صفحات الرأي

في نقد الديموقراطية: من الحاكمية إلى القائمية: وسام سعادة

في مستهل مشروعه الفكري المميّز «إقبال الديموقراطية»، الذي يُنتَظَر اكتماله بجزء رابع (وقد صدر جزأه الأول «الثورة الحديثة» والثاني «أزمة الليبرالية» عام ، والثالث «محنة التوتاليتاريات» عام ) يفصح الفيلسوف السياسي والمؤرخ الفرنسي المعاصر مارسيل غوشيه عن قلقه من كون «الديموقراطية صارت بلا أعداء»، بخلاف ما كانت عليه الحال طيلة القرنين الماضيين.

فمع تلاشي الحيويات المعادية للفكرة الديموقراطية الحديثة، بدت هذه الأخيرة وكأنها الأفق الذي لا يمكن تجاوزه، واتخذت وضعية من يسدّ المنافذ إلى المستقبل، وبالتالي على نفسه.

ومع انسداد المستقبل وصور الاختلاف التي يمدّنا بها، دخلنا -كما في عنوان كتاب سابق لغوشيه، في دوّامة «الديموقراطية ضدّ نفسها». وهو يعني بذلك شيئاً مختلفاً تماماً عن سقوط الحرية في براثن أعدائها، أو تقويض الديموقراطية من داخلها، كما حصل في المشهدية التي صارت «كلاسيكية» – إلى حد ابتذال اسقاطها كيفما كان، ونعني مشهدية وصول أدولف هتلر إلى سدّة المستشارية عام . لا، لقد غادرنا تماماً الزمن المعنيّ بالحالة الدرامية إلى تلك المشهدية، ولم تعد مشكلة الديموقراطية مع أعداء مصمّمين ضدّها، أيديولوجيين حانقين عليها، أو مجابهين لها على طول الخط. لقد صارت مشكلة الديموقراطية الآن مع نفسها، وهذا التضاد الداخلي يجهل نفسه إلى حدّ كبير، لأنه إلى حد كبير يتنامى في السرّ.

قد لا يكون هناك في عالم اليوم، من هو رافض للفكرة الديموقراطية غير «تنظيم القاعدة». المقاومات الأساسية ضدّ الفكرة الديموقراطية تلاشت، ابتلعتها حيرتها، بين الإحتيال على نفسها والإحتيال على سواها. لكن هذا التلاشي لن يعني الا استفحال أزمة الديموقراطية الحديثة نفسها، من حيث هي أزمة ابتعاد عمقها الفلسفي عن وقائعها وأشكالها.

فالديموقراطية الحديثة هي «مشروع ميتافيزيقي» أساساً كما يذكّرنا مارسيل غوشيه، هي مشروع «قائمية» الإنسان على نفسه، أي استقلاله المزدوج عن «حاكمية الغيب» وعن «سلطان الطبيعة»، سواء في النظرة إلى القانون أو إلى السياسة أو إلى التاريخ.

تكون الديموقراطية في أزمة اذاً، عندما تتضعضع معانيها، من حيث هي قائمية الإنسان على نفسه، ونهوضه بأحواله، فتبدو كما لو صارت غيباً، أفقاً يحيط بنا من كل حدب ولا يمكن تجاوزه، أو إذا تعاملنا مع «القوانين» التي تحكمها كما لو كانت نسخة مشوّهة عن قوانين الطبيعة.

بهذا المعنى، قد يكون نقد الديموقراطية بمثابة الممارسة النظرية والسياسية الأكثر جدوى في عالم اليوم، والنقد هذا، يبدأ من كونه نقداً لأشكال «توثين الديموقراطية»، سواء المتأتية من جعلها غيباً بديلاً عن كل الغيوب، أو الناتجة عن تصوّر آلياتها الداخلية كما لو كانت على صورة «قوانين الطبيعة» ومثالها. ولا يكون النقد بإخضاع الديموقراطية نفسها للغائب، كما لو كانت ظلاً له، ولا بالبحث عن «طبيعة» لها، من خارج «الطبيعة»، إنما يكون النقد، نقد الديموقراطية، بإخراج «القائمية»، قائمية الإنسان على نفسه ونهوضه بأحواله، من زحمة مرايا «التمثيل»، تمثيل الانسان للغيب المتعالي كقائمقام له، أو للطبيعة المحايثة، كقائم بها.

قائمية الإنسان مشروع استقلال مزدوج وتصالح مزدوج أيضاً: توطيد حيثية قانونية وسياسية وتاريخية لها قدر من الإستقلال والتماسك بإزاء كل من الغيب المتعالي والطبيعة المحايثة ، وقادرة على خلق مساحات للتبادل مع الغيب والطبيعة، هذه المساحات الضرورية أساساً للتفلّت من قيد الأساطير السياسية الحداثية، المؤسسة كلّها، على محاولات «تمثيل» الإنسان لصفات ما هو غير انسان، الغيب والطبيعة.

بيد أنّه، إذا كان باستطاعتنا نحت مصطلح «القائمية»، بالإحتكاك مع نصوص مارسيل غوشيه، يبقى أنّ نقد الديموقراطية لن يستقيم إذا ما تصوّرنا أنّ «العمق الفلسفيّ» هذا للديموقراطية الحديثة، كقائمية الإنسان على نفسه، هو عمق ينبغي احياءه. فالأسس «التنويرية الغربية» للقرن الثامن عشر، التي كانت السبّاقة في التأسيس لحجّية هذه القائمية لم تعد كافية، أوّلاً لأنّ ارتكازها على «الدين الطبيعي» لنقض المرجعية القانونية والسياسية لـ»دين الوحي» لا يجعلها قادرة على تأمين الشروط الكونية لمزدوجة الإستقلال والمصالحة مع الغيب والطبيعة، بل يحكم عليها بأن تبقى أسيرة «مرايا التمثيل»، تمثيل وجه الغيب أو تمثيل الطبيعة. وبهذا المعنى، فإنّ «انفكاك سحر العالم» الذي يشكّل مآل الحداثة الغربية، بقي أسير هذه المرايا. لأنّ العالم غير المسحور، أي الذي هجرته الآلهة والأرواح، هو عالم خارج نفسه، عالم منهك بتأمين «حاكمية الإنسان للإنسان»، أي نقل صلاحيات «الخلق من عدم» من الإله المتعالي اليه. لكنه انسان يريد، والحال هذه، الشيء ونقيضه: الحاكمية، أي السيادة المطلقة لنفسه، فيجعل من نفسه مصدر الشرعية، والدنيوية، أي تصوّر هذه السيادة المنسوجة على صورة السيادة السماوية ومثالها، لكن مضافة اليها دقّة قوانين الطبيعة.

في مطلع العشرينات من القرن الماضي، مثّل صدور الجزء الأوّل من كتاب «اللاهوت السياسي» لفقيه القانون الألماني كارل شميت لحظة فكرية تأسيسية بامتياز، لم تجد بعد من طريق للتفاعل النقدي الحي معها في الفكر العربي المعاصر. اعتبر شميت ان «كل المفاهيم الثاقبة في النظرة الحديثة حول الدولة هي مفاهيم لاهوتية مُعَلْمَنة». ونبّه إلى انه، لا يقصد بذلك فقط التحدّر التاريخي لهذه المفاهيم، وكونها انتقلت من دائرة اللاهوت إلى نظرية الدولة، ومن الإله الشارع (المشرّع) إلى المشرّع الوضعيّ كلّي القدرة. بل أنها كذلك من حيث بنيانها المنهجي: ففكرة الدولة الحديثة فرضت نفسها مع «الدين الطبيعي»، أي مع تصور لاهوتي – فلسفي يطرد المعجزات من عالمنا هذا، ويستبعد أي انقطاع في مسلسل الطبيعة. يعتبر شميت ان هذا التراث التنويري وجد صيغته الختامية في آخر الأمر مع غريمه في حقل الفقه القانوني، العلامة هانس كلسن، فيلسوف «الوضعية القانونية» التي ترى وجوب تطوير هرم القوانين الوضعية في محاكاة لقوانين الطبيعة، وبالتالي العمل على نبذ أي وضع استثنائي في مضمار الذهن البشري، وبالتحديد الذهن التشريعي. وهكذا، يعرّف كارل شميت مفهوم الديموقراطية عند غريمه، بأنّها «نظام لا مكان فيه للمعجزة». في المقابل، اذ يرتكز كارل شميت على تركة مفكري الثورة المضادة (دو بونالد، دو ميستر، دونوزو كورتيز) في القرن التاسع عشر، فإنه يستعين بالمفهوم اللاهوتي لـ»المعجزة» لإعادة تعريف معنى السيادة، ومن ثم تحديد من ينطق بالحق، ومغزى النطق بالحق.

ففي عالم لم يعد مسحوراً، في عالم أطاح به «الدين الطبيعي» بـ»دين الوحي»، ليس السيّد هو من يسعى لأن يحقّق كمال صورة المشرّع الذي يريد أن يبني سلفاً عمارة قانونية تتضمن جواباً مسبقاً عن كل سؤال، وتتكامل مع عمارة سياسية تبقي كل الأسئلة موضع النقاش والتداول، انما السيّد، هو بالضدّ من ذلك، من يفهم أن فقه القانون لا يمكنه ان يكون على صورة «قوانين الطبيعة» ومثالها، ولا يمكنه أن يرتاح ذهنياً إلى بناء عمارة افتراضية ثم جعل الأمور تحتكم آلياً اليها. السيّد ليس اذاً من يخضع لفكرة انّ «زمن المعجزات» صار وراءنا، بل من يتنبّه إلى أنّ المعجزة انتقلت هي الأخرى من مفهومها اللاهوتي إلى مفهومها السياسي الحديث، وصارت «حال الاستثناء» أو «حال الطوارئ»، ومن هنا، عبارة كارل شميت الشهيرة «السيّد هو من يقرّر حال الاستثناء»، هذه العبارة التي لن تكون من دون أثر على تحوّل شميت فيما بعد إلى مشايع للنازية (رغم اختلافه الأيديولوجي معها، كونه كاثوليكي محافظ)، ومبرّر نظري لليلة السكاكين الطويلة التي صفّى فيها أحد أجنحة الحزب النازي الآخر، وكل ذلك تحت عنوان «الفوهرر يحمي القانون».

أيّاً يكن من شيء، تبقى هذه اللحظة «الشميتية» من عام ، على خطورتها، تأسيسية، بالنسبة إلى أي مقاربة نقدية لمسألة الديموقراطية الحديثة، ليس فقط لأنها تعيد إلى فكرة «دين الطبيعة» هذا التصوّر للديموقراطية كانتظام عام يقصي أحكام الاستثناء، ولا لأن صاحبها انتهى تنظيره لـ»معجزة حال الاستثناء» إلى مباركة أدولف هتلر، وانّما أساساً، لأنها تقع، فيما يعنينا، بين حدّين.

الحدّ الأوّل، يظهر مع الرجعي الاسباني دونوزو كورتيز في القرن التاسع عشر. اعتبر انه اما ان تكون الشرعية هي بالحق الالهي للكنيسة والملوك أو لا تكون، فسخر كورتيز من حال ملوك يريدون استقاء شرعيتهم من الشعب، واعتبر في خاتمة المطاف انّ ما انتهى مع أفول عصر «الحكم المطلق» هو الشرعية نفسها، وبالتالي، الزمن الحداثي هو زمن بلا شرعية، انما يدور الصراع فيه بين خيارين: الخيار البرلماني الليبرالي للبرجوازية التي يسمّيها كورتيز بـ»الطبقة الثرثارة»، وهو خيار همّه التداول والنقاش إلى ما لا نهاية، عوضاً عن «التقرير»، وبين سلطة تقريرية لا يمكن بعد ان تستند على مفهوم الشرعية المنقضي، وانما تشهر ببساطة أهليتها الوحيدة: الديكتاتورية. اللافت في هذا المجال ان كارل شميت في «اللاهوت السياسي» يقارن بين مآل «المعادي للثورة» دونوزو كورتيز، والثوري الفوضوي الروسي ميخائيل باكونين. كلاهما اعتبر انه لا قيامة بعد اليوم للشرعية، فالشرعية بالحق الالهي تكون أو لا تكون، والشرعية الالهية المنقولة للشعب إما تدليس أو رياء، وكلاهما اعتبر ان البرلمانية ثرثرة، ونظّرا للديكتاتورية، سوى انها كما يقول كارل شميت «ديكتاتورية لا ديكتاتورية» في المآل الفصامي لفكر باكونين.

أمّا الحدّ الثاني، فهو استرجاع حاكمية الغيب التشريعية نفسها، فهي اذ انقطعت بها السبل مع انتفاء «لاهوت الحق الالهي الممنوح للملوك« في أوروبا، الا انها حاكمية كان لها مقام آخر، حيث لم ينوجد أساساً مثل هذا الحق الالهي الممنوح للملوك، أي في الفقه السياسي الاسلامي. هنا، كانت أيضاً نقلة نوعية، وهي فقه الحاكمية لدى أبو الأعلى المودودي وسيد قطب. لا يمكن أن يعطي الانسان الشرعية لنفسه، وحكم الإنسان للإنسان منشأ كل عبودية بين البشر، وكل «تفرعن». اقتضى ذلك اعادة تعريف معنى التوحيد: لم يعد توحيد الربوبية كافياً، ولا توحيد المعبودية (الحركات الاحيائية والصحوية في القرن الثامن عشر في نجد واليمن والهند)، بل صار المقتضى توحيد الحاكمية، فلا شارع (أو مشرّع) غير الله. طبعاً، تصور المودودي بقي أكثر إحاطة وبراغماتية، لأنه حاول ان يوازن بين فكرة «الحاكمية لله» وبين النظرية الدستورية الغربية لـ»الفصل بين السلطات»، فهو اذ سحب سلطة التشريع من البشر، أبقى لهم سلطة التنفيذ، والتشاور في ما بينهم، والقضاء، تحت مظلة الحاكمية الالهية العامة، ومن هنا، حاول المودودي تقديم تصوّره التجديدي في الفقه السياسي على انه «ثيو ديموقراطية».

دونوزو كورتيز، كارل شميت، أبو الأعلى المودودي، سيد قطب: ليست هي الأسماء التي تحضر بالعادة عندما يكون المطلوب إعادة تقريب أشكال الديموقراطية إلى مضامينها. مع ذلك، فإننا ندّعي بأن وراء هذه الأسماء ما نحتاج اليه: وعي أنّ صوغ قائمية الإنسان على نفسه عليها الاحتراز من كل استسهال لنقل صلاحيات الغيب المتعالي أو الطبيعة المحايثة منهما إلى الإنسان.

نعم، لقد دلّت تجارب القرنين الماضيين إلى أن «تعبيد الناس للناس» بداعي التحديث، لم يكن مجرّد وهم في خيال سيد قطب، نزيل السجون الناصرية، وانّ تصوّر الديموقراطية على انها «نظام قانوني طبيعي متسلسل لا مكان فيه للاستثناء» يفقدها بالدرجة الأولى المناعة أمام حركات تقويضها، ومن هنا راهنية كارل شميت، أما اشاعة لفظة «الشرعية» كيفما اتفق، فهو يظهر بالفعل منسوب اللامعنى الملازم لهذا المصطلح في العصر الحديث، كما شخص ذلك دونوزو كورتيز. مع ذلك، وبالضدّ من كل الخلاصات العملية لهؤلاء، ينبغي الاستفادة من اسهاماتهم الفكرية المتعددة المستويات، لنقد الديموقراطية، لأجل اعادة تأسيس معاني القائمية: قائمية الانسان على نفسه وأحواله، على قاعدة شبكات من التعاقد بين البشر، وفيما بينهم وبين الغيب والطبيعة. بخلاف الفكرة العلمانية الحادة: «حاكمية الإنسان على نفسه»، التي تستلزم حصر العقد الاجتماعي بين البشر، تتأسس فكرة القائمية على إشاعة مفهوم التعاقد في كل وجهة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى