورية» («الحياة»، 26/3/2014): «الثورة تحتضر… لم يعد اليوم غير أمل أخير بتفادي هزيمة كاملة تحيل الثورة إلى هامش في كتب التاريخ، كما الحرب الإسبانية… الثورة انهزمت سياسياً»، معللاً ذلك بعديد الأسباب المهمة. وبدوره، رأى سامر فرنجيّة أن «الثورة كحلم انتهت. الثورة في عامها الثالث باتت مجرّد احتمال إشارة إلى إمكانية غد قد يكسر التكرار العبثي للحاضر، وهذا في أقصى التوقعات» («الحياة»، 6/4/2014).

والحال، فإن هذا الكلام يكتسب وجاهته ومشروعيته من واقع أن الثورة السورية، إلى كلفتها الباهظة، والتعقيد البالغ فيها، والمداخلات الدولية والإقليمية المهولة التي تقيّدها أو تعبث بها، باتت تعاني نقصاً بالغ الخطورة، يتمثل في غياب بعدها الشعبي أو ضموره. وإذا سلمنا بأن النظام اشتغل بدأب على ذلك، وبوسائل العنف والحصار والتجويع، لرفع كلفة الثورة وعزلها وإضعافها، فهذه الثورة تتحمل أيضاً بعضاً من المسؤولية، في مبالغتها بالعسكرة من دون تبصّر، وتوهّمها إيجاد مناطق «محررة» في المدن، وأيضاً إخفاقها في تقديم نفسها إزاء شعبها كسلطة بديلة.

والحقيقة أن تجربة المناطق المحرّرة أخفقت بسبب ضعف الموارد البشرية والإمكانات المادية، وبسبب إمعان النظام بتدميرها وحصارها، لا سيما الفجوة التي نشأت بين السلطة الجديدة المفترضة للثورة والبيئات الشعبية الحاضنة لها. وقد ساهمت في ذلك النزعة التسلطية، المتمثلة بفرض سلطة الأمر الواقع بقوة السلاح على المجتمع، ووأد تجارب اللجان المحلية المنتخبة، وتحول هذه المناطق إلى بؤرة لنمو الجماعات المتطرفة، والغريبة بمفاهيمها وسلوكياتها عن مجتمع السوريين، وبواقع تشرذم التشكيلات العسكرية، وصبغها بالطابع المذهبي. وبديهي أن ما زاد الطين بلة ظهور «داعش» في أحضان «جبهة النصرة»، التي كانت نمت في أحضان الجماعات التي انضوت في الجبهة الإسلامية، التي نشأت على هامش «الجيش الحر».

وبكل صراحة، تعاني ثورة السوريين اليوم اختفاء الشعب، وصعود جماعات عسكرية تشتغل وفق أجندة دينية، تفيض عن المجتمع والشعب السوريين، والتدخلات الخارجية، المباشرة وغير المباشرة، فوق افتقادها الكثير من العناصر اللازمة لنجاحها، كوجود هيكلية منظمة، أو هيئة قيادية موحدة أو مرجعية سياسية واضحة. والأنكى أن السوريين، منذ زمن، لم يعودوا يواجهون النظام وحده، إذ إنهم بإمكاناتهم

البسيطة باتوا في مواجهة الدور الروسي، والنظام الإيراني، وميليشيات عراقية و «حزب الله»، والقاعدة وأخواتها، ناهيك عن مواجهتهم اللامبالاة والتلاعبات على الصعيدين الدولي والإقليمي، بما في ذلك القلق الإسرائيلي، ونشوء العصبيات والهويات الدينية والمذهبية والإثنية في المجتمع السوري.

وكان ياسين الحاج صالح تحدث عن كل ذلك معبّراً عن مخاوفه من «انهيار الإطار الوطني للصراع في سورية»، بقوله: «ما يجري في سورية… لا تناسب لمقاربته إلا جزئياً لغة التحليل السياسي والاجتماعي، أو لغة الجيوسياسة والعلاقات الدولية، بل ربما لغة اللاعقل والقيامة… حيث كل شيء سائل وهيولى بلا صورة، وحيث الزلازل والانهيارات والعنف والهول… هذا ليس صراعاً سياسياً، بل هو أزمة أسس أو أزمة تأسيسية. وهي إما تغير تغيراً جوهرياً، أو تجري هندسة الأمور بحيث يتعفن البلد بلا نهاية، أو يتشكل في صورة «مفشكلة»، لا تتعافى ولا تموت» («الحياة»، 18/11/2013).

طبعاً، لا يعني ذلك تراجع مشروعية الثورة، أو تآكل ضرورتها التاريخية، أو عدالة مقاصدها، كما لا يعني أنها وصلت إلى نهاية طريقها، لأن هذا يعتمد على أمور كثيرة، ضمنها التحولات ضمن الثورة ذاتها، وفي المعطيات الخارجية المساندة لها. وإزاء ذلك، ثمة ثلاثة احتمالات متعددة، في المدى المنظور، وفي إطار موازين القوى والمعطيات السائدة: الاول، استمرار الوضع الراهن، بمعنى جموده واستمرار الاستنزاف المتبادل. والثاني، نشوء نوع من تدخل خارجي غير مباشر، ربما على شكل حظر جوي، أو مناطق آمنة، والثالث، فرض نوع من تسوية بطريقة ما، وعلى الجميع، وهو احتمال لا يمكن أن ينشأ إلا بتغيير رأس النظام.

أما الاحتمال الرابع، والمرتجى، المتمثّل بانتصار الثورة، فهو بصراحة ما زال بعيداً، مع الأسف، لأنه يحتاج إلى مقدمات ليست متوافرة بعد، ولأن الواقع لا يعمل وفق الرغبات على رغم توافر قناعة تفيد بأن «سورية الأسد» انتهت إلى الأبد، وفق كل الاحتمالات.

* كاتب فلسطيني – سوري

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى