صفحات الثقافة

في مطبخ الديكتاتور


روجيه عوطة

لم نعرف أن القصص التي قرأها جيل أمهاتنا على مسامعنا، في مساء كل يوم من أيام طفولتنا كي ننام سريعاً، ستتحقق في عامنا هذا. المشهد مخيف مثل قصة “البائع” الذي كان يمر في حارات بلدته، الشبيهة بتلك التي ولدنا وترعرعنا فيها حتى هجرناها وأقسم بعضنا على اللاعودة إليها. يسير البائع في الشارع وينادي على بيع الخضر والفواكه، وعندما يقترب الأولاد منه يخطفهم ويهرع إلى منزله الصغير على ضفة النهر حيث يطبخهم ويلتهمهم الواحد تلو الآخر ثم ينكبّ على حفر القبور ليخبئ ما بقي من عظم وجلد فيها.

كانت ترعبنا هذه القصة، نحن أولاد ذلك الجيل، جيل الحروب والهزائم المتكررة، فنتظاهر بالنوم أو بالفعل ننام هرباً من البائع أو أشباهه الآخرين. كبرنا ولم نعد نخاف من هذه القصص الخرافية التي قد تكون مسؤولة عن تحملنا طغيان “بائعي الشعوب” وآكليها، وعن سكوننا تحت قهر الذين يلتهموننا يومياً. ألم يخبرنا من عاش حرب لبنان أن الناس اضطروا، في فترة من فتراتها الأكثر دموية، إلى أكل القطط؟! هذه القصة لا تفارق لاوعينا عند كل حركة تغييرية في هذا البلد، كغيرها من القصص الأخرى، إذ تعود صور الحرب إلى أذهاننا فنهمد ونستسلم لصانعيها الكثر. ما عادت سير الطفولة المرعبة تثير الذعر فينا لسبب بسيط، فقد انتقلت من الترميز السردي واللغوي إلى السرد اليومي ولغة التضحية بأولاد الأزقة والمدن الوهمية كي يبقى البائع قائد النائمين على فراش الخوف أو تحت التراب في القبور ويستمر في أكل الأولاد المستيقظين في ربيع عالم يحكمه الكانيباليون وأمنهم وجيوشهم الميليشيوية، من تونس بوعزيزي إلى بحرين اللؤلؤة الحمراء، وفي سوريا أسطورة الحياة ومصر الإصرار ويمن المخاض الثوري، وليبيا المعركة الجديدة.

إبان سقوط نظام “ملك ملوك إفريقيا”، زحف الثوار نحو مملكته، ودخلوا إلى منزل من منازل إبنه الفخمة على شاطئ البحر في طرابلس، فعثروا على الخادمة شويقة الملا مشوّهة، وثمة حروق وكدمات تغطي صدرها وجذعها وكامل جسمها. تحدثت المرأة عن تعرضها لتعذيب جسدي بشع على يد زوجة نجل القذافي، التي أخذتها إلى الحمّام وقيّدت يديها خلف ظهرها ووضعت شريطاً حول فمها و”سلقتها” بصبّ الماء المغلي على رأسها بعدما أخفتها عن الجميع، مجبرةً إياها على عدم النوم ثلاثة أيام، حتى أن الديدان بدأت تخرج من جمجمتها. هذه حادثة من الحوادث الكثيرة تكشف مدى المرض النفسي الذي تعاني منه الشخصية الحاكمة، سجينة عقدها العنفية و”الحيوانية المطبخية” التي ظهرت بشدة في عملية قتل الناشط غياث مطر، نهار السبت الماضي، وهو من دعاة اللاعنف في مدينة داريا السورية. رمى عناصر المخابرات والشبّيحة، الذين خرجوا من فرع الأمن العسكري في البرامكة، جثته، بعد تشويهها واقتلاع حنجرتها التي كانت تهتف “سلمية سلمية” في طرق الثورة قبل أيام من اعتقاله، أمام والدته وزوجته الحامل وقالوا لهما: “خدوه عملوه شاورما”.

لا تنتهي “وجبات” الديكتاتور عند حد القتل والدفن، بل تتعداه إلى استعمال أساليب التعذيب الشنيع والتنكيل بجثة المقتول وطبخه رغبةً بأكله كقربان الخلود وتقليداً للآلهة وتماهياً مع الوحوش، كعادة “رقصة الأسد” في الأديان القديمة مثلاً، التي تدل على عمق العلاقة بين السلطة- الإله والإنسان العاجز، مع فارق أن الديكتاتور يقلّد نفسه ويتماهى مع وحشيته الطوطمية التي تقبع في داخله النفسي، المعادي لكل شخص لا يتماهى معه ولا يدخل إلى المطبخ الديكتاتوري الجحيمي كي ينظف مراياه بدم الأبرياء المطبوخين، كالأولاد الذين خطفهم “البائع” في طفولتهم.

مطبخ السلطة

بعدما تمرد الأبناء على الأب الأوّل وأكلوه، شعروا بحال من الندم والمعاناة، فقرروا أن يعيدوه بشكل رمزي مقدس والتكفير عن الخطيئة التي ارتكبوها في حقه. وضعوا أسساً أخلاقية تنظّم حياتهم وميولهم الاجتماعية والجنسية من خلالها، بعدما تنازلوا عنها لصالح القوانين والقيم الأخلاقية، أي لصالح قوانين الأب الأصلية وصوره التي تحرّم الرغبات جميعها. يكمن الاختلاف بين أسطورة القتل أو الأكل الأول، وأسطورة “أكل المقتول” اليومية، في تحوّل أخلاق الأب ممارسات مؤسساتية، نتيجة التطور الحضاري من القبلية إلى العصر الحديث. وفي مقدم تلك المؤسسات الأبوية قوى الأمن، العسكر، “البلطجية”، “الشبيحة”، أو ما يسمّيه الإعلام قوى حفظ النظام. هؤلاء يردّون بقسوة وعنف على كل من يحاول تدنيس الأب وطوطمه وسلطته الواقعية والرمزية، ومن واجبهم معاقبته. بحسب لاوعيه، يملك الأب حصة كبيرة من حياة أبنائه، ناهيك بميوله الانتقامية منهم، التي تظهر في استخدامه أسلوبهم التمردي الأوّل عبر بنائه مؤسسات هي مطابخه العقابية. فالسجن هو مطبخ السلطة والمكان الذي يطهو الأب فيه أجساد أبنائه كيفما يريد لالتهامهم رمزياً على الأقل. يرسم مصطفى خليفة في “القوقعة” ديكور مطبخ الديكتاتور الطاهي ويصف لنا وضع السجناء البائس. في 24 نيسان، نقل المساجين إلى السجن الصحراوي بسيارات الشحن التي تشبه “السيارات التي يوزعون بها الأغنام المذبوحة من المسالخ إلى الجزارين”. أطلق السجناء إسم “سيارات اللحمة” على هذه الشاحنات الصغيرة. مع وصولهم إلى السجن، تجمعوا في الساحة، وتم فرزهم وجاء القصاص بحسب مراكزهم الإجتماعية، ضباط، أطباء، مهندسين، محامين إلخ. أحد المساجين قاصصه المساعد بإجباره على الشرب من ماء البالوعة القذرة، وعندما امتنع السجين عن ذلك، انقض حرّاس السجن عليه وتناوشوه بالعصي الغليظة والكوابل المجدولة وأقشطة مراوح الدبابات، إلى أن أغمي عليه ومات، فغطسوا رأسه في المياه القذرة لتختلط “الدماء بأشياء بيضاء وسوداء لزجة على وجهه”. بانت لغة الأب العنفية حيال الأبناء في الرواية عندما صرخ المساعد صرخة هيستيرية في وجه السجين الذي سحق فمه بحذائه: “عم تشتغلوا ضد الرئيس!… ولاك سوّاك زلمة… ولاك خلاّنا نشبع الخبز”. نلاحظ التوازن الرمزي في السرد الروائي بين الطعام من جهة والجنس من جهة، فالحرمان من الطعام يسير بالتوازي مع الحرمان من اللذة الجنسية، وإقصاء كل الرغبات، فـ”هم يريدوننا أن نموت جوعاً” لنأكل بعضنا وتالياً يأكلوننا. هذا عدا الجراثيم والميكروبات المتفشية في المهجع التي تأكل أجساد المساجين: “القمل يهرش جسدي… الجوع يشتد ويتراكم”. يستبيح السجانون أجساد الأبناء، لاستعادة صورة الأب المأكول في وعيهم وتأجيج الألم في الذاكرة المربّعة كالزنزانة وإفقاد الرغبة الجنسية موضوعها لتنحرف إلى دواخلهم وتنهشهم فيدخلون المطبخ السلطوي وراء الأب ويموتون جوعاً أو يتأكلون.

معدة الديكتاتور

فضلاً عن تحكم المؤسسات الرسمية بأسعار المأكولات والمواد الغذائية التي يقتات الشعب منها، تروج الحكايات حول شخصية الديكتاتور المتواضعة، والحكاية الحاضرة دائماً هي علاقته بالطعام، فهو حريص دائماً على أكل أصناف شعبية، فمعظم الديكتاتوريين لا تغريهم الولائم ولا يلبّون الدعوات إلى المآدب الشهية في حياتهم اليومية. أفرد القذافي عدداً من صفحات كتابه الأخضر للطعام، وقدّم نصائحه الغذائية إلى الشعب حول أكل هذا الطبق أو ذاك، وفي مؤتمر الجامعات العربية عام 2010، تكلم الديكتاتور عن البطيخ وكيفية زراعته وأهميته في تطوير البحث العلمي قبل أن يبدأ بنقد العلاقة بين الدين والعلم! احتجاجاً على محاكمته، قرر الرئيس المخلوع حسني مبارك الإضراب عن الطعام. أما صدام حسين فاشتكى من الطعم السيئ للحلويات التي كانت تُجلب إلى زنزانته قبل تطبيق حكم إعدامه.

في كتابه “الأحلام ولغة الجسد: بيولوجيا الغرائبي”، ربط جيرار موران بين المعدة واللاوعي الشخصي من ناحية، واللاوعي الجمعي من ناحية أخرى. كلما توتّر الجهاز الهضمي تكون الأحلام مزعجة وتنتج من حالة الجسد غير الطبيعية ومن اللاوعي الشخصي للإنسان، وإذا كان الجهاز الهضمي مرتاحاً تكون الأحلام هادئة ناتجة من اللاوعي الجمعي أكثر من الفردي. وتشير الأحاديث حول مأكل الديكتاتور المتواضع، الذي يقترب فيه من مأكل الطبقات الإجتماعية الفقيرة، إلى أحلامه الجمعية، أحلام الشأن العام.

لكن الديكتاتور لا ينام، من ميزاته أنه يسهر أكثر من الجميع ليراقبهم، وينتظر بداية حلمهم إنطلاقاً من أجسادهم، التي تشكل كابوسه الأول والأخير، وينتهز فرصة نوم الجميع ليعتقلهم ويزجّ بهم في معدة الأرض، في أقبية السجون والقبور. الدلالة الثانية وربما الأساسية لمقولة المعدة الديكتاتورية المتواضعة، هي دفع الناس إلى الإقتناع بما يأكلونه ولو فتاتاً. ما دام الأب والقائد يأكل من هذا الطبق الشعبي المتواضع، فلماذا على الطبقات الفقيرة أن تطمح إلى أكل ما لا يأكله أبوها وإلى التفكير في صحة أجسادها الغذائية والتحرك لسد جوعها المزمن، الأمر الذي يصعب حصوله من دون الشك في “حكايا الديكتاتور الهضمية”، وإعاقة عمل مؤسساته المروّجة لها بين الناس. فتلك الحكايات هي إجهاض رمزي لكل تحرك شعبي في وجه أجهزته القامعة التي تظن أن بالخبز وحده يحيا الإنسان، فتطعمه في بعض الأحيان وتمنعه عن الحرية التي تصيب معدة الديكتاتور بالمرض والتشنج.

شراهة الحرية

يتسع مطبخ الديكتاتور لعدد كبير من الوجبات، وإن لم تسمح مساحته بذلك، يقضي على من فيه، كما تروي “القوقعة” عن تصفية كل السجناء في السجن الصحراوي لاستقبال غيرهم على وليمة من لحومهم الحية، المتكدسة في المهاجع التي كان سكانها ينقلون أخبار الخارج بلغة المورس، بفعل كم أفواههم ومنعهم عن الحديث في ما بينهم وحتى النظر في وجوه بعضهم البعض. فالنظرة المتفلتة من حدود الجهتين قد تعبّر عن انفلات فكري أو عن محاولة فرار من مكان الطهو هذا، وتؤدي إلى اتهام صاحبها بالتعامل مع الضوء أو الشرود عن صورة الأب. فمن عادات الديكتاتوريات التي تتساقط واحدة تلو الأخرى في العالم العربي، إطلاق التهم المجردة التي لا نعلم ما هي معايير تحديدها، كتلك التهمة المعروفة، “النيل من هيبة الدولة، وإضعاف الشعور القومي، ونشر أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة”. نزيد عليها في الربيع العربي عبارة “التي أكلت أولادها” الجائعين الى الحرية، لهدم جدران المطبخ الديكتاتوري وليس الانتقام من سيّده التهاماً كما يفعل هو في هذه الأيام، بل تركه يُعاقب داخل المؤسسات القانونية التي بناها وبالمعيار الأخلاقي الذي عمل بمفعوله لعقود مضت ولم تقدر على إطفاء رغبة الناس في الحرية بل زادتها شراهة واندفاعاً لم نشهد مثلهما من قبل. فالناس لا يضربون عن الحرية ولا تصيبهم سمنة الجبن والانحباس في الخوف. الناس يعشقون أجسادهم بحرية وينتصرون على قحل أحلامهم. فربيع غياث مطر، طوفان في صحراء الديكتاتورية، والناس لم يعودوا يحتاجون الى أب.

إذا أكملنا حكاية “البائع” الذي التهم أطفال الحارات، لا شك أننا سنسرد حكاية بنهاية لا تبغي تخويفنا كي ننام قلقين على الغد. ستنتهي الحكاية بمجيء عاصفة من فرح الأولاد، تُخرجهم من معدة البائع وترميه في نهر حقده، أو ترتفع أغصان الشجر حول منزله الصغير وتتفتح براعمها فيراها الديكتاتور ويغمى عليه قبل أن ينتهي من أكل نفسه الحزينة ويختفي.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى