باسل العوداتصفحات سورية

محاكمات ضرورية/ باسل العودات

 

 

فشل النظام السوري بتعامله مع الأزمة السورية منذ أيامها الأولى، ولم ينجح باحتواء احتجاجات بسيطة مُحقّة تطورت لانتفاضة ثم لثورة، فاستخدم السلاح والعنف المفرط لإسكات صوت الشعب وإرادته، وارتكب خلال أربع سنوات ونصف كل ما يمكن للبشرية أن تتخيله من أشكال القتل والتنكيل والإجرام.

الحراك الثوري أفرز في الأشهر الأولى قيادات ثورية شبابية ريادية لافتة، استهدفها النظام قبل غيرها، ثم حاول تشويه الثورة فحرّض طائفياً ورعى بعناية كل النزعات الطائفية الطارئة، وفتح سجونه لتُخرج ما في بطونها من انحراف، واستخدم إعلامه لنشر ثقافة الحقد، ودسّ رجاله ليمارسوا ما ربّاهم عليه ويُحمّلوا النتائج للمعارضة، وبعد ضُعفه، سلّم مره لغيره، روسيا وإيران على وجه الخصوص، وخرج القرار السوري من يد السوريين.

وصلت الأزمة السورية لمرحلة لم يعد يصلح معها الحل السياسي التقليدي، فالدماء “سالت للركب”، والحقوق ضاعت، والضيم والظلم عمّ، ولن ينفع أي حل لا يُطفئ لأحقاد، ويُعاقب من أودى بسورية إلى هذا الدرك.

في هذا المقام، يتربع على عرش حتمية المحاكمة النظام السوري بكل تنويعاته، فهو الذي استخدم العنف والأسلحة الثقيلة بكل أنواعها ضد الشعب، ولم يميز بين مدني وعسكري، أو بين طفل وامرأة ورجل، وأخذ الصالح بالطالح في عملية لا يمكن وصفها إلا بـ (الانتقام)، وسمح لميليشيات من دول أجنبية بالتدخل لقتل أهل البلد.

لابد من محاكمة كل الكادر القيادي الذي أعطى الأوامر وخطط لها وحدد المسار الدموي للنظام، وسمح بارتكاب جرائم ضد الإنسانية واستخدام السلاح الكيماوي، وقرر أن يستخدم الطيران الحربي ويُطلق الصواريخ البالستية على المدن، والعقل المجرم “البرميلي” الذي فكّر بالبراميل المتفجرة كوسيلة لربح الحرب.

وينسحب الأمر على قادة الأجهزة الأمنية الذين حوّلوا الأمن لعصا غليظة بيد النظام، تبطش وتُعذّب وتقتل دون تفكير، وتحوّل منهم لقادة ميليشيات طائفية انفلتت من عقالها لتذلّ العباد وتعذّبهم وتسرقهم وتقتلهم وتتاجر بأعضائهم البشرية، وتستبيح سورية كلها.

ويجب أن لا تنسى العدالة كبار مسؤولي إعلام النظام، ومن سمح باستخدام الإعلام الرسمي للتحريض على قتل السوريين، ومعهم رهط من المنظرين وفلاسفة النظام الذين أثاروا أحقاداً طائفية دميمة، فضلاً عن أهم ممولي النظام المستفيدين من أجيج حربه لزيادة ثرواتهم.

هذه العدالة الانتقالية يجب أن تطال أيضاً رؤوس هذه الشرائح الواضحة، والتي يسهل إدانتها ويصعب الدفاع عنها مهما كان (القضاء الانتقالي) ركيكاً مهادناً يسيراً، فهؤلاء لا يتحملون فقط سيلاً من دماء السوريين،

لكن، وبما أن العدالة الانتقالية يجب أن تكون مفتاحاً لبداية عهد جديد وبوابة لسورية ديمقراطية تعددية ودولة للمواطنة والقانون، لابد من أن تطال أيضاً شريحة أخرى من الضفة الأخرى، ممن حُسِب على المعارضة ولم يكن أحسن حالاً ولا أكثر براءة من النظام.

لابد من أن تطال هذه العدالة رموزاً وقادة في المعارضة السياسية والعسكرية السورية ممن باع وهم أهمية العمل المسلح وشارك في إيصال السلاح للشباب الثائر ليساعد النظام على تبرير استخدامه السلاح ويّحوّل الثورة الفريدة إلى حرب، ومع هؤلاء لابد من محاكمة من سرق أموال المساعدات وكنز الملايين وحرم منها الجياع الذين انحازوا للمتطرفين لسد حاجته.

وفي السياق، لابد للعدالة الانتقالية أن تطال كل من حرّض بوسائل الإعلام على القتل من منطلق طائفي بحت، وشجّع الشباب على الموت في المعارك وهو قابع في فنادق فارهة، ومعهم أصحاب البذات الذين تحوّلوا لمرتزقة على أعتاب الدول الداعمة، وأولئك الأشاوس من مقتنصي الفرص الذين ظهروا فجأة في واجهة المعارضة وحملوا على عاتقهم مهمة زيادة سعير الحرب وبشاعتها.

لا يمكن أن يُستثنى بعض العسكريين، ممن استخدم المدن ملاذات لعملياته العسكرية، وهم على يقين بأن النظام لن يتردد بقصف البيوت على رؤوس سكانها بحجتهم، وأولئك الذين قاموا بتشكيل مجموعات مسلحة باسم الجيش الحر كغطاء للسرقة والسطو والاختطاف.

الأكراد كذلك ليسوا خارج هذه الحسابات، فبينهم أمراء حرب ارتكبوا مجازر وتهجير وتطهير عرقي، ومنهم من لعب على وتر الدولة القومية المستقلة للتغرير بآلاف الشبيبة الأكراد لزجهم بحرب لا تمثلهم، ومنهم من وافق على دخول أكراد من تركيا والعراق وانقلب على الجيش الحر وقاتله.

أما تنظيم الدولة الإسلامية، فله حساب آخر، ليس لحجم إجرامه ودمويته، ولا لنهبه النفط وتدميره الآثار، بل لأنه كان أهم سبب في حرف الثورة عن مسارها ومد حبل الإنقاذ للنظام.

عملياً، حتى لو تم التوافق على حل سياسي ما، فإن نار السوريين لن تهدأ إذا لم يُحاكم هؤلاء، لا فرق إن دفعة واحدة أو على دفعات، بيد السوريين أو بيد غيرهم، المهم أن يتم ذلك حتى تنطفئ نار الأحقاد التي اشتعلت ولن يُطفئها شيء آخر.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى