صفحات الرأي

في وداع المؤرخ كمال الصليبي


بطاقة

ـ وُلد في بيروت في 2/5/1929. ـ والده الدكتور سليمان خليل الصليبي. تخرج في الجامعة الأميركية في بيروت العام 1904، وكان ضابطا في الجيش المصري في السودان. ـ والدته سلوى ابنة الدكتور إبراهيم الصليبي الذي تخرج بدوره في الجامعة الأميركية عام 1882، وعمل طوال حياته طبيباً في مدينة الخليل بفلسطين، ثم في بلدة السلط بشر في الأردن. ـ نشأ في بحمدون (لبنان) وكانت دراسته الابتدائية في المدرسة الإنجيلية في بحمدون التي كانت تديرها عمته وديعة الصليبي. ثم تلقى دراسته الثانوية في مدرسة برمانا العالية، ومن بعدها في الأنترناشيونال كولدج التابعة للجامعة الأميركية. درس التاريخ الأوروبي والعلوم السياسية في الجامعة الأميركية أيضا، وكان له اهتمام باللغات السامية. وكان أستاذه في هذا المجال الدكتور أنيس فريحة. ـ ذهب إلى جامعة لندن فدرس التاريخ العربي والإسلامي على يد الدكتور برنارد لويس، وكتب رسالة الدكتوراه في موضوع “المؤرخون الموارنة وتاريخ لبنان في العصور الوسطى” ونال الدكتوراه على أساسها العام 1953. ـ وبعد عودته من لندن، عين أستاذا في الجامعة الأميركية، ثم أصبح رئيس دائرة التاريخ فيها. ـ غادر لبنان الى الأردن إبان الحرب الأهلية في سبعينيات القرن العشرين. ـ أثار كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” جدالا فكريا وسياسيا كبيرا ما زال مستمرا حتى اليوم. وقد هاجمه كثيرون من المؤرخين ورجال السياسة، لكن لم يتمكن أي واحد منهم من نقض هذه النظرية التي تقلب النظرية التاريخية التقليدية رأسا على عقب. ـ من مؤلفاته: ÷ “المؤرخون الموارنة وتاريخ لبنان في العصور الوسطى” (1959). ÷ “تاريخ لبنان الحديث” (بالإنكليزية ـ 1965، وبالعربية ـ 1968). ÷ “مفترق الطرق إلى الحرب الأهلية (1976). ÷ “سوريا تحت الإسلام” (بالإنكليزية 1977). ÷ “منطلق تاريخ لبنان” (بالعربية ـ بيروت 1979). ÷ “تاريخ الجزيرة العربية” (بالإنكليزية ـ بيروت 1980). ÷ “التوراة جاءت من جزيرة العرب” (1985). ÷ “بيت بمنازل كثيرة” (بالإنكليزية والعربية ـ بيروت 1988). ÷ “خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل (بالإنكليزية والعربية ـ لندن 1988). ÷ “من كان يسوع؟” (بالإنكليزية ـ لندن 1989)، وصدر بالعربية بعنوان “البحث عن يسوع” (1999). ÷ “حروب داود” (بالعربية ـ بيروت 1991). ÷ “تاريخ الأردن الحديث” (بالإنكليزية ـ لندن 1993). ÷ “طائر على سنديانة” مذكرات (2002). ÷ “بيروت والزمن” دار نلسن، بيروت (2009). ÷ “الموارنة” (نسخة مزيدة ومنقحة 2011). ÷ “سوريا تحت الإسلام” (مترجمة إلى العربية 2011). من أقواله: ـ “الذي يفجر” نفسه في الجنوب اللبناني، والذي يستمر في المقاومة بالرغم من كل ما يحصل من ردود وحشية على المقاومة هو إنسان غير الإنسان الذي يتآمر في الخفاء ويحوك الدسائس. ـ “أميركا أرادت تدمير البلد لأنها لم تستطع شراءه. ـ إن تاريخ بني إسرائيل كشعب زال من الوجود في القرن الخامس قبل المسيح. وتاريخ اليهودية كدين هو شيء آخر، فبنوا إسرائيل في زمانهم سواء عاشوا في فلسطين أو في عسير كانوا يهودا. ولكن لم يعد لهم وجود كشعب. أما اليهود فهم مجموعة دينية من شعوب وعروق مختلفة تدين بالدين الذي دان به بني إسرائيل في زمانهم، ولكنهم ليسوا هم بالذات بني إسرائيل. والدعوة الصهيونية على خطأ لأنها تعتبر أن يهود اليوم هم الورثة الشرعيون لبني إسرائيل. وطبقا للمفاهيم الصهيونية فاليهود لهم حقوق عقارية في الأرض التي كان يعيش فيها بنو إسرائيل في السابق أينما كانت. ـ “أنا مع تجنيس الفلسطينيين في لبنان، والموقف ضد التوطين كلام فارغ. للفلسطيني حقوق مدنية وسياسية يجب أن يأخذها”. (مجلة “المستقبل العربي”، آب 2010). ـ “مخطط قيام لبنان ليس بريئاً (…) وضعته مجموعة من المسيحيين من بعض أعضاء الطوائف الكاثوليكية في دمشق (…) وهذا حصل قبل نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (..) كان لبنان بالنسبة إليهم جزءاً من مسألة تجارية. وما حصل في ما بعد أن الفرنسيين حين جاؤوا إلى المنطقة وجدوا المشروع فتبنوه. وتاريخ لبنان في هذا السياق فضيحة أو جرصة”. (مجلة “المستقبل العربي”، آب 2010).

رحيل كمال الصليبي رائد المنهج التاريخي العربي

كتب رضوان السيد

رحل أمس عن 82 عاما المؤرخ كمال سليمان الصليبي، وما اشتغل أحدٌ من المؤرخين العرب المُحدثين على التأويل التاريخي والتحول التاريخي كما اشتغل الراحل الكبير طوال أكثر من خمسين عاماً. وهو لهذه الناحية مختلفٌ في الرؤية والمنهج عن أعلام مدرسة الحوليات الفرنسية، والتي سيطرت رؤاها لأكثر من خمسة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت ولا تزال تعتمد الحِقَب الطويلة سبيلاً للتأمل والتأويل والفهم أو إدراك طبيعة المرحلة، بحسب التعبير الماركسي. أمّا كمال الصليبي فهو منذ أُطروحته للدكتوراه بإشراف برنارد لويس في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات من القرن الماضي، مُغرَمٌ بإدراك حركة التاريخ و «نبضها الحقيقي»، والذي يحدث في الأصل في وعي النخبة الثقافية – الدينية أو الاجتماعية – الاقتصادية في أمةٍ معينةٍ في عصرٍ ما، وتكون نتيجة ذلك حدوث «تغيير ثوري» يعيد بناء الذات القومية – الثقافية أو الذات السياسية، فيصنع مجتمعاً جديداً بفكرٍ جديدٍ، ويفيض بصورةٍ توليفيةٍ أو تنافرية. وقد حدث ذلك في التاريخ العربي القديم أو ما قبل التاريخي، بظهور المسيح العربي بنواحي الطائف، وقبل ذلك إبراهيم العربي بمكة، وبعد هذا وذاك محمد العربي، وهو الأمر نفسه الذي لاحظه الصليبي الرؤيوي والدؤوب في الوقت نفسه في ظهور التُرك في تاريخ المشرق والعالم، ومن السلاجقة والمماليك والمغول والتتار والى العثمانيين، كما رآه في ظهور الدولة السعودية وفي عمل النخبة أو النُخب المسيحية من أجل إقامة لبنان، ومن أجل إحداث النهوض العربي.

من أين أتى هذا التركيز في الرؤية والوعي وبالتالي في المنهج التأويلي الشاسع الاتساع والغُلُو أحياناً؟ الصليبي يقول مثل ابن خلدون بأهمية «العصبية» الإثنية أو القومية والتي قد يكون أصلُها قبلياً أو لا يكون، لأن النسب أمرٌ وهميٌ، والمهم الوعي الخاص والبازغ لدى مجموعةٍ أو فردٍ ذي جاذبيةٍ أو كاريزما. بيد أن الصليبي لا يقول مثل ابن خلدون بالدعوة الدينية بوصفها شرطاً ثانياً في التحول التاريخي أو تبلور القوميات والدول. بل ان النخبة عنده قد يحدوها تفكير ديني جديد، أو تكون الإثنية الذاتية أو مصارعة السيطرة الأجنبية، أو نشر السطوة الاقتصادية، هي مناطُ هذا الوعي. ووجهةُ نظره أن التحول العربي التاريخي بظهور الإسلام، إنما يستند الى وعيٍ مُشابهٍ بالذات، وليس كما يقصد ابن خلدون.

والواقع ان كمال الصليبي إن لم يكن خلدونياً بسبب ما رآه من رتابةٍ ودائرية في الحركة التاريخية عند ابن خلدون، فهو فيبري، نسبة لماكس فيبر (1864-1920)، والذي رأى ان التطورات التاريخية الكبرى مثل الظهور الرأسمالي في أوروبا، انما حدثت نتيجة ظهور وعي جديد، عبر البروتستانتية الكالفينية التي غيّرت من رؤية العالم في المسيحية الكاثوليكية، وأنتجت وعياً جديداً وأخلاق عملٍ جديدة (= اعتبار العمل الدنيوي بمثابة الرسالة والعبادة كان في أصل التطورات الرأسمالية الكبرى). وقد اقترن ذلك الوعي بوعيٍ ثقافيٍ نصرَ التوجه القومي على التوجه الإمبراطوري البابوي الموروث من عصر الإقطاع. ويبقى الفرق بين تفكير الصليبي وتفكير ماكس فيبر، أن الصليبي راقب تحولات الوعي والعمل في المشرق من أقدم عصوره وحتى اليوم، في حين راقب ماكس فيبر ذلك في الغرب الأوروبي والآسيوي، وأن فيبر اشتغل مثل أهل الحوليات في ما بعد على الحقب الطويلة في حين كانت التحولات في نظر الصليبي أسرع حدوثاً وان جرت على سطح ثوابت باقية. لكن الرجلين يلتقيان على أهمية العنصر الإيديولوجي في التحول، وان ذلك يقترن في الغالب – وليس بالضرورة كما ذكر الماركسيون – بتطوراتٍ مادية الطابع في الواقع.

عمل الصليبي في نطاق وسياق هذا المنهج الذي اعتبره البعض نخبوياً، وذا خصوصيةٍ، لأنه لا يهتم بالحركات الجماهيرية الضخمة، ولا بالتاريخ الحضاري أو الثقافي الكبير والعريض للأمة، بل بالتحول العنيف والمفاجئ وذي الطابع المُدهش، دونما عنايةٍ ظاهرةٍ بالسوسيولوجيا، وانما ببعض التطورات الاقتصادية الطارئة.

لكنه في تطوير عمله من حيث الموضوع والاهتمام مرّ بمرحلتين كبيرتين:

الأولى: الاهتمام بالخصوصية اللبنانية، وقد امتدت عنايته تلك على مدى حوالى العقدين من الزمان. وقد كان واضحاً ان اهتمامه هذا لا يستند الى خلفيةٍ مسيحيةٍ، بل الى وعيٍ بأن القلّة المسيحية إنما تملك وعياً رسالياً ضمن الكثرة الغالبة وذلك لتأثره بكتاب ألبرت حوراني بشأن رسالة النخبة المسيحية الإيجابية في المشرق العربي في عصر النهضة. وما انصرف عن التأسيس على حوراني إلا مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وبروز «الوعي»القومي لدى النخب المارونية أو المارونية السياسية على الخصوص، بالانفصال عن العرب أو عن المنطقة إن أمكن. لقد صار الوعي الماروني، والى حدٍ ما المسيحي، فصامياً أو انفصالياً، ولذا فإنه فقد رسالتيه، وما عادت له وظيفةٌ تجاه الذات أو تجاه الآخر العربي المسلم.

أما المرحلة الثانية، فإنها تمتد منذ أواسط الثمانينات والى مطالع القرن الواحد والعشرين. وقد امتلأت بأعمال العروبة والعربية المطلقة، ومن الجهات والأصول الدينية والثقافية والجغرافية. ولعل هذه هي الفرصة لإضافة بُعدٍ مهمٍ الى منهج استكشاف التحولات التاريخية لدى الصليبي، هو البُعد التأويلي الشاسع أحياناً، فقد أعاد تفسير وتعريب اليهودية والمسيحية عبر العهدين القديم والجديد لتظهر فيهما خصوصيةٌ عربيةٌ منذ القرن السابع أو السادس قبل الميلاد، والى ظهور الدول العربية الحديثة. وقد أثارت هذه التأويلية الهائلة في قراءة النصوص، تأكيداً على الظهورية العربية الخالدة، سخط أكثر الباحثين في التاريخين اليهودي والمسيحي، لكنها أكسبت الراحل شعبيةً واسعةً في أوساط العروبيين والمسلمين.

كمال الصليبي صاحب شخصيةٍ متفردةٍ بين المؤرخين والمفكرين العرب. وهو أيضاً صاحب منهجٍ متفردٍ في كتابة التاريخ في المحيط العربي، ما وافقه عليه اليساريون، ولا اقتنع به القوميون، وأثار في العقود الأخيرة سُخط النُخب الدينية المسيحية. لكنه يبقى إنساناً وكاتباً شديد النزاهة، وبالغ الدقة، وسيبقى له أنه رائدٌ من رواد النهوض بالمنهج التاريخي العربي بأدواتٍ معرفيةً واسعة، كما أنه رائدٌ من رواد العروبة الجديدة، والتي ما غادرها لا في أزمنة الانفصال والبعثية القرمطية، ولا في أزمنة الاستئصال باسم الإسلام.

تفكيك الأسطورة

وجيه كوثراني

يغيب كمال الصليبي بصمت وهدوء، بل إمعاناً في اغناء مشهدية صمت الكاتب، حيث اعتزل كمال الصليبي سنواته الأخيرة في منزله منفرداً. يبعث إلينا المؤرخ برسالة «غيبوبة»… عزلة ثم غيبوبة، كأن كمال الصليبي يقول عبرها: أترك الكلام ثم الحياة، لأصحاب الثرثرة والسفسطة والخطابة الجوفاء والكذب والادعاء. كمال الصليبي، مؤرخ أخذ على نفسه منذ البدايات، كشف «الأسطورة»، لا سيما الأسطورة الأحادية التي لا تبني وطناً كريماً، ولا دولة جامعة، ولا تاريخاً حضارياً عقلانياً محققاً ومقنعاً وشاملاً ومستوعباً لتعدد الثقافات والحضارات. «أساطير اللبنانيين» عبر ذاكرات طوائفهم واثنياتهم، أساطير تفرق ولا تجمع. اكتشف كمال الصليبي هذا، عبر المعرفة التجريبية الصادقة، أي عبر التعامل المباشر مع المصادر الأولى، اطلاعاً وتدقيقاً ونقداً. أسطورة فخر الدين على سبيل المثال، أي صورة هذا الأخير «كموحد» للبنان ومؤسس لإمارة هي أصل الدولة اللبنانية الحديثة، أسطورة جذبت المؤرخ الشاب، لكنه ما لبث عبر الاستزادة من التوثيق والتحقق، ان اكتشف «أسطورية» القصة الموضوعة. أسطورة متجاذبة من مواقع ايديولوجية سياسية اخرى، درزية وسنية، بل هي مرفوضة من موقع الذاكرة الشيعية الجماعية. أخذ كمال الصليبي على نفسه، إعادة قراءة جدية وتوثيقية للتاريخ الحدثي ـ السياسي للبنان، لبنان الوسيط ولبنان الحديث ولبنان المعاصر، متصوراً لبنان «بيتاً، ممكنا» بمنازل عديدة، لكن الأسطورة الجديدة «بيت بمنازل عديدة»، لم يستوعبها «خطاب العيش المشترك» وأهله، لا عبر الميثاق الاستقلالي، ولا زمن «الطائف»، ولا زمن «الدوحة» وهيئات الحوار المجربة او المتوقعة. واليوم لم يبق في لبنان من كتابات كمال الصليبي إلا الحلم، وإلا كونها مراجع لأهل الاختصاص وهم قلة. انحصرت المساحة اللبنانية في الخطابة السياسية الرديئة وحدها، يصول فيها من يجيدها لسانا، ومن يتلعثم بها لا فرق… لكن كمال الصليبي، ليس مؤرخا “للساحة اللبنانية” فحسب، فتجربته المعرفية في الدراسات التوراتية، هي أكثر أصالة وجرأة واقتحاما لمجال التاريخ الحضاري والديني في المنطقة العربية. ففي مباحثه التاريخية التوراتية، يدخل كمال الصليبي، بحق تاريخ تفكيك الأسطورة، لا مجرد الأسطورة الإيديولوجية السياسية اللبنانية العابرة، التي هي من تمددات الصراع السياسي اللبناني ـ اللبناني العابر بين طوائفه، بل الأسطورة المؤسسة للتاريخ العالمي وتاريخ الحضارات. “التوراة جاءت من شبه الجزيرة العربية”، ليست شطحة ولا فرحة، بل ليست اختراعا من قبل كمال الصليبي. إنها فرضية اشتغل عليها المؤرخون الألمان ثم الأميركيون، في أواخر القرن التاسع عشر، ولم تتوقف إلا بفعل المنع الصهيوني. قامت الفرضية على معطيات ومعارف جدية متخصصة في تاريخ الحضارات والأديان. ان استعادة كمال الصليبي هذه الفرضية وتأهيلها على أساس المقارنة الإيديولوجية لأسماء الأماكن في عسير يمهدان مبدئيا لمرحلة برهانية جديدة لإثباتها أثرياً. فإن ثبتت صحة هذه الفرضية انهار البناء الإيديولوجي (الأسطوري) للصهيونية في فلسطين بكامله. ورأيي أن أحد مظاهر هذا الانهيار اليوم البحث العبثي عن هيكل سليمان في القدس. كمال الصليبي، كان جريئاً وشجاعاً في بعث هذه الفرضية، بل كان مفكراً مناضلاً ضد المشروع الصهيوني، هذا لو أحسن العرب توظيف هذه الفرضية في السياسات الثقافية والعالمية، والسياسات التربوية والدينية، وشجعوا على التحقق من صحتها تشجيع الحفريات والبحث الأثري. كمال الصليبي، المؤرخ التجريبي، الباحث الدائم عن الحقيقة، والمجد والمستمر لمعارفه، فارقنا صامتاً في أيامه الأخيرة، لكنه ترك لنا منهجاً في البحث الدؤوب وأخلاقاً سامية في نبالة العالِم المتواضع، وحقولاً يحتاج الحرث فيها إلى حارثين.

كمال الصليبي صاحب فتوحات وكشوفات

كمال الصليبي الذي انطفأ أمس علم في ثقافتنا. لم يكن الرجل فقط علامة متبحرا في تاريخ المنطقة تحرى حقائقه ومحص ودقق في موروثه ووقف عند كل واحد من تفاصيله، لكنه بالإضافة إلى ذلك كان صاحب فتوحات في التاريخ. فهو في نظريته عن مصادر التوراة او نظريته في اصل المسيحية او تحريه لأصول الموارنة كان مجدداً وفريدا وصداميا. والواقع انه بهذه الفتوحات زلزل أصولاً ثابتة وهز دعائم راسخة واقلق قواعد واصطلاحات عريقة. لم يكن الرجل معلما ممتازاً لكنه بالإضافة إلى ذلك كان رائداً وثوريا في مجاله، فكمال الصليبي نجح في تشكيكنا ليس فقط بتاريخ لبنان بل بتاريخ المنطقة والأديان التي كانت المنطقة مسرحها ومصدرها. لقد امضى حياته وهو ساع وراء الحقيقة سواء لاءمته او لاءمت محيطه وبيئته ام لم تلائمهما. امضى حياته هو الحكيم المتأمل الرصين وهو يصارع ما اعتبره أوهاماً ويعارك ما اعتبره متحجراً، ولا بد من انه اقلق معتقدات ثابتة وايمانات شامخة، لم يكن هذا ليثنيه فقد نذر نفسه للعلم والحقيقة مهما كانا صادمين وعريقين. لا نبالغ إذا قلنا ان علامة مثله لا يعوّض واننا سننتظر طويلاً قبل ان نحظى بواحد في مستواه، لكننا متأكدون من ان فتوحات وكشوفات كمال الصليبي ستبقى طويلاً وطويلاً جداً تثير حولها نزاعات ونقاشات. انها كشوفات للمستقبل وسيمضي زمن طويل قبل ان يقطع العلم فيها.

مصالحة اللبنانيين مع تاريخهم

فواز طرابلسي

على امتداد أربعة او خمسة عقود من الزمن اختصر كمال الصليبي في شخصه علم التاريخ في لبنان. ولا مبالغة في ان يلقبه ألبرت حوراني «أكبر مؤرخ لبناني على قيد الحياة». وإذ يفارق الصليبي الحياة، نشعر فجأة بضخامة الفراغ الذي يتركه غيابه. تنوعت مساهمات كمال الصليبي في التوثيق والتدوين والتأريخ وتجاوزت حدود لبنان. أرخ لسوريا في ظل الحكم العربي وللجزيرة العربية والاردن وروى بمنهج التحقيق التاريخي، شبه البوليسي، قصصا من التوراة والأناجيل. غير ان الإرث الأكبر الذي يتركه لنا هو عشرات المقالات والدراسات والكتب عن شخصيات وحوادث وحقبات في تاريخ لبنان من تاريخ الموارنة ومؤرخيهم إلى حرب السنتين 1975ـ1976 وما بينهما. ولم يتردد في الخوض في المذكرات والذكريات عن مسقط رأسه بحمدون كما عن بيروت الاربعينيات والخمسينيات. جازف ثلاثا في كتابة تاريخ لبنان الحديث. انتقل من الملجأ الجبلي إلى الشراكة المارونية ـ الدرزية إلى العقد الاجتماعي بين الطوائف الذي لا يتجدد ولا يفسح المجال لجماعة وافدة جديدة إلا بعد حرب. وكانت كل محاولة تغتني بالمزيد من الابحاث والمكتشفات والمراجعات إلى ان كان عمله الأكثر خصوبة واكتمالا، في المنهج والأسلوب والمضمون، هو رائعته «بيت بمنازل كثيرة». رأى كمال الصليبي إلى الحرب الأهلية الأخيرة على انها أيضاً حرب بين سرديات طائفية للاستحواذ على تاريخ لبنان. وادرك في الآن ذاته ان هذه الحرب على التاريخ قد دمرت عدداً لا بأس به من روايات وسرديات وخرافات تاريخية. قرر وضع جردة بما دمّر. وآل على نفسه اقامة الصلة بين اعادة بناء الوحدة اللبنانية بعد الحرب وبين مصالحة اللبنانيين مع تاريخهم. تصدى للخرافات والتفسيرات والروايات السائدة من الحتمية الجغرافية إلى الجوهرية الفينيقية، واخرج فخر الدين معن الثاني وبشير شهاب الثاني من الخرافة ووضعهما في التاريخ، ونقد الروايتين القوميتين الرائجتين، اللبنانيوية والعروبية، وتجاوزهما في مقولة تؤكد ان لبنان يستمد خصوصيته من انتمائه العربي ولا يستمدها ضد ذاك الانتماء. لكنه في الوقت ذاته اطلق هذا التحذير التاريخي: لقد اجلت الصهيونية اليهود العرب من المنطقة فحذار ان تنجح الاصوليات الدينية في اخراج المسيحيين منها. وصاغ معادلته اللامعة التي تقول ان العرب لن يعودوا عربا من دون المسيحيين العرب. كتابة التاريخ قشيبة بل جافة معظم الأحيان. حمل إليها كمال الصليبي الطراوة والتخييل والتشويق. ونحن الذين حاولنا بعده التأريخ للبنان، لنا هنا واجب الوفاء لكمال الصليبي استاذنا الاول وملهمنا بلا منازع الذي لم نكن لنجازف أصلا في هذا العلم لولا الدروب التي شقّها وعلامات الاستدلال التي وضعها والاسئلة التي طرحها والتحديات التي اثارها والمادة الموسوعية التي وضعها في تصرفنا دون ان ننسى امثولات التطلب والصرامة في البحث والتنقيب والقياس ومتعة الاكتشاف وفن السرد. احسب اننا في وداع هذا العالم المترهب الذي وهب حياته كلها للبحث عن الحقيقة التاريخية، نودع نموذجا من الاساتذة والمؤرخين قد لا يتكرر. ولعل بعض التعويض عن هذه الخسارة الفادحة هو في مواصلة الجهد لانتاج تاريخ يصالح اللبنانيين مع تاريخهم، أي يحول الماضي إلى رواية وسرد وتشويق وذكريات ومعرفة وإخبار بدلا من ان يكون أسلحة دمار.

مفكر سبر أغوار التاريخ

جورج قرم

ان غياب المؤرخ اللبناني اللامع كمال صليبي سيخلق فراغاً كبيراً في الحياة الفكرية والثقافية والسياسية اللبنانية والعربية. ان كمال صليبي لم يكن فقط مؤرخاً بالمعنى التقليدي، مركزاً أعماله حصريا على تاريخ لبنان، بل كان مفكراً يسبر غور تاريخ منطقتنا العربية والشرق أوسطية في جذورها القديمة منذ نشوء الديانة التوحيدية الأولى، أي اليهودية. وكما تجرأ المحلل النفسي الكبير «فرويد» بدراسة تاريخ نشوء اليهودية والاستنتاج بأن النبي موسى كان مصرياً من أتباع ديانة «توت عنخ آمون» التي مهدت الطريق إلى الوصول إلى فكرة التوحيد الإلهي؛ استنتج كمال صليبي من عمق دراسته ان القبائل الإسرائيلية المذكورة في التوراة ربما ذهبت إلى الجزيرة العربية وليس إلى فلسطين، مما آثار موجة من الجدل الكبير. أما في ما خص لبنان فإن رحلة كمال صليبي فيه كانت طويلة وغنية. وقد توسع أفقه على مرّ السنين من النظرة الضيقة التقليدية التي كانت سائدة في بعض الأوساط المسيحية التي كانت تودّ ان تميّز بشكل مطلق لبنان عن محيطه العربي إلى نظرة أوسع وأشمل أخذ فيها مسافة عن مثل هذا الطرح. وربما كان تتويج أعماله حول تاريخ لبنان في مؤلفه الشهير «بيت بمنازل كبيرة»، الذي لاقى رواجاً كبيراً، حيث أكد فيه بُعده عن أي من الطروحات المتخاصمة حول طبيعة لبنان وكيانه. مع العلم انني لا أشاطره الرأي بأن المذاهب الدينية والطائفية اللبنانية هي بمثابة قبائل في جوهرها وتنظيمها ونمط حياتها. إذ أرى ان هناك فرقاً شاسعاً بين طبيعة الطائفة الدينية، أكانت مسيحية أو مسلمة، والقبيلة كما نعرفها في عالمنا العربي. فالطوائف المسيحية هي مجرد كنائس شرقية ولا يمكن الخلط بين مفهوم الكنيسة ومفهوم القبيلة، وكذلك يجب عدم الخلط بين المذاهب الإسلامية أو أي تنظيم قبلي الطابع. ومع ذلك فإن رواج هذا الكتاب يؤكد انه أصاب في مكان ما وعي وضمير اللبنانيين الذين كانوا يرون أنفسهم شعبا راقيا ومتعلما ومتفلسفا، وإذ بهم يرون أنفسهم في مرآة مؤرخنا الكبير مجرد قبائل مشاكسة ومتخاصمة وذات عصبية وتعصب أعمى. وختاماً لا بد من ذكر ما كتبه المؤرخ منذ أشهر قليلة، بعد تهجير عدد هام من العراقيين المسيحيين من بلدهم اثر هجمات إرهابية على كنائسهم، في صرخة مدوّية حول ما يمكن ان يصبح عليه مصير المشرق العربي في حال غياب المسيحيين عنه، إذ ان نكهة العروبة الأساسية حسب قول صليبي، التي نحبها جميعاً، هي نكهة التعددية والانفتاح وقبول اختلاف الآخر وليس التجانس القصري المثير للتعصب ولإقصاء الآخر. شكراً لك كمال صليبي لما أعطيته لبلدك ولوطنك العربي الأوسع.

المرجع الأهم

عصام خليفة

مع وفاة المؤرخ كمال الصليبي يخسر البحث التاريخي والعمل الأكاديمي الرصين في لبنان علماً من أكبر أعلامه. في الجامعة الأميركية ببيروت تتلمذ على الأساتذة الكبار أمثال أنيس فريحه وقسطنطين زريق وغيرهما من كبار العلماء. وبدعم من الجامعة نال منحة تخصص في اللغات السامية القديمة واتجه لاحقاً إلى التعمق في تاريخ لبنان في القرون الوسطى وحولها أعد أطروحته المميزة عن تاريخ الموارنة ومؤرخيهم في هذه المرحلة، ومنذ ستينيات القرن العشرين كان الصليبي أستاذ التاريخ المميز في الجامعة الأميركية وقد تخرج على يديه مئات بل ألوف الطلاب وكان باستمرار محط احترام وتقدير منهم لرصانته وعلمه وموسوعيته. في أطروحته وفي كتابه «منطلق تاريخ لبنان»، وجد أن تعريب بلاد الشام لم يأت نتيجة لخروج بعض العرب من الجزيرة العربية في زمن الفتح، بل إن تعريب الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق حدث في آن واحد، وذلك قبل الإسلام بزمن طويل، كما رجح أن معظم الموارنة كانوا، من ناحية العرق، من نبط الشام يقطنون المناطق الزراعية في الأرياف ويعملون في الفلاحة ويؤكد أن الموارنة كانوا يتكلمون العربية ويكتبون بها وليس بغيرها على الأقل ابتداء من القرن الميلادي التاسع. ولا مغالاة إذا اعتبرنا أن كتابة «منطلق تاريخ لبنان» هو المرجع الأهم في رأيي للمرحلة التي تمتد من الفتح العربي حتى الفتح العثماني وكتابه عن تاريخ لبنان الحديث والمعاصر كان ولا يزال من المراجع الأساسية لكل طامح لمعرفة كثيفة ودقيقة لتاريخ لبنان في هذه المرحلة. كتب في الموسوعات والمجلات العلمية المقالات المتخصصة، وحقق المخطوطات، وكان يستعمل الشك التاريخي باستمرار كمنهج لمقاربة موضوعاته. اهتم بالتوراة وكان له اجتهاده اللافت وتساؤله عما إذا كان مصدرها جزيرة العرب، كتب عن الحروب اللبنانية المركبة التي اندلعت منذ منتصف السبعينيات والتزم النقد لمختلف العصبيات المتصارعة، وحاول أن ينظر لأهمية العيش المشترك من خلال اتساع البيت اللبناني لمختلف الطوائف. كان مؤرخاً كلاسيكياً واستمراراً للكبار الذين كتبوا عن تاريخ لبنان والمنطقة أمثال فيليب حتي وأسد رستم وغيرهما، ولم يطرح نفسه منتمياً إلى المدرسة التاريخية التي تهتم بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافيا التاريخية والأمراض والمناخ والحضارة المادية وما إليها، لكنه في مختلف مؤلفاته كان من المنفتحين على هذه المدرسة. انتقل في موقفه السياسي العام من الالتزام العميق بالخصوصية اللبنانية واستقلال الدولة اللبنانية، إلى التوجه نحو الداخل الشامي والعربي دون التخلي عن إعطاء لبنان دوره في نهضة بيئته المحيطة. ترأس رابطة الأساتذة في الجامعة الأميركية وكان له المواقف المشهودة دفاعاً عن الحقوق النقابية وعن الحريات الأكاديمية للأساتذة. حاولت الحركة الثقافية ـ انطلياس، في أكثر من مرة، ان تكرمه كعلم ثقافة في لبنان والعالم العربي أثناء المهرجان اللبناني للكتاب، فلم تنجح في محاولاتها. والآن بعد توقف أستاذنا الكبير كمال الصليبي عن العطاء، نجد من واجبنا أن نفي هذا المؤرخ العالم بعضاً من حقه من خلال ندوات متخصصة تدرس مختلف جوانب إنتاجه والمصادر التي ارتكز عليها والمنهجيات التي اتبعها فعسى أن تقوم أقسام التاريخ ومراكز البحث والهيئات الثقافية بإبراز خصائص عمارته التاريخية وإيفائه بعضاً من حقه على تقدم علم التاريخ في لبنان وعالمنا العربي الأوسع.

عن كمال الصليبي البيروتي اللبناني العربي المشرقي النهضوي والتنويري

سليمان بختي

تطوى مع غياب المؤرخ كمال الصليبي صفحة (1929ـ2011) مضيئة من تاريخ بيروتي ولبناني وعربي ومشرقي ونهضوي وتنويري. حياة حافلة بالعطاء الأكاديمي والبحثي والتعليمي. أثارت كتاباته الاهتمام دائما والانتباه والجدل، على المستوى اللبناني والعربي والدولي لما تحمله من قدرة عالية على التصور والتحليل والخروج بكشف جديد ونتائج جديدة ونظريات تخلخل البنى السائدة والراكدة. ريادة معرفية مفتوحة الأفق ووفقا لمعايير اكاديمية صارمة ميّزت مؤلفات الصليبي بالرصانة والجدية والتعمق. ولد كمال سليمان الصليبي في كراكول الدروز في بيروت 1929. دراسته الأولى كانت في مدرسة برمانا الداخلية ثم أنهى المرحلة الثانوية في المدرسة الاستعدادية (الآي سي). نال شهادة البكالوريوس في الآداب في العام 1950 من الجامعة الأميركية في بيروت وسافر إلى لندن لمتابعة تخصصه في كلية الدراسات الشرقية والافريقية وأشرف على دراسته برنارد لويس. عين أستاذاً في الجامعة الأميركية في بيروت واستمر فيها حتى تقاعده في العام 1997. أثناء الحرب اللبنانية غادر إلى عمان اثر تهديدات تلقاها في العام 1986 وأسس مع الأمير الحسن بن طلال «المعهد الملكي للدراسات الدينية» وعاد في العام 2004 ليكمل مساره باحثاً لا ينقطع لحظة عن صلات وثقها مع الكلمة والإنسان والثقافة والتاريخ والتفكير النقدي العقلاني. وقد صدر له في الشهرين الماضيين في بيروت كتابان «الموارنة ـ صورة تاريخية» و«بلاد الشام في ظل العصور الإسلامية الأولى». كتب مذكراته في كتابه «طائر على سنديانة» (2002) وكتب على غلاف الكتاب قصة العنوان المستوحى «طائر حكيم مسن حط على سنديانة كلما رأى أكثر تكلم أقل كلما تكلم أقل سمع أكثر لماذا لا نكون جميعاً مثل هذا الطائر الحكيم المسن». ذلك الطائر الحكيم المسن الذي فقدناه كان يرى التاريخ اسئلة أكثر مما هو أجوبة. ما معنى الذي صار؟ ولماذا حدث؟ وما هي التصورات الكثيرة للحدث التاريخي. وبرأيه ان التاريخ يتوقف تصوّره على المؤرخ وعلى قابلية المؤرخ للتصور. درّب كمال الصليبي نفسه وذهنه طويلاً على التجرد إلى حد ان الأمر ازدوج لديه ليصبح التاريخ نفسه ليس سوى التجرد. قال لي غير مرة: «كتابة التاريخ صناعة، والصناعة إتقان، والاتقان مراس، والمراس صعب». ضد نظرية المؤامرة كان يأنف من نظرية «المؤامرة» التي تحاول تفسير كل شيء في عالمنا العربي وكتب غير مرة: «ما من قوة في العالم تستطيع ان تفرض شيئاً على شعب كامل العقل ومدرب على استعمال عقله. الفخاخ ينصبها الأذكياء ليقع فيها الأغبياء. لكن ليس للنبيه ان يقع في كل فخ ينصب له». سألته مرة عن سر الاتقان والدقة التي تغلف معالجة مواضيعه، قال: «تعلمت ذلك من الموسيقى. يا بتزبط يا ما بتزبط، ما في حل وسط». في عقله النقدي المعرفي الموضوعي كان يطحن الأساطير التي تهب هنا وهناك. فمثلاً في موضوع الفينيقيين رأى ان الإغريق هم من أطلقوا الاسم على منافسيهم في التجارة من بحارة بلادنا إذ كانوا يتخذون من تمر البلح قوتاً لهم في سفراتهم البحرية فيما كان الاغريق يقتاتون من التين المجفف، والبلح في اليونانية اسمه phoenix ومن هذا الاسم اشتقاق فينيقيا والفينيقيين. واسم phoenix باليونانية هو اسم «العنقاء» الطائر الخرافي المعروف بالعربية وسابقاً عرف باسم «طير البلح». كانت له دائماً عباراته المحكمة والمنحوتة مثل: ÷ «إسرائيل دكان عنصري صغير سيقفل عاجلاً ام آجلاً». ÷ «المسيحيون جزء من النسيج العربي ولن يصيبهم إلا ما يصنعونه بأنفسهم. ودورهم كان دائماً في التربية والتعليم والتنوير». ÷ «لسنا جديين كشعوب ودول، ولا نضع الاشياء في مواقعها، وبالتالي لا حل بعدم التفكير إلا بالتفكير». ÷ «إذا كان للبنان ان يتقدم فلا بد من تغيير النظام الطائفي باتجاه العلمنة». وصيتي في العام 2009 أعاد إصدار كتابه «تاريخية إسرائيل التوراتية» بالانكليزية مع مقدمة من الباحث البريطاني انتوني لايس الذي وجد إثباتاً كاملاً على صحة مقولة كمال الصليبي بأن الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية هو مسرح الأحداث التوراتية. وهذا الاثبات جاء عن طريق الفلك وثبت بالتجربة ان اورشليم التوراتية تستحيل ان تكون فلكياً في القدس ـ فلسطين بل اورشليم ـ عسير من خلال ظل المدرجات على المزولة إذ يعود أدراجه. تجربة تابعها الدكتور الصليبي على الهاتف وعبر الانترنت. ولما انتهت التجربة التفت وقال: «هذا الكتاب وصيتي». كتب كمال الصليبي في تاريخ لبنان وسوريا والاردن والجزيرة العربية، وكتب في التوراة وخفاياها وحروب داوود وعودة إلى التوراة، والبحث عن يسوع، وعن بيروت والزمن والعديد من الابحاث والدراسات والمقالات. أحب كمال الصليبي رأس بيروت كثيراً. كان يسميها رئة لبنان والعالم العربي. كان يطرب لصوت المؤذن في «جامع الداعوق» القريب من منزله. أحب اللغة العربية التي لم تنقطع منذ 5 آلاف سنة وكان مرجعنا في أبيات المتنبي حين تشتتها الذاكرة. وكلما أراد ان يكتب العربية يقرأ الحديث النبوي الشريف وديوان المتنبي. في الأحد الماضي التقيته في زيارة اسبوعية معتادة ومفتوحة وأشبه بالديوانية. تحدث عن صعوبة حكم سوريا بسبب العوامل الجيوبوليتيكية وتوقف عند حكم المماليك والعثمانيين لها وتجربة الأسد المعاصرة. حتى آخر لحظة من عمره لبث كمال الصليبي في حيويته الفكرية وفي أوج تمامه ونضارته. وكان يخطط لكتابات فيها عودة إلى الذكريات، ونص عن مقاهي بيروت، وكلف الزميل محمود شريح بترجمة كتابه «تاريخ الجزيرة العربية» إلى العربية وأعطى حواراً مطولاً لمجلة «الآخر» في عددها الثاني. كانت حياة البحث والعلم والكتابة والتأليف تمتد أمامه بلا شطآن ولا ضفاف. وكأن النزيف الدماغي الذي أصابه لم يكن موتاً بل ضرباً من القتل، من اغتيال عقل لطالما رفد العقلانية والموضوعية في حياتنا. ومن غياب قلب محب من دونه تكاد تكون الرحمة ناقصة في هذا العالم. سأفتقد صوتك يأتي: «شو ما شي الاحوال؟». أو ترداد كلمة «الفحوى» في مجرى الحديث. لمثلك كمال الصليبي لا يقال وداعاً لأنك تركت في حياتنا من المواضيع والاشكاليات والعبر ما سنظل نلتقي فيها حتى انقضاء الزمان.

في حوار لم ينشر بعد: تزوير تاريخ لبنان واختراع فخر الدين الثاني

صقر ابو فخر

سيعاتبني طلال سلمان وأدونيس كثيراً في الأيام المقبلة، أما أنا فستغمرني لوعة الفقد ويسربلني الأسى. قال لي أدونيس: سنزور معاً كمال الصليبي في ايلول حين أعود من فرانكفورت. ومراراً أعاد طلال سلمان تذكيري بضرورة تحديد موعد للزيارة. غير أن كمال الصليبي لا يحتاج الى موعد، فمنزله مفتوح في كل يوم لأصدقائه وعارفي فضله والمعجبين بعلمه. لكن مطحنة الحياة اليومية كانت تؤجل اللقاء. غير اني كنت أتسلل أحياناً برفقة محمود شريح ليلاً إلى منزل كمال الصليبي، فنقبس بعضاً من سويعات جميلة معه، او كنا نتحلق حوله في ظهيرة بعض أيام الآحاد مع سليمان بختي ومحمود شريح دائماً. وعندما أتاح لي أن أجري حواراً مسهباً معه استغرق أكثر من عشرة أيام متواصلة، خرجت بمحصلة علمية لا تضاهى. لكن الأهم هو انني اكتشفت فيه ما هو أبعد من المؤرخ المبدع وصاحب النظرية الفذة، أي ذلك الإنسان النادر والمفعم بالحياة والتأمل والحكمة معاً.

[ [ [

كمال الصليبي أحد الذين خربوا عقائدي القديمة وخلخلوا ما استقر في وعيي البدائي، اما أدونيس فهو المخرب الأروع. لذلك لم يكن غريباً أن نجتمع نحن الثلاثة معاً في مجلة «الآخر». فقد أمضيت مع كمال الصليبي أياماً ممتعة من الحوار الجميل. وهذا الحوار الذي ستنشره مجلة «الآخر» في نهاية أيلول

2011، فيه كثير من المعلومات الجديدة والمثيرة التي ستثير حفيظة كثيرين في لبنان. وكنا خططنا، كمال الصليبي وأنا، لإصدار هذا الحوار في كتاب منفرد، واقترحت عليه اسئلة جديدة، وكان يرحب دوماً بأن يمنحني المزيد من وقته للإجابة عن الاسئلة والاستفسارات الإضافية.

وها أنا، في صدمة هذا الموت، سأسارع إلى إصدار هذا الحوار، لكن من دون الإضافات التي كان ينتظر اسئلتها الختامية. غير ان الحوار كله سيكون بين أيدي الجميع في مجلة «الآخر» التي يرأس تحريرها أدونيس، والتي ستصدر في أواخر صيف 2011. وها نحن ننشر جزءاً من هذا الحوار تحية لاسم هذا المؤرخ الفريد والأستاذ الجامعي النادر والمفكر الألمعي وصاحب الرأي الشجاع. إنه العبقري بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وهذا ما بقي لنا منه ومن صداقته علاوة على الدمع والأسى.

ـ أصل عائلتك من عين حليا في سوريا. أليس كذلك؟

• لدي أقارب حتى اليوم في حمص من آل الصليبي، وأصلهم مثلنا من عين حليا. لكن هذا لا يقدم ولا يؤخر. فأنا فعلاً أحب البلدان العربية كما أحب بلدي. وأتمنى لها الخير كما أتمنى لبلدي. وإذا أصابها أي مكروه أشعر به في جوارحي.

ـ بهذا المعنى فإن فكرة العروبة لديك هي فكرة ذات محتوى حضاري وثقافي. وليست تذويباً أو وحدة اندماجية.

• إنها انتماء إلى ثقافة وإلى تاريخ ولغة وشعب وجغرافيا. ولم أشعر مرة بأنني مختلف عن العرب في أي بلد عربي. سيبقى هناك أفراد يظنون أن الجنسية اللبنانية مقصورة على أناس يجب التأكد من أن دمهم لا يحتوي على شوائب معينة… هذا مضحك. وأنا مسرور جداً لمعرفتي أنني لا يمكن أن أكون لبنانياً من هذا النوع، فشهادة ميلادي تقول إنني مصري. أنظر إلى صورة جدّي وراءك. لو كان حياً الآن لكانت جنسيته أردنية. لكنه كان آنذاك عثمانياً.

الساحل والجبل ورأس بيروت

ـ أنت من أهل الجبل، لكنك عشت في المدينة الساحلية بيروت. والمعروف أن ثمة عداوة تقليدية بين الجبل والساحل. ربما كان منشأ هذه العداوة المنافسة. ومهما يكن الأمر فإن تقاليد الجبل غير تقاليد الساحل. فالجبل بيئة زراعية وتقاليد الزراعة تختلف عن تقاليد التجارة في الساحل. والسلوك الجبلي يتميز بنوع من القساوة أو الجلافة. بينما الساحل التجاري أكثر مرونة لأن هذا ما تقتضيه التجارة. هل لاحظت فارقاً بين سلوك أهل جبل لبنان وسلوك أبناء المدن الساحلية وسلوك أبناء بيروت تحديداً؟

• لم أجد فارقاً واضحاً، لأن الانتقال كان ليناً. وأذكر أنني أول ما نزلت إلى بيروت كان انطباعي أنني أنتقل من وضع إلى وضع “أحلى” بكثير. فمن مصادفات أيامي أنني جئت إلى رأس بيروت. وخصوصاً أن من الصعب أن تجد مكاناً في العالم كله مثل رأس بيروت. يمكن أن تكون أكسفورد مثل رأس بيروت، ولكن تبقى بيروت “شكل ثاني”. منذ زمن بعيد كانت Harvard Square شبيهة بها. ومع الوقت بدأت أكتشف محاسن بيروت، وصرت، بالتدريج، أكتشف أن القيم التي كنت أعتز بها في الجبل هي قيم متوحشة.

ـ سؤالي هو التالي: إن السلوك الاجتماعي في لبنان يبدو كأنه سلوك مجتمع زراعي جبلي وثقافة مجتمع حديث. أي أن هناك نظامين للقيم: قيم الجرد والعصبيات المحلية، أي قيم المرجلة والبهورة، ثم قيم الساحل التجاري الذي يخضع ويؤدي الضريبة. والساحل التجاري يكون في الوقت نفسه منفتحاً ومساوماً ومسالماً لأنه يريد أن يحمي مصالحه التجارية. في مقابل قيم الجبل، أي جبل الموارنة والدروز، أقامت البرجوازيتان المدينيتان، السنة والأرثوذكس، نظام المحسوبية، أي أن كل شيء محسوب على الآخر، وحتى اليوم ما زلنا نقول: “محسوبك”. إذا صحّ هذا الوصف، فإن لبنان هو دمج لقيم المحسوبية بقيم الجرد في نسق واحد. وكل واحد اليوم محسوب على زعيم أو على طائفة أو على جماعة. هل هذا الأمر انعكس على تكوين لبنان الاجتماعي؟

• الدمج ليس غلطاً. لكن يمكن النظر إلى الأمور بطريقة مختلفة.

ـ كيف تقارن بيروت التي عرفتها في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات ببيروت اليوم؟

• أستطيع التحدث عن رأس بيروت. الغريب أن المدينة لم تتغير. والعناصر التي دخلت إلى رأس بيروت ليست هي من خرّب رأس بيروت. ربما خرّبتها قليلاً، لكن، في المقابل، أثّرت منطقة رأس بيروت في روحية مدينة بيروت كلها. في أي حال، أنا أرى أن منطقة رأس بيروت لم تتغير كثيراً. ربما تغيرت بيروت كلها. لكن رأس بيروت بقي على حاله. ترددت قليلاً على Down Town. والحقيقة أنني أحببت وسط المدينة. أحببت روح المنطقة. وأكثر ما أحببت الوجه اللبناني المبتسم الذي يحب الحياة. وأنا متأكد أن هذا الوسط مختلط بأشياء بشعة جداً. لكن الدنيا كلها هكذا. بينما هنا لدينا وجه لبنان المبتسم والذي لا أبدله بأي شيء في الدنيا. أنا أتمنى أن يصبح كل لبناني على صورة هذا الوجه، فبدلاً من الجلوس والتفكير بالسياسيين وهم يخططون للسرقة والنهب، فليفكر الإنسان بالأمور الجيدة والجديدة. ولا توجد فئة لبنانية خالية من هذه القدرات. فاللبناني خلاّق جداً. إنه ليس خلاّقاً بالضرورة في ميادين الفن والشعر، وربما يكون لديه أسوأ شاعر أو أسوأ فنان أو أسوأ معماري، ولكن لديه القدرة على العيش في أسوأ الظروف، والقدرة على تخطي البغض.

ـ رأس بيروت منطقة كانت مميزة جداً منذ بداياتها العمرانية، مع أنها منطقة حديثة نشأت مع نشوء الجامعة الأميركية. ولأنها ذات طابع متعدد وعلماني صارت مقصداً للبرجوازية الفلسطينية في سنة 1948 وللبرجوازية السورية منذ سنة 1957 فصاعداً. فالبرجوازي السوري القادم إلى لبنان لن يذهب إلى الضاحية الجنوبية على الإطلاق بل إلى رأس بيروت. والمعروف أن المدينة تمدن الوافد إليها من الأرياف، فتدمجه في إطارها ويتعلم في جامعاتها ويكتب في صحفها… إلخ. أما اليوم فيبدو لي أن مدينة بيروت بدأت تفقد هذه الوظيفة، ولا سيما بعد ظهور ما يسمى اقتصاد الضواحي. فنتيجة للحرب الأهلية وما رافقها من تهجير وتطهير طائفي نشأت الضواحي الجديدة، وصارت كل ضاحية منطقة قائمة بذاتها. خذ منطقة جونية ومحيطها، فلديها جامعة وأماكن سكن مترامية ودور سينما ونوادٍ… إلخ. ويستطيع الساكن في ذوق مكايل ألا يأتي إلى بيروت إلا عند الضرورة. والساكن اليوم في الضاحية الجنوبية لديه جامعة ومطاعم ونوادٍ ومدارس وثانويات. وقبل تسعينيات القرن العشرين لم تكن هذه الضواحي موجودة على صورتها الراهنة على الإطلاق. الآن كل ضاحية باتت مستقلة بذاتها. وساكن الضواحي حين يذهب إلى الحمراء كأنه يأتي للزيارة أو للمتعة أو للتسلية. وهذا ما يفقد المدينة طابعها المركزي، فالمدينة تشد الأطراف والضواحي إلى قلبها بقوة المصالح، فيما بيروت فقدت قلبها، وما عادت قادرة على جذب الأطراف إليها. هل تعتقد أن هذا الوصف سليم؟

• يجوز أن يكون هذا الوصف سليماً. لكنني لا أحب أن يكون موقع بيروت هكذا. ومع ذلك ربما يكون كلامك سليماً في ما لو استخدمت طريقتك في التفكير.

ـ في أثناء الحرب الأهلية ظهرت في جامعة الكسليك فكرة تداولها كثيرون، كإدوار حنين وفؤاد افرام البستاني وغيرهما. تقول الفكرة إن مشكلة لبنان في ترابه. هكذا وردت في مذكرات الأب بولس نعمان. أي أن لبنان كلما كبُرت مساحته زادت مشكلاته. فإذا صغّرناه تتضاءل هذه المشكلات. حينذاك كانت فكرة العودة إلى المتصرفية وبيروت ذات بريق سياسي، وحاول بعضهم الترويج لفكرة لبنان الصغير، أي لبنان المتصرفية زائداً بيروت، ورأوا في ضم الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان أمراً سيئاً لأنه ضاعف عدد المسلمين، ولذلك تفاقمت المشكلات. والحل، بحسب هؤلاء، هو تصغير لبنان.

• الحياة أمر متحرك، والناس تتوالد باستمرار. وإذا توالدت ولم تهاجر تختل التوازنات الديمغرافية. وهذا هو الأمر المنتظر حدوثه اليوم أكثر من الأمس. أنا ولدت سنة 1929. والناس الذين عرفتهم في يفاعتي هم ممن عاشوا في زمن المتصرفية. كانوا جميعاً يتحدثون عن المتصرفية، كأنهم يتحدثون عن أمهاتهم. ولا شك في أن للمتصرفية ميزاتها العظيمة. ولكن عندما كانت المتصرفية قائمة في لبنان كان اللبنانيون “فالقين دينهم” للمتصرفين و”فالقين دين” الدولة العثمانية. اللبنانيون لا يطاقون. لا يوجد متصرف غادر لبنان إلاّ فيه لوثة. الإنسان السياسي اللبناني لا يُطاق، لأنه يخلق من الحبة قبّة. إن أول متصرف على لبنان، أي داود باشا، هلكه يوسف كرم، و”طلّع دينو”. وفي ما بعد رحل عن لبنان وتابع صعوده في الإدارة العثمانية. وهنا، في لبنان المتصرفية، أشاعوا أنه سرق الأموال وغير ذلك من التشنيعات. والحقيقة أنه شخص أحب البلاد وفكّر في أن يصنع منها “سويسرا الشرق”. لكن اللبنانيين كانوا يفكرون بطريقة مغايرة. لماذا الحاكم ليس من الموارنة؟ وهذه طبعاً دعوى جاهلية كما كان يسمّيها النبي. أليس كذلك؟

ـ تؤكد في مذكراتك “طائر على سنديانة” أن المسيحيين في لبنان زوّروا تاريخ لبنان. ما هي الوقائع التي خضعت للتزوير؟

• أمور كثيرة خضعت للتزوير، بدءاً من الأمور البسيطة، خصوصاً تواريخ العائلات والطوائف، حتى صورة لبنان العامة. لبنان هو كيان ظهر سنة 1920. قبل 1920 لم يكن هناك ما يسمى لبنان أو مصطلح لبنان، كما لم يكن هناك ما يسمى فلسطين أو فلسطيني، ولم يكن هناك ما يسمى سورية أو سوري، إلاّ من ناحية إثنية وجغرافية. الفريق الذي أراد إنشاء لبنان بدأ يخطط لذلك منذ سنة 1880 تقريباً. ودراسة هذه الخطة لم تكتمل بعد. هناك بعض الكتابات في هذا الشأن، لكنها كتابات غير منشورة. فكرة لبنان بدأت في رأس مجموعة من المسيحيين الكاثوليك، بمن فيهم الموارنة، في لبنان وسوريا. ومن غرائب الأمور أن آباء لبنان ولدوا في الشام وعاشوا في الشام. لكن كان هناك ما يجمعهم، أي مسيحيتهم، وأنهم من الأثرياء الذين يطلق عليهم مصطلح “برجوازية”. هؤلاء أقاموا مشاريع تجارية، وخططوا لإقامة بلد اسمه لبنان بالحدود المعروفة، وهي حدود أخذوها من خريطة رسمها الفرنسيون سنة 1861. الخريطة كانت خريطة الطوائف، لكن هؤلاء الشوام قالوا آنذاك إن حدود ما أصبح لبنان الصغير في ما بعد يمكن أن تتعايش فيه الطوائف الموجودة في إطاره. وتطوّرت الأمور في سنة 1900 حتى صاروا يُسمّون هذا المكان Grand Liban أي لبنان الكبير، وراحوا يجربون صوغ تاريخ متماسك لهذا البلد المرسوم حديثاً؛ تاريخ يعود ستة آلاف سنة إلى الوراء، بل إلى بدايات التاريخ. من هنا جاءت قصة الفينيقية، مع أن لا شيء يربط لبنان اليوم بالفينيقيين. ولا توجد مؤسسة واحدة ظهرت في زمن الفينيقيين وما زالت مستمرة حتى اليوم، لا لغة ولا أدب ولا أي شيء آخر. ولكن مفبركي لبنان ألصقوا لبنان بفينيقيا غصباً عن الطبيعة. وجاء بعض علماء الآثار الفرنسيين ممن استهوتهم هذه الفكرة وانخرطوا في الترويج لها من دون أن يصدّقوها. وأنا أعرفهم، ولي مع بعضهم صداقات. كانوا يستهزئون باللبنانيين الذين يصدقون هذه الأفكار. إن الكلام على تاريخ عمره ستة آلاف سنة للبنان مجرد تزوير لا تزوير بعده. الخطير في الأمر أن هذا التزوير تحوّل في عقول بعض الناس إلى فكر راسخ. وحين نصحح لهم الأمر ونقول لهم إن هذا تزوير مكشوف، يرشقوننا بتهم مثل: مارق أو خائن… إلخ. الغريب في الأمر أن الناس الذين رفضوا الفكرة اللبنانية اعتقدوا أنني أبشر بالفينيقية.

ـ كتبك لا تتضمن ذلك البتة.

• ليست كتبي وحدها. بل إنني، منذ بدأت الكتابة، وللعلم فقد بدأت أكتب بالفرنسية لأننا كنا نتعلم الفرنسية في زمن الانتداب الفرنسي، كتبت مقالات في صحيفة L”Orient أوردت فيها أن تاريخ لبنان هو تاريخ توافقي وليس تاريخاً حقيقياً. وإذا كانوا يريدون أن يكتبوا تاريخاً للبنان فيجب أن يكون تاريخاً حقيقياً. كان فينيقياً نعم، لكنه كان يمتلك عقلاً منفتحاً. لنأخذ تاريخ العائلات الحاكمة في لبنان. إن أول تزوير هو أنهم قالوا عن أنفسهم إنهم عائلات حاكمة مثل “البوربون” في فرنسا أو سكان جبال البيرنيه التي تفصل فرنسا عن إسبانيا. وعلى سبيل المثال آل شهاب وآل معن وآل بحتر، وهولاء ادعوا أنهم أمراء. يجب أن يتوقف المرء قليلاً ليفحص ماذا تعني كلمة “أمير”. إن كلمة “أمير” تعني قائد، أو ضابط. كان هناك عسكر وآمر على العسكر. هناك أمير عشرة، وهو أدنى رتبة. وأمير أربعين، وأمير مئة. أي أن أمير العشرة لديه عشرة خيالة تحت إمرته، وأمير المئة يكون تحت إمرته مئة فارس ومعهم ألف عسكري مشاة، وهذا يسمونه أمير مئة. أي أن لقب أمير هو لقب عسكري بحت. وكان العثمانيون، بدلاً من أن يدفعوا إلى هؤلاء القادة رواتب، يمنحونهم ما يسمّى “إقطاعاً”، أي يقطعونهم منطقة ليجبوا منها الضرائب.

ـ أي أنهم مجرد ملتزمي ضرائب.

• سأقول لك تماماً كيف كانت الأمور تجري. يصدر فرمان يتضمن ما يلي: أنت يا فلان عيّناك أمير عشرة، ولك الجباية في منطقة عين المريسة. وعليك أن تذهب آخر كل شهر أو آخر السنة وتأخذ الجباية من عين المريسة. وأنت يا فلان جعلناك أمير أربعين، وسلمنا إليك المصيطبة، ما يعني أنك، حين يحين وقت الجباية، تذهب إلى بيت المال وتقبض منه ما تمت جبايته من المصيطبة. أحياناً تكون هناك بلاد صعبة الجباية. والعسكر الذين يتم تجنيدهم لخدمة الدولة قلما يقبلون الخدمة إلاّ تحت إمرة زعمائهم. فتأتي الدولة، في هذه الحال، بزعمائهم وتعينهم أمراء، وتمنحهم إقطاعاً ما. وعندما تمنحهم هذا الإقطاع فهي لا تعطيهم أرضاً ليمتلكوها، بل تعطيهم الحق في استلام الضرائب. وفي بعض الأحوال، إذا كانت جباية الضرائب صعبة، يأمرون هذا “الأمير” بالقول له: إذهب واجْبِ الضرائب. ومع ذلك يتحدثون عن “الإقطاع اللبناني”. وهذا ليس إقطاعاً. الإقطاع نظام أوروبي له تراتبيته، وأناس تخضع لأناس، والملك هو رأس هذا النظام… إلخ. هنا في لبنان لم يوجد هذا ولا ذاك. وهؤلاء الجماعة “الأمراء” لم يكن لهم أي رأي أو مشورة في حكم البلاد. إنهم مجرد عسكر وأمراء على العسكر. ومن جملة الأكاذيب، بل الكذبة الكبيرة، القول إن لبنان كان طول التاريخ محكوماً بأمراء من شعبه. وهذا غلط. كان هناك بالفعل، ما يسمى “المقدّمون” في بعض المناطق التي يسكنها أناس من ذوي المراس الصعب، مثل جبة بشري وبشري وإهدن والمنيطرة. فتأتي الحكومة وتعين شخصاً قوياً مقدماً عليها. والمقدّم هو من يجبي الضرائب ويقتص من المجرمين.

ـ أي يفرض الأمن.

• نعم، يفرض الأمن. أما في حال قيام هذا المقدم بأمر خاطئ، يرسلون إليه بعض الجنود ويلقنونه درساً لا ينسى، وأهم مثال على ذلك جبّة بشري. مَن يريد أن يدرس تاريخ لبنان قياساً على أوروبا في العصور الوسطى لن يتوصل إلى أي نتائج. العصور الوسطى في أوروبا لا تتطابق بالضرورة مع لبنان، مع أن اسم لبنان لم يكن موجوداً. جبل صنين لم يكن في لبنان. صنين كان في كسروان وبعد صنين شمالاً يمكن القول إننا في لبنان.

ـ لبنان هو بشري وجبة المنيطرة فحسب.

• من المنيطرة للجبّة مروراً ببلاد جبيل والقويطع. وبعد هذه الضنية، ثم عكار. وتلك المناطق لا تقع في لبنان.

ـ الشوف لم يكن في لبنان.

• الشوف كان منطقة قائمة بذاتها.

ـ وجبل عامل؟

• جبل عامل كان أمراً آخر وخارج الصورة تماماً. أما أن تأخذ هذه المناطق كلها، وتسمّيها اسماً واحداً هو لبنان، ثم تجعل لهذه المنطقة الجديدة تاريخاً جديداً، فهذا هو التزوير، وأنا صححت مساري في الكتابة التاريخية بالتدريج، لأن ثمة فكرة رسّخوها في رؤوسنا منذ طفولتنا، وكنا نعتقد فعلاً أن لبنان أبدي سرمدي.

ـ هناك كلام لأرنست رينان يقول إن كل شعب يجب أن يزور تاريخه ليصنع من نفسه شعباً متماسكاً. ومثال ذلك اليهود عندما أرادوا تحويل الدين إلى قومية اخترعوا تاريخاً له أول وليس له آخر.

• الفرنسيون أنفسهم فعلوا ذلك. فرنسا صارت دولة بعدما اجتاحت القبائل الجرمانية البلاد. فرنسا لم تظهر عندما كان فيها شعب “الغالوا” مثل أهالي ويلز. “الغالوا” اليوم غير موجودين إلاّ في بريتاني. واللغة الفرنسية متحدّرة من اللاتينية وليس من لغة أهالي بريتاني.

لبنان اختراع دمشقي

ـ عرضت بشكل مختصر قصة مشروع لبنان الكبير الذي هو مشروع البطريرك الياس الحويك. ويقال إن البطريرك الياس الحويك أصله من عين حليا، وجده يدعى شلهوب العوام، وكان أرثوذكسياً. ثم نزحت العائلة إلى شمال لبنان وتمورنوا، وامتهنوا الحياكة، لذلك سُمِّي جدهم الحويك. المهم، أنك تقول إن مشروع لبنان الكبير كان مشروع البطريرك الياس الحويك والمطران عبد الله الخوري، وأن الذي وضع المخطط هم كاثوليك دمشق وأدباء أمثال بولس نجيم.

• بدّل بولس نجيم اسمه إلى “جو بلان”. وعندما قرأت ذلك الكتاب اعتقدت أنه فرنسي، إلى أن اكتشفت أنه لبناني.

ـ هل وثائق هذا المشروع متوافرة؟

• لا أستطيع أن أقول لك إنها متوافرة، لأنني لم أشتغل عليه. وعندما قرأت ما أنجزه بعضهم في هذا الشأن استفدت كثيراً. وكان لديّ طالب أصبح فيما بعد زميلاً، وهو فهيم جداً، ولديه الروح التاريخية الصحيحة، وهو من عائلة طرابلسية هو مروان بحيري، وكان جامعاً للكتب. ولأن والدته من آل سارافيان وهي عائلة أرمنية هبطت لبنان قبل قصة مذابح الأرمن، أي منذ القرن التاسع عشر، وتاجرت مع العالم العربي ومع اليمن، وكان لديها مركز في الحُديدة، وهذه العائلة كانت مغرمة بجمع الصور والكتب والوثائق. وقد أطلعني مروان بحيري على وثيقة تتضمن خطة لإنشاء لبنان الكبير Grand Liban وشق طريق مهم يربط بيروت بدمشق، على أن يكون لبنان الكبير مرتبطاً بالداخل السوري لأسباب منها أن لبنان هذا سيقوم على ساحل البحر، وسيكون له شأن في التجارة، فيستورد البضائع من الخارج وينقلها إلى بقية أرجاء سوريا. وتلحظ الخطة حتى الفنادق التي لن تكون لخدمة بيروت وحدها، بل للمنطقة كلها. ولاحظت الخطة أن لبنان الكبير هذا، مع أنه ينتج الفاكهة الطيبة والخضراوات، إلا أنه لا ينتج المواد الأساسية بكميات كافية كالقمح مثلاً، وهو سيموت جوعاً إذا فرض الحصار عليه يوماً. لذلك سيعتمد لبنان على الداخل الزراعي السوري لتأمين حاجات سكانه. ولهذا السبب سيكون من الضروري وجود شبكة طرق وسكك حديد وقطارات، فهو يحتاج إليها لأن مساحته ضيقة، وتجب إقامة محطات على الطريق إلى دمشق، خصوصاً لأن في وسطه عوائق طبيعية تحتاج إلى ما يساعد القطار على صعود الطلعات القوية. وهو يحتاج أيضاً إلى “كروسة”، أي طريق معبدة.

فخر الدين اختراع لبناني

ـ تقول إن لا وجود لفخر الدين الأول. من اخترعهُ؟ ولماذا جرى اختراعه؟

• خلال القرن التاسع عشر بدأت المعلومات عن أوروبا تنتشر في هذه البلاد. ومن جملة الأحداث أن شخصاً يدعى أرنست رينان جاء إلى هذه البلاد وسكن في قرية معاد في بلاد جبيل وراح يعمل في الحفريات الآثارية، ويكتب عن فينيقيا. وكان معه شخص درس في عين ورقة اسمه طنوس الشدياق، وهو شقيق فارس الشدياق. وفي كتابه “أخبار الأعيان في جبل لبنان” يذكر فينيقيا. وهؤلاء اللبنانيون، من خلال اتصالهم بالأوروبيين، صاروا يعرفون أن في إنكلترا وفرنسا مثلاً لوردات، وأن توارث الألقاب والسلطات ينتقل من الجد إلى الأب الأكبر إلى الإبن بحسب قوانين معينة، وينطبق الأمر نفسه على ملوكهم وأمرائهم. واستساغ بعض المؤرخين اللبنانيين هذه الفكرة وطبقوها على لبنان. وكان هناك شخص اسمه فخر الدين، وفخر الدين هذا كان ملتزماً جباية الضرائب في سنجقي بيروت وصيدا. وبعد ذلك التزم الجباية في بيروت وصيدا وصفد، ثم في بيروت وصيدا وصفد وعجلون… إلخ. أي أن الدولة العثمانية كانت توسع له نطاق التزامه. وعندما كبُر رأسه قام بالعصيان، فاعتقلته السلطات وساقته إلى الآستانة فحوكم وأُعدم. هذه هي قصة فخر الدين. وفخر الدين كان، في الوقت نفسه، شخصاً ذكياً جداً. فعندما سافر إلى إيطاليا وأقام فيها خمس سنوات…

ـ في توسكانا.

• صحيح. وقد سجل رحلته. ويمكن أن يكون أحد رجال حاشيته هو من كتب تفصيلات هذه الرحلة. وهي رحلة تعد أجمل من أي رحلة غربية للشرق. وفي النتيجة استفاد من رحلته فنظم طرقاً لتربية المواشي ولتطوير الزراعة والعمارة. وجاء بالطليان ودفع لهم الأموال لينشئوا له، في جملة ما أنشأوا، حديقة حيوانات. وكان موقعها في مكان Virgin Mega Store اليوم في قلب بيروت.

ـ كان اسم المبنى قبل الحرب “سينما أوبرا”.

• صحيح. وهذه شهادة لفخر الدين. لكنه كشخصية تاريخية لم يكن أكثر من سنجقدار، أو سنجق بيك التي تترجم إلى العربية أمير اللواء. ولهذا السبب صاروا يسمّونه أميراً. وفخر الدين هو قائد كتيبة، كان أمير لواء بيروت وصيدا ثم زيد عليها صفد وعجلون.

ثم جاء طنوس الشدياق وآخرون مثله ومنهم حيدر الشهابي، وكتبوا تاريخ لبنان على أساس أنه إمارة.

ـ كتاريخ أوروبا.

• بل مثل إمارة مونت كارلو. وكتب هؤلاء المؤرخون أن فخر الدين حين مات اجتمع الناس في سهل السمقانية وعقدوا الولاية… إلخ. والحقيقة أنهم لم يجتمعوا في السمقانية ولا من يحزنون. هم اجتمعوا في السمقانية ليروا ما هي الضرائب التي ستُدفع عنه. أما فخر الدين الثاني فهو مجرد تسمية أطلقت حين زوّر المؤرخون هذا التاريخ وجعلوه تاريخاً لدولة بيت معن. والحقيقة أن لا فخر الدين الثاني ولا أمراء في هذه البلاد، بل مقدمون. وعندما كان أحد المقدمين يعصى الدولة، أو لا يقوم بواجباته، تنحيه الدولة وتأتي بمقدم آخر. وكانت تحصر اختيارها بعائلة أو بعائلتين أو بثلاث عائلات.

ـ يفترض أن يكون والده يُدعى قرقماز.

• لم أجد قرقماز أيضاً، بل وجدت شخصاً آخر هو سويروس. ووجدت فخر الدين عثمان الذي أنشأ جامع دير القمر، والذي لا يمكن أن يكون له علاقة بفخر الدين الثاني لأن سلالته معروفة. ثم أن فخر الدين عثمان هذا جاء في آخر العصر الذي كان الاسم واللقب ما يزالان شائعين في الأسماء. فالاسم هو عثمان، واللقب هو فخر الدين. إذاً، هذا الشخص اسمه عثمان وفخر الدين لقبه.

ـ حكايات آل الخازن.

• بين الأسماء والألقاب في بلادنا لا يوجد فخر الدين الأول ولا الثاني بطبيعة الحال. هناك فخر الدين فقط. وفخر الدين هذا عندما كتب عنه أحمد بن محمد الخالدي الصفدي لم يسمّه فخر الدين الثاني. إن من أسماه فخر الدين الثاني هو مَن نشر كتاب الصفدي أي فؤاد افرام البستاني وأسد رستم. وهذان أسمياه فخر الدين الثاني. ولكن عندما تقرأ التواريخ لا تجد اسم فخر الدين الثاني، بل تجد أن هذا الرجل كان جابياً للضرائب. وتاريخه كله عبارة عن أعمال تحتاج محاسباً. كان لديه فلان في اسطنبول، وهذا الذي في اسطنبول غشّه بكذا من المال، وهو لاحقه في اسطنبول وأقام عليه دعوى. وجميع أعماله الرسمية مقصورة على جمع “المصاري” للدولة العثمانية والإبقاء على قسم من هذه الأموال في جيبه. وعندما مات قتل جميع أبنائه. والإبن الصغير تربى…

ـ عند الموارنة.

• مهلك. لم يتربّ أحد عند الموارنة. هذه حكاية اخترعها آل الخازن حتى يكبّروا أنفسهم. فقالوا إن ابنه الأصغر ربّاه الحاج كيوان. والحاج كيوان كان “أزعر” ونشّالاً. كان من الانكشارية المحلية (يارلية). وهؤلاء كانوا ما بين العسكر والزعران. وفي الحالات التي لم يكن العثمانيون قادرين على ضبط الأوضاع يلجأون إلى تسييبهم، ويقولون لهم إجمعوا ما تستطيعون من الأموال لكن عليكم تهدئة الوضع وضبط الأمن. وكان العثمانيون أنفسهم يشتكون منهم، وكثيراً ما كانوا يقتلونهم جراء ظلمهم الناس. وأخيراً عندما جاء حاكم قوي على بشامون قتل الحاج كيوان. ويزعم مزورو التاريخ أن الحاج كيوان هرّب فخر الدين وهو طفل مع أخيه يونس ليخبئهم لدى آل الخازن من أصحابه الموارنة، وأن آل الخازن ما زالوا يحفظون قصصاً كثيرة عنه وعن أخيه يونس عندما كانا صغيرين. هذا كله “تجليط”. هل رأيت وقاحة في تزوير التاريخ أكثر من هذه الوقاحة؟ منذ سنة 1953 وأنا أكتب في التاريخ. ولم أكتب لأخبئ نتائج أبحاثي، بل نشرت ذلك كله، وألقيت محاضرات كثيرة. فهل أثّرت كتاباتي في إعادة النظر في تاريخ لبنان المزوّر؟ لم تؤثر. لأن لا حياة لمن تنادي. والطريف أنهم ألفوا قصصاً عن فخر الدين الصغير وعن أخيه يونس حين كانا يلعبان في منازل آل الخازن، وبيت الخازن ما زالوا يحفظونها ويرددونها حتى الآن، وهي كلها حكايات موضوعة.

ـ فؤاد افرام البستاني كان يدرّس التاريخ كحكايات خرافية.

• في بداياته كان مختلفاً. فؤاد افرام البستاني كتب روائع. لكنه مع مرور الوقت، تغيّرت فلسفته. المسيحيون هم أرباب الأدب العربي. جميع الشعراء الكبار في الجاهلية هم نصارى، وحتى في العصور الإسلامية. مثلاً، أبو تمام كان مسيحياً. لذلك شدد نصارى لبنان على التراث العربي وارتبطوا به. لكن عندما اختلفوا مع المسلمين ارتدوا عن تراثهم بطريقة قبيحة وتنكروا لكل ما هو عربي. أنا عندما كنت في صف الفرشمان درست الروائع. والروائع فعلاً روائع. لكنني في نهاية المطاف لم يرق لي فؤاد افرام البستاني في برامجه التلفزيونية، وكيف يروي تاريخ لبنان وتاريخ فخر الدين. وعندما كتبت عن فخر الدين اعتمدت على تحليل الوقائع، فأصبت. أما اليوم فإن عبد الرحيم أبو حسين يؤكد استنتاجاتي. يقولون إن أباه “سلطان البر”، أو جده سلطان البر. هذه نكتة سخيفة.

ـ أمير عربستان.

• عربستان تعني سوريا، نفير سوريا بحسب بطرس البستاني الذي يقول: بلدنا ومشربنا هي سوريا المعروفة ببلاد الشام وعربستان، جميعنا نتنشق هواها ونشرب مياهها ونأكل خيراتها. أما فخر الدين فقد حمّلونا إيّاه. وأنا في كتابي “بيت بمنازل كثيرة” قلت إن الدروز، الذين هم أصحاب فخر الدين، يعرفون حقيقته.

ـ لماذا لا يقولون الحقيقة إذاً؟

• لا يسمونه أمير البلاد. فخر الدين كان زعيماً محلياً وتسلم مركزه في زمن العثمانيين، وكان هناك مَن هم ضده، وآخرون وضعهم في السجن. وهؤلاء ساهموا في تسليمه إلى العثمانيين. وبعد الاستقلال قامت المؤسسة اللبنانية المسيحية بصنع تمثال له، ونصبته في بعقلين، فنسفه الدروز سنة 1983.

ـ كان وليد جنبلاط يعتبره عميلاً للغرب.

• أنا أفهم هذه العقلية لأنني عشت بينهم. إن فخر الدين المزوّر الذي نسفوا تمثاله في بعقلين ما زالت صورته معلقة كزعيم درزي. هم أصحاب القضية يعرفون الحقيقة لكنهم لم يكتبوا تاريخاً. والمشكلة أن بقية الطوائف ما عدا الموارنة (أو المسيحيين عموماً) لم تكتب التاريخ. فصارت الحال كما يقول المثل (مثل ما بتطبخ الطرما بياكل جوزها الأعمى). ثم جاء طنوس الشدياق وصاروا مثلما يطبخ يأكلون. يقول أنتم أصلكم من اليمن فيجيبون نعم أصلنا من اليمن؛ أنتم أصلكم ليس من اليمن، نعم أصلنا ليس من اليمن؛ أنتم أصلكم من حوران، نعم نحن من حوران؛ أنتم أصلكم غساسنة، نعم نحن أصلنا غساسنة… إلخ.

ـ تقوم النظرية العامة للمؤرخ جواد بولس على أن سلسلة لبنان الشرقية هي فاصل قومي بين لبنان وسورية. كيف تنقد هذه النظرية؟

• أين هو هذا الفاصل الإثني؟ حتى اليوم لا توجد منطقة صافية للموارنة. البترون وجبيل فيها مجموعات سنّية.

ـ أنت تسخر من اللبنانيين في كثير من الحالات، فتقول إنهم كذّابون، منافقون ويدّعون العكس، ويشتغلون عند بعضهم بعضاً ويُحِبّون الأشياء نفسها، ويكرهون الأشياء نفسها، ويشتركون في صغر العقل بشكل مثالي. حتى لعب الورق في الجبل اللبناني يصبح للنكايات و”التزريك” وليس للتمتع. وتنقل عن البطريرك بولس المعوشي قوله إن الموارنة شعب مخّه يابس مثل صخور هذا الجبل. هل يختلف الموارنة في هذا الشأن عن بقية سكان الجبل في لبنان، وعن بقية سكان الجبال في بلاد الشام؟

• الموارنة أصدق من غيرهم. أحياناً يرون الحقيقة على حالها ولا يخشون من قولها. عندما قال لي بطريرك الموارنة هذا الكلام، وأنا لست مارونياً، وهو يعرف ذلك، فهذا أمر يُحترم. وحتى عندما يكذبون يقولون: هذه كذبة. الوعي لديهم متطور أكثر من سواهم، ولديهم ثقة بأنفسهم لأنهم ظلوا مدة طويلة يتخذون قراراتهم بأنفسهم، وحقبة طويلة أيضاً كانوا يتخذون القرارات بالنيابة عن غيرهم. أخطأوا أحياناً، وزادوها أحياناً أخرى، و”خبّصوا”، ولم تكن نهايتهم كبدايتهم، هذا كله صحيح. ولكن لا مأخذ عليهم إذا قالوا إننا شعب مخّه يابس، وإن تاريخنا قرون من معاندة الصخر.

عربي أم فينيقي؟

ـ هل لبنان عربي أم متوسطي أم سرياني أم فينيقي؟

• لبنان عربي. أكثر بلد عربي عروبة هو لبنان. وفيه جميع أخطاء العرب، وجميع صفات العرب الحميدة. نحب الحرية “ونتزعرن”. هات تاريخ العرب وأعصره تجد تاريخ لبنان. وبهذا المعنى فإن لبنان أكثر بلد عربي في العالم العربي. إنه بلد عربي لا دين له. كان المرء يذهب إلى إفريقيا الشمالية يجد ما يسمى “المسلمون الفرنسيون”، ولا توجد كلمة عربي. اليوم صاروا يقولون عن أنفسهم عرب. وعندما يقولون عربي فهذا يعني أنه “مسلم”. أنا تجوّلت في العالم العربي المشرقي. لم أجد مكاناً إلا اعتقدوا فيه أنني مسلم. وعندما أقول لهم أنا لست مسلماً بل مسيحي، كانوا يصابون بالدهشة، ويروحون يسألونني: إذاً كيف تتكلم العربية؟

ـ لا يستطيعون التفريق بين الدين والقومية. ميشيل عفلق أبو القومية العربية الحديثة، ومعه قسطنطين زريق، وكذلك جورج حبش وأنطون سعادة. هؤلاء جميعهم مسيحيون. هذه المشكلة موجودة في شمال إفريقيا. ولكن في المشرق العربي (لبنان وسورية وفلسطين والأردن والعراق) أعتقد أن هناك وضوحاً في أن العروبة هي إطار ثقافي وحضاري، أما الدين فشأن آخر.

• بلادنا، وأنا أحب استعمال كلمة بلادنا حتى تشمل أبعد من لبنان، وكي لا يقولون عني هذا سوري قومي أو قومي عربي، هي أرض العروبة الأصلية. العروبة لم تأتِ من الجزيرة العربية، بل نشأت هنا.

ـ تقصد العروبة كفكرة وكثقافة.

• لا. العروبة كلغة. أول كتابة عربية ظهرت في بلادنا، قرب درعا في حوران. كان عالم الآثار الفرنسي الشهير مسيو دونان الذي اشتغل على جبيل، وجد في درعا نصّاً بالحرف المسمى فينيقياً، وهو الحرف الذي كتبت فيه لهجات مختلفة من اللغة الكنعانية ومنها العبرية التوراتية ومنها ما يسمونه الفينيقية، ومنها لغة شرق الأردن المسمّاة موآبية… إلخ. هذا النقش حيّرهم. ولم يتمكنوا من فك لغته أو قراءته بالفينيقية أو الكنعانية. جربوا جميع اللهجات الكنعانية ولم يستطيعوا شيئاً. أخيراً، خطر في بالهم قراءته بالعربية. فتبين أنه عربي، ومكتوب بالحرف الكنعاني. وهذا يعني أن العربية ليست أحدث لغة كنعانية. الكنعانية كُتبت قبل العربية، لكن العربية هي أقدم اللغات السامية. واللغة الكنعانية هي مجرد لهجة من لهجات العربية، وكذلك اللغة الآرامية والتي ألفظها هكذا: إرامية (بكسر الألف) بحسب لغة القرآن. وإحدى مآسي التاريخ ان اليهود اتخذوا الاسم الغلط لهم. هم يهود وليسوا إسرائيليين. ثم إنهم سكّروا على أنفسهم الأبواب التي يمكن أن تساعدهم في فهم أنفسهم وتاريخهم ولغتهم وأدبهم.

ـ علم الآثار الإسرائيلي ما برح يبرهن صحة نظريتك ولو بصورة غير مباشرة. وعلماء الآثار الإسرائيليون لم يجدوا خشبة واحدة حتى الآن، لا من هيكل سليمان ولا من حقبة داوود ولا أي أثر مما ورد في الرواية التوراتية التقليدية.

• إنهم يقولون الحقيقة.

(*) مقاطع من حوار طويل ينشر كاملاً في العدد الثاني من مجلة “الآخر”، الذي سوف يصدر في أواخر أيلول الجاري.

كمال الصليبي: المؤرّخ الذي عرّفنا بأنفسنا

طلال سلمان

من المصادفات القدرية الظالمة أن يُفقدنا الموت مؤرخاً جليلاً تميّز بدقة العالِم ودأب الباحث النزيه والأمين وشجاعة الفدائي، هو الدكتور كمال الصليبي.

ذلك أن رحيل هذا الذي أعاد كتابة العديد من فصول تاريخنا، بأمانة مطهرة من الغرض أو التعصب أو الجنوح إلى السهولة أو الرغبة في تسفيه كتبة السلطان، يأتي في لحظة تؤسس لتزوير تاريخنا المعاش بوقاحة نادرة وتسليم جبان لإرادة الأقوى، مع المفاخرة باتخاذ موقع شهود الزور على الجريمة الجديدة التي ترتكب بحق أنفسنا ونحن نشهد «غيرنا» يغيّر لنا هويتنا ويزوّر لنا ـ وأمام عيوننا ـ وقائع أيامنا.

وها نحن نتابع بشغف، وبأم العين وملء السمع، التزوير الفاضح لما يجري في بعض بلادنا ولها، بالمكونات الأصلية والدلالات الفعلية، بحيث تتداخل «الثورة» مع إعادة الاعتبار إلى الاستعمار، ويتماهى «التحرير» مع عودة الاحتلال الأجنبي ـ وبالطلب ـ إلى الأرض العربية التي بالكاد غادرها مكرهاً، وبعدما صادر إرادتنا وحريتنا وحقنا في مستقبلنا بزرع «إسرائيل» في قلب القلب من أرضنا.

لا يخفف من وقع التزوير، الذي يتم علناً وبالصوت والصورة الملونة والكلمة المكتوبة على وقع دوي مدافع الأساطيل، جوية وبحرية، كما يجري لليبيا وفيها، القول بأن الخيار المفروض على شعوب تقهرها أنظمة الطغيان وتغيّبها عن مسرح الفعل هو بين الموت استسلاماً أو «المقاومة» بأسلحة القاهر القديم العائد محرراً لإعادة الكرامة إلى الإنسان والتي سلبها القاهر «الوطني» الذي ألغى الوطن والدولة والناس…

ونحن نشهد اليوم إعادة أو تكراراً للمأساة التي فُرض على شعب العراق أن يعيشها موتاً وتشريداً وخراباً، حين أجبر على مفاضلة بالإكراه بين حكم الطغيان الذي استمر دهراً أو الاحتلال الأميركي الذي دخل البلاد بقوة نيرانه ليخلف من أورثه أرض الرافدين بمن وما عليها.

وأعترف، شخصياً، أنني تعلمت بعضاً من صحيح تاريخنا على يدي الدكتور كمال الصليبي، من خلال بعض كتبه التي تشكل فتحاً في إعادة معرفة الناس من خلال أرضهم، ثم عبر بعض المحاورات التي أتيح لي أن أستمع إليه فيها وهو يرد على أسئلة لا تنتهي عن وقائع مزورة فرض علينا أن نحفظها غيباً وبلا نقاش بوصفها من الثوابت والمسلمات.

ولا يحتاج كتابه الموسوعي الممتاز «التوراة جاءت من شبه جزيرة العرب» إلى شهادة على أنه يتجاوز كونه مرجعاً أميناً، تكتب فيه الجغرافيا الثابتة والباقية التاريخ الصحيح الذي تمّ تزويره، ثم تمّ التسليم بهذا التزوير لانتفاء العلاقة بين اليهود وبين أرض فلسطين، كما تقدمها الرواية الإسرائيلية التي سلم بها العالم وقبلها أهل النظام العربي بخنوع جعلنا نخسر بعض أوطاننا وبعض جدارتنا بها، ثم نسلم بالتزوير المسلح وكأنه قدرنا الذي لا راد له.

كذلك فإن في ما كتبه كمال الصليبي في الكيان اللبناني وعنه قد أسقط الكثير من الخرافات والادعاءات التاريخية المزورة التي جعلت لهذا الوطن الصغير هوية ليست له.

ابن العائلة المتحدرة من بحمدون الضيعة الذي وُلد في كركون الدروز في بيروت وعشق رأس بيروت وكتب على وقع دوي مدافع الحرب الأهلية، والذي كان يرى أن المقدس هو السؤال، وجد الأجوبة في الأرض حين استقرأها فدلته على الحقيقة الباقية فيها…

كمال الصليبي عرّفنا إلى لبنان الذي يدرسه أبناؤنا مغلوطاً، والذي طالما جرّه نظامه الطوائفي إلى إنكار هويته بذريعة الخطر على الكيان، و«الكيان» هنا تعبير ملطف عن «مطلب المسيحيين» خصوصاً، الذين توهموا أن الوطنية والانتماء العربي خطر عليهم في حين أنهما الضمانة، ليخلص إلى الجزم: لن يصيب لبنان إلا ما يفعلونه به بأنفسهم.

وداعاً أيها المؤرخ الأمين الذي عرّفنا إلى أنفسنا وفضح ادعاءات عدونا عن «حقه التاريخي» في أرضنا، والذي فضح تخاذل أنظمة القمع التي تحكمنا عن حماية تاريخنا بينما هي تجاوزت السكوت عن الاحتلال إلى طلب حماية الأجنبي بذريعة حماية الثورة التي شرطها الأول تحرير الأرض، وليس باستعادة الاحتلال تكون الثورة ويكتب التاريخ الجديد.. والصحيح!

فارس التاريخ رحل ولم يترجّل

زياد منى

عندما يكتب المرء عن عظيم أمة أثرى العالم بكتاباته، من قامة الأستاذ الكبير كمال الصليبي، لا يكون في مواجهة مهمة شاقة، ذلك أنّ عطاءاته العلمية تراها في كل مكان وفي كل زاوية، لكن الأمر الصعب حقاً هو الكتابة عن فارس التاريخ الذي رحل ولم يترجّل. هنا، يختلط مداد بمساحة المحيطات، بدموع لا تتوقف عن الانهمار حزناً على رحيل المؤرخ والمعلم والمربي، وفي المقام الأول الإنسان، الذي أثّر في كل من التقاه، ولو كان ذلك لسويعات قليلة.

تعرفت إلى الأستاذ الراحل قبل ما يزيد على عشرين عاماً. وقتذاك، كنتُ ما زلت مقيماً في ألمانيا وأعد رسالة الدكتوراه الثانية عن موضوعته، الموضوعة الكمالية، عن تاريخ بني إسرائيل في جنوب شرقي جزيرة العرب. طلبت مساعدته وإشرافه على أعمالي التي كانت تتعثر لأسباب كثيرة، فلم يتردد لحظة. منذ ذلك اليوم، توطّدت بيننا علاقة أكاديمية وإنسانية، بين تلميذ وأستاذ، بين عالم فاح عطره العالم بكتاباته وموضوعاته، وباحث يتلمس خطواته في طريق معلمه. كان العالم قد عرفه قبل طرح موضوعته الكمالية، عندما نشر كتابه عن تاريخ جزيرة العرب، فعدته «الموسوعة البريطانية» المرجع عن الموضوع. عبقرية الراحل الكبير لم تكمن فقط في تقديم موضوعته عن جغرافية تاريخ بني إسرائيل في عسير، كما ترد في «الكتاب المقدس»، بل أيضاً في كونه أول من قدم إلى العرب «علم الدراسات الكِتَابِيَّة/ Biblical Studies» الذي يعرفه العالم باسم «عش الأفاعي» أو «عش العقارب»، لأنّ الباحث فيه إن ارتكب غلطة واحدة تكون الأولى، وفي الوقت نفسه الأخيرة.

خطرت لي عندئذ فكرة إجراء حوار مطوّل معه ليشرح عبره موضوعته الكماليَّة للقارئ بتوسع يُنشر كتيباً. طلب مني التريث، لكنه في نهاية المطاف اقتنع وذهبت للقائه في عمان، وكانت المرة الأولى التي نلتقي فيها شخصياً. جلسنا في مكتبه وفي بيته ساعات طويلة، على مدار يومين، أجاب فيها عن كل سؤال طرحته، من دون ملل. اتفقنا على أن تبقى تسجيلات الحوار لديّ لا أنشرها من دون موافقته، وهكذا كان.

الصليبي من العلماء النادرين الذين أثبتوا صحة وجود علاقة طردية بين العلم والتواضع. كان يشعر بأن العلماء الغربيين عارضوه ووقفوا ضده لكونه عربياً. وكان شديد الاعتزاز بهويته العربية، وكثيراً ما ردد أمامي استياءه من عنصرية الغرب. كان يقول: «لقد وقفوا ضد موضوعتي لأني عربيّ». وتعرض الراحل لسيل شتائم مدّعي المعرفة والعلم في صحافة التكفيريين، لكنه لم يكن يلتفت إليها، ولم تؤثر فيه وفي قناعاته، مع أنه كان يتألم من الشتائم. في الوقت نفسه، أسرّ لي مرة بأنه لم يقرأها أصلاً حتى يكترث لها، وحسناً فعلتَ أستاذي الكبير.

كان قد نشر العديد من الأبحاث في مجلات إنكليزية متخصصة، لذا لم يطلع القارئ العربي عليها. وقد وافق، بلا تردد، على أن أقوم بترجمتها ونشرها. الآن لديه كتاب واحد عن موضوعته لم ينشر بالعربية، كتبه باللغة الإنكليزية هو The Historicity of Biblical Israel وصدر عن «المعهد الملكي» في عمان. كان يتردد في نشره بالعربية ويقول: «لا أريد مشاكل إضافية». فانتظر. بعد مرور سنوات عدة سمح لي بترجمته إلى العربية، على ألا أنشره إلا بعد موافقته. كان قد عاد وقتذاك إلى بيروت، وكنت حريصاً على نيل شرف لقائه في منزله في منطقة الحمرا، كلما زرت المدينة.

في الفترة الأخيرة، عانى مشاكل صحية حدت من مقدرته على المشي والقراءة، لكن عقله المبدع وذهنه بقيا متوقدين يشعان نوراً، وهذا ما حمّسني على اقتراح إجراء لقاء صحافي معه لجريدة «الأخبار» نشرته في 23 شباط (فبراير) عام 2009. رغم معاناته الصحية، جلس معي في بيته ساعات طويلة يجيب فيها عن أسئلتي، ويشرح للقارئ جوهر موضوعته. كان يقول لي، متودداً خلال فترة اللقاء: «إذا تعبتَ يمكنك التوقف للاستراحة!».

كثيراً ما «تنزهنا» معاً في الشوارع المحيطة بمنزله، حيث كان يصر على المشي، نتجول بين معهد التراث الدرزي، حيث عمل فترة، ومكتبات شارع الحمرا. يحدثني عن مشاريعه المختلفة وعمله فيها، وكان حينذاك متفرغاً لنشر كتاب عن رياض الصلح، وأحدّثه عن خططي للنشر. وقد التقيته للمرة الأخيرة قبل أسابيع قليلة في بيروت، حيث كان يسير رفقة الأخ والزميل العزيز سليمان بختي، ومتكئاً على ذراعه. أخبرته عن تعثر العمل في ترجمة مؤلَّفه، الذي أذن لي أخيراًً بنشره، وأضفت إنني سأستأنف مراجعته فابتسم متفهماً.

كمال الصليبي، أيها العالم الكبير بلا ادعاء، المبدع بلا نظير، المربي المتفاني، لقد ازدادت حياتي ثراءً بالتعرف إليك، ومعارفي تعمقت بقراءة ما كتبتَ، وأثْرَت كلماتك تجاربي في مختلف مناحي الحياة، كما أثرَت حيوات كثيرين من طلابك.

وبيروت بلا كمال الصليبي أفقر. كمال الصليبي لم يرحل، بل استحال نجماً يشع في سماء بلادنا المعتمة، فيرينا الطريق المستقيم. أستاذي الفاضل، كمال الصليبي، كل المفردات واللغات التي تعلّمتُها لا تكفي للحديث عن دقيقة في حضرتك. أنت فارس لا يترجل.

* كاتب وناشر «دار قدمس»

كمال الصليبي: أنا أشكّ إذاً أنا مؤرّخ

قلب المعادلة الديكارتيّة وأصابنا بجراح معرفية عميقة

رحل أوّل من أمس، المؤرّخ اللبناني المعروف الذي سيوارى في ثرى بلدته بحمدون السبت، بعد أن يصلّى على جثمانه في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في وسط بيروت. هكذا، طوى صاحب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» سيرة غنية اعتمدت على زعزعة اليقينيات ومقارعة الرواية الرسمية في التاريخ

ريتا فرج

كمال الصليبي (1929 ـــــ 2011) أحد أكثر المؤرخين العرب إثارةً للجدل. نظرياته التاريخية تبحر عكس تيّار الذاكرة الجاهزة التي فرضت نفسها على المدونات الرسمية. فكّك المسلمات في ذاكرتنا، وأسس لمنهجية حديثة في التحري عن الحقائق عبر ربط اللغة بالجغرافيا.

لا ينتمي مؤرخنا السجالي إلى أولئك الذين اعتادوا الثوابت. تتخطى هويته المعرفية الأنماط التقليدية في تدوين التاريخ. بدءاً من «منطلق تاريخ لبنان» (1979) أعلن السير عكس التيار، ورغم أن كثيرين استهجنوا خلاصاته، وخصوصاً أطروحته «التوراة جاءت من جزيرة العرب» (1985) التي تفنّد الرواية الدينية عن تاريخ اليهود في فلسطين… تابع صاحب «طائر على سنديانة» (2002) أبحاثه التي عُدّت بمثابة الانقلاب.

في «البحث عن يسوع» (1988)، أكمل المنعطفات التاريخية، مزعزعاً الرواية المتوارثة عن ولادة المسيح في بيت لحم، وظهوره في الناصرة ثم القدس. توصل إلى أنّ ثلاثة من الناس كانوا يكنّون بـ «المسيح»: عيسى بن مريم، ويسوع الذي من آل داود، المطالب بعرش جده ـــــ وهذا ولد في وادي جليل في منطقة الطائف، وصُلب في القدس ـــــ وإله العيس في الحجاز، أي إله الخصوبة. وأكد أنّ مريم اسم خالة المسيح لا اسم أمه. ونقل عن وهب بن منبه في كتابه «التيجان في ملوك حمير» أنّ قبر عيسى بن مريم كان موجوداً حتى القرنين الأولين من ظهور الإسلام على رأس جبل جمناء جنوب يثرب.

ولد كمال الصليبي في بيروت، عام 1929. دخل الجامعة الأميركية في بيروت حيث درس التاريخ، وبعدها سافر الى بريطانيا لينال الدكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط، على أطروحته «المؤرخون الموارنة وتاريخ لبنان في العصور الوسطى» (1953). ثم عاد الى لبنان أُستاذاً للتاريخ في الجامعة الأميركية، ودرّس فيها بين 1954 و1997، حيث كان رئيساً لدائرة التاريخ، ثم انتقل إلى الأردن، حيث عُهد إليه تأسيس المعهد الملكي للدراسات الدينية، وبقي فيه رئيس شرف مدى الحياة.

أهمية المؤرّخ اللبناني الراحل، تكمن في المناهج التي اتبعها. عمله كمؤرخ ارتكز على دراسة التاريخ وتفكيكه، وربط اللغة بالجغرافيا. درس النصوص التاريخية المارونية المتعلقة بتاريخ لبنان في «العصور الوسطى». ليست هناك من حقيقة نهائية أو يقينية بالنسبة إليه. هذا المنهج النقدي البنّاء طبّقه في دراسته للنص التوراتي فوضع «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، حيث أكّد أنّ التوراة الموجودة حالياً عبارة عن مجموعة من الكتابات الأدبية لشعب من شعوب العرب البائدة اسمه بنو إسرائيل، وأن البيئة التاريخية للتوراة لم تكن في فلسطين، بل في غرب شبه الجزيرة العربية، بمحاذاة البحر الأحمر، وتحديداً في بلاد السراة بين الطائف ومشارف اليمن، وبالتالي فإن بني إسرائيل من شعوب العرب البائدة، أي من شعوب الجاهلية الأولى.

التاريخ مع كمال الصليبي له مذاق آخر. هو تدقيق وتنقيب وحفر، واستقراء النص عبر لغته وأخذه الى أصوله. قطع صاحب «تاريخ الجزيرة العربية» (1980) مع التاريخ المقدس، فالشك أساس المعرفة. وقد نجح في التمييز بين الأساطير والوقائع. أصابنا المعلّم الراحل بجراح معرفية متسارعة، ما دفعنا الى قلب المعادلة الديكارتية التي أصبحت معه «أنا أشك إذاً أنا موجود». هذه المعادلة طبقها الصليبي عبر التحري عن أمكنة اللغة وتطوراتها، وقد تجلى منهجه في كتابَيه «التوراة جاءت من جزيرة العرب» و«البحث عن يسوع، قراءة جديدة في الأناجيل». فهل يعني ذلك أن كل التاريخ الديني للديانات التوحيدية أصله من الجزيرة العربية؟ طرح السؤال يكفي لهدم ما هو سائد.

القلق عند الصليبي أساس المعرفة. وعلى هذا الأساس كتب التاريخ الديني والسياسي، فقد انقلب على التراث المكتوب وسعى الى أنسنة الوقائع والأحداث التاريخية، فبدا نصه خالياً من الأساطير والمقدسات، وأقرب الى الحقائق الجرحية التي تريح العقل أكثر من الايديولوجيا. ينتمي صاحب «بلاد الشام في العصور الإسلامية الأولى» (1979) الى جيل مبدعي الفكر العربي المعاصر أمثال هشام جعيط ومحمد أركون. ورغم اختلاف المشروع المعرفي، يبقى الجامع بينه وبين من عاصرهم نقد التاريخ والكشف عنه بسواده وإشعاعه.كان الراحل شديد الاعتزاز بعروبته. ولطالما أكد أنه يفتخر بانتمائه الثقافي الى العرب والإسلام. ورغم أنه مسيحي، فقد كان يعدّ نفسه مسلماً بتوحيده.

اختار هذا العالم والمؤرّخ العزلة الطوعيّة، ولم يتزوج. ربما لأن الوقت لم يسعفه، بعدما أمضى الجزء الأكبر من حياته في التدريس والتأليف باللغتين العربية والإنكليزية (مؤلفاته العربية صادرة عن دار «الشروق» الأردنية، و«نوفل» و«نلسن»، و«قدمس»).

مع رحيل الصليبي، الذي اتهمه ذوو العقول الضيقة بالضلال، خسر العالم العربي أحد أهم مؤرخيه ممن تصدوا للتاريخ الرسمي، وتركوا وراءهم إرثاً علمياً، قد تدرك أهميته الأجيال المقبلة شريطة أن تعلم «أنّ الشك مفتاح المعرفة».

الألمع في جيله

«قلبه بسيط وعقله معقّد»، هكذا وصف الأكاديمي والكاتب طريف الخالدي صديقه الراحل كمال الصليبي الذي زامله في دائرة التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت ابتداءً من عام 1970. وقد قال الخالدي في حديث لـ«الأخبار» إنّ الصليبي «أهم مؤرّخ لبناني معاصر، والألمع في جيله الممتد من أواسط القرن العشرين حتى الآن». ورأى الخالدي فور تلقّيه نبأ الرحيل، أنّ هذه الأهمية تبرز أكثر في كتابيه «تاريخ لبنان الحديث»، و«بيت بمنازل كثيرة» الذي «أرّخ فيه كتابة التاريخ، إضافةً إلى أعماله التوراتية وغيرها». وأضاف الخالدي أنّ الصليبي آمن بأنّ «التاريخ قصة يجب أن تروى، وتمتّع بنفس الراوي الذي يسرد الحكايات».

أما المؤرخ والاقتصادي والكاتب اللبناني والوزير السابق جورج قرم، فقال لوكالة «فرانس برس» إن «الصليبي احتل موقعاً كبيراً في مجال التأريخ. ورغم أن بعض أعماله كانت مثيرة للجدل، إلا أنّه احتلّ مركزاً مرموقاً في الحياة الفكرية اللبنانية والعربية. وقد أغنى المكتبة العربية واللبنانية بأبحاث معمقة ومكتوبة بأسلوب مشوّق وجميل»

آخر إصداراته: كرونولوجيا الهويّة المارونيّة

ريتا فرج

ليس جديداً على كمال الصليبي كتابة التاريخ عبر جغرافيا اللغة والمكان، وآخر إصداراته عن «دار نلسن» ليس إلا ترسيخاً لهذا المنحى وتتويجاً له. ينتمي الصليبي إلى جيل أحدث ثورة حقيقية في مناهج التأريخ، ويمكن اعتباره من المؤرخين الذين عاينوا الأحداث والوقائع عبر رصد التفاصيل، والبحث الأركيولوجي عن مجريات تاريخية بدت بمثابة الانقلاب في نظر كل الذين يعتمدون الرواية الرسمية.

«الموارنة ـــ صُورة تاريخية»، أحدث إصدارات الراحل عن «دار نلسن»، هي عبارة عن دراسة كُتبت عام 1969 وعادت الى الضوء بعد أكثر من 40 عاماً. فيها يقدّم صاحب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» بانوراما خاطفة عن تاريخ الموارنة في لبنان، بدءاً من هروبهم من وادي العاصي، وصولاً الى تحقيق الحلم الماروني بإعلان دولة لبنان الكبير عام 1920.

يبدأ الصليبي دراسته بتعقب نشوء الموارنة كطائفة في وادي العاصي، أي في حمص وحماه. ويؤكد صاحب «البحث عن يسوع؛ قراءة جديدة في الأناجيل» أن نزوح الموارنة الأوائل من وادي العاصي الى الجزء الشمالي من جبل لبنان، مرده الى الهرب من «جور الروم» بسبب الخلاف العقائدي معهم حول طبيعة المسيح. استقرار الموارنة في جرود لبنان الشمالي أدى الى عزلتهم عن العالم الخارجي، وترافق مع طرد الخلفاء الفاطميين للروم من بلاد الشام التي عادت الى سيطرة المسلمين.

ويعيد المؤرّخ أول عملية اضطهاد للموارنة، من قبل الفاطميين والسلاجقة، الى بدايات القرن الحادي عشر. إذ يعتبر أن موجة «الاضطهاد» تلك كانت الأولى منذ الفتح الإسلامي. يرسم صاحب «حروب داوود» كرونولوجيا الهوية المارونية ولو باقتضاب، فيصفهم بالشعب الصلب الغيور على كيانه ودينه، الماهر في القتال. ولعل وعورة البيئة التي هربوا اليها أكسبتهم هذا الزخم من الصلابة، من دون أن ننسى الصعوبات التي تعرضوا لها إثر التحولات السياسية منذ اندحار بيزنطيا، وصولاً الى انتقال الخلافة الإسلامية الى العثمانيين.

الحدث التاريخي الأساسي الذي يضيء الصليبي عليه يتمثّل في زحف الفرنجة أو الصليبين عام 1096 الى المشرق بحجّة حماية الأمكنة المقدسة. ويذكر أن جزءاً من الموارنة تعاونوا معهم واستقبلوهم «وفي ربيع 1099، وصل الفرنجة الى عرقا قرب طرابلس، فنزلت وفود الموارنة لاستقبالهم هناك يوم عيد الفصح في 10 نيسان، وهكذا تمّ اللقاء الأول بين الموارنة والفرنجة».

احتلال الفرنجة لأجزاء من بلاد المشرق سمح للموارنة بالإفصاح عن هويتهم، فأنشأوا الكنائس والأديرة في مختلف قرى جبل لبنان، وبدأوا بدق النواقيس من النحاس بدل الخشب للصلاة والقداس. وأسباب ذلك أنّ الدول الإسلامية منعت المسيحيين من استعمال الأجراس النحاسية والاستعاضة عنها بالنواقيس الخشبية.

لم يستقر بطاركة الكنيسة المارونية في حيز جغرافي واحد. ورغم أن زحف الفرنجة الى المشرق سمح بانتعاشهم، إلا أنّ حملات المماليك على كسروان أصابهتم بنكسة. وفي هذا السياق يلفت الصليبي الى أنهم لم يتعرضوا في البداية للاضطهاد من قبل المماليك الذين «ركزوا اهتمامهم على اضطهاد النصيرية والشيعية الإسماعيلية والاثني عشرية في منطقتي الضنية وكسروان».

وحالما أغار فرنجة قبرص على الإسكندرية، تعرّض المسيحيون، وبينهم الموارنة، لـ«اضطهادات عنيفة» من قبل المماليك. مع الخلافة العثمانية قسمت الممالك الى إيالات، ما أدى الى ضم الموارنة في جبة بشري وبلاد البترون الى ولاة طرابلس العثمانيين. وحدث هنا تحولٌ مهمّ في تاريخ الموارنة كما يلفت الكاتب. تعززت علاقتهم مع آل عساف، التركمان السنيين، وهؤلاء أتت بهم السلطنة لتدبير شؤون ولاية طرابلس، واستعان بهم الأمراء العسافيون لمناوأة خصومهم من الشيعة «سكان كسروان الأصليين».

يرصد صاحب «المؤرخون الموارنة خلال العصر الوسيط» تنامي حضور الطائفة المارونية، سياسياً وديموغرافياً، في حقبات تاريخية مختلفة. قوة هذا الحضور ترسخت بفعل عوامل عدة، بينها حركة النزوح الماروني الى المناطق الدرزية والشيعية في منطقتي الشوف وكسروان، والامتيازات التي تلقتها البطريركية المارونية من العثمانيين بضغط من فرنسا التي حققت لهم حلم إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920. ذلك هو آخر إصدار الصليبي، علماً بأنّ هذه الدراسة الموجزة كتبت قبل أربعة عقود ونيّف. ومن يدري، ربّما كان في أدراجه أو لدى ناشريه مخطوطات أخرى ستبصر النور بعد رحيله. ورغم كونها موجزة، فإن هذه الدراسة تقدّم مفاتيح معرفية مهمّة في تاريخ الموارنة وبقية الطوائف. والمؤرّخ اللبناني، الذي غادرنا أخيراً، إن دلت مؤلفاته على شيء، فعلى الافتراق المنهجي الذي دشنه الكاتب بشكل تراكمي. ولا شك في أنّه أصاب التاريخ الرسمي بشظايا كثيرة، لا في المجال اللبناني فحسب، بل أيضاً في الجزء الأكبر من المواضيع التي تطرق إليها ودعمها بوثائق ومصادر.

ولعلّ أهمية المؤرخ الإشكالي أنه سار طوال حياته العلميّة وحيداً عكس التيار، ما أعطاه حيّزاً سجالياً قلّ نظيره مقارنة بمعاصريه من المؤرخين.

عذر الصليبي

ساطع نور الدين

مات ولم يجب عن السؤال الذي ظل يطرح عليه منذ ان كتب أن «التوراة جاءت من الجزيرة العربية»، والذي بات يلح عليه اكثر بعدما انجز «البحث عن عيسى»، لأن مهمة تفكيك الخرافات التاريخية ليست على الدوام مهمة آمنة. لعله احتفظ بالاجابة في سره او في اوراقه التي لا يمكن ان تنشر لا اليوم ولا في اي يوم قريب. كانت تعابير وجهه وحركات يديه توحي بأنه اشتغل على السؤال ونقب في الوثائق وتوصل الى ما لا يمكن ان يعوض، وما لا يمكن ان يخفف من وطأة الموت.

كان السؤال هو الوحيد الذي امتنع المؤرخ المغامر في خرق المحرمات المشرقية كلها وتحطيم الاكاذيب المنقولة منذ قرون، عن وضعه في سياقه التاريخي، لانه كان يخشى من التسييس ومن الاساءة الى ما يمكن ان يتوصل اليه الباحث من قبل الجميع، بغض النظر عن مراتبهم العملية ومستوياتهم الفكرية والثقافية، وعن انتماءاتهم الحادة التي رسمت الكثير من خطوط التماس بين الحضارات والاديان، وفتحت اكثر من جبهة حرب بين الشرق والغرب، كما داخل كل من الشرق والغرب.

عذر الدكتور كمال الصليبي الشخصي كان مقبولا في تفاديه الغوص في الخرافات التي رافقت الديانة الاسلامية، مثلما سبق ان تعمق في الخرافات اليهودية والمسيحية. لكن عذره التاريخي غير مبرر ابدا… حتى ولو زعم المسلمون ان دينهم وتاريخهم هو الاشد التصاقا بالواقع والاكثر مصداقية والاقل غيبية من الديانتين السابقتين. فما انتجته المجتمعات المسلمة على مر العصور من اساطير كانت ولا تزال حتى اليوم بمثابة اسلحة دمار شامل، تهدد بمحو الصفحات المشرقة من تاريخ الاسلام والمسلمين، وتولد اجيالا من المتشددين والاميين الذين كانوا على الدوام يجدون مؤسسات دينية تحضنهم و«علماء» معممين يقودونهم الى الجحيم.

الادعاء ان التاريخ الاسلامي كان منزها، خاليا من الدجل، لا يستقيم مع اي منطق. وعدم تجروء اي مؤرخ جدي على تفنيد الكثير من الاكاذيب والافتراءات والاضافات المتأخرة، ليس ابدا دليل ثقة بالنفس وبالنصوص القديمة، التي تستخدم الان في مواجهة الاخر ايا كانت ديانته ومهما كان مذهبه الاسلامي. ما علق بذلك التاريخ من شوائب ونواقص ما زال حاضرا بقوة في كل بيت يقطنه مسلمون، سواء كانوا في بلد مسلم او غير مسلم. اما الفتنة المذهبية المستعادة هذه الايام في جميع ديار الاسلام، فهي اخطر نتاج تتوارثه الاجيال المسلمة على مر العصور، وتنسبه بسهولة الى العقيدة والجوهر والاصل.

مات قبل ان يقوم بتلك المهمة الخطرة، التي لا شك انها خطرت في باله وفي سعيه الدؤوب لاعادة كتابة تاريخ المشرق العربي بموضوعية وحرفية لا مثيل لها، تبدو معها المزحة اللبنانية التي كانت احد موضوعاته الاثيرة مجرد لحظة عابرة، والمسيحية العربية التي كانت احد موضوعاته الحميمة مجرد فكرة ماضية، لان الاسلام في مأزق سياسي والمسيحية في مشكلة تاريخية واليهودية خارج التاريخ الذي لا يرحم… ولا يسمح بالترحم الا على المؤرخ الفذ.

السفير

في وداع المؤرخ كمال الصليبي

د. غسان رباح

أن تكون في حضرة وداع رجل بقامة المؤرخ الكبير الدكتور كمال الصليبي، يعني أنك تودع عالماً وشاهداً على حقبة مرت في أعماق تاريخ لبنان الحديث. ما وفر لنا مرجعاً تماماً لمحطات المعرفة العلمية لتلك الحقبة، وبكل مكوناتها الايجابية منها والسلبية.

هذا، وليس من السهل عليك ان تصل الى درجات الخبرة بالتاريخ وتعلم خفاياه وزواياه الهامة فقط من خلال كتابات الصليبي المتعددة وذات القيمة الدولية المحترفة، انما عليك ايضا محاكاة الأفكار الشفوية التي كان ينطق بمحتواها في ايام تقاعده بعد الابلال من تعبه الطويل من حرم الجامعات الراقية، كمثل الجامعة الاميركية في بيروت، وهو صاحب ميزة انسانية نادرة ولافتة، اذ لم يكن لطلابه مجرد محاضر وموجّه، ولكنه استطاع، وفي شهادة للواقع والحق، مع العديد من شبان تلك الجامعة، ان يحول منزله محجة تجعل من هؤلاء اصحاب زوادة منتجة في مختلف الاختصاصات الأدبية منها والعلمية.

لقد آمن كمال الصليبي ان الكتابة حول تاريخ لبنان والعرب تستدعي الاحاطة بمميزات طوائفهم بعيداً عن الجوانب الايديولوجية المعقدة، مكوناً لنفسه ساحات مريحة من الخطاب التاريخي العلمي والاهتمام بالنصوص الحضارية الحية، ذات الجذور المتعددة والمتلونة بتعدد وتلون مصادرها، ووسط تفسيرات مدهشة لتاريخ لبنان السياسي من خلال قراءة واضحة لتاريخه الاجتماعي الزاهر بالحوادث والمواقف على مر الأزمنة والعصور.

اول من أمس رحل عنا كمال الصليبي هادئاً صامتاً، تاركاً لنا ارثاً تاريخياً يستحق المتابعة وعمق الدراسة، وهو زهد بالدنيا وحطامها، شغفه الوحيد الوصول الى معرفة الحقيقة بعيداً عن الشبهة والشك والتزوير.

عندما تفقد الأوطان رجالاً على مستوى العمق في فكر هذا الفقيد، يتراءى لها ان تعويضه يقارب الاستحالة. ولاسيما أننا نعيش زمن الشحائح وندرة العطاء، فهل من مزيد؟؟

وداعاً ايها العزيز؛ بل الى اللقاء حول مائدة علمك ومعرفتك وطيب سمعتك وجليل ذكراك.

كمال الصليبي السجالي برؤية إنسانية

مسعود ضاهر *

مفكر لبناني بارز عرف عمق الانتماء إلى الحضارة العربية، وكانت له مواقف جريئة ضد الادعاءات الصهيونية على أرض فلسطين، وعلى إيمان راسخ بأن صناعة التاريخ تستوجب بقاء الإنسان على أرضه والدفاع عنها بكل ما لديه من طاقات بشرية وموارد اقتصادية حتى يستحق شرف الانتماء إلى تاريخها كأرض حرة لشعب حر.

ولد كمال الصليبي في بحمدون بجبل لبنان في الثاني من أيار 1929 وتوفي في الأول من أيلول 2011. وخلال سنواته المديدة أنجر أبحاثاً تاريخية متنوعة تركت صدى كبيراً في الأوساط الثقافية العربية، حتى لقبه المؤرخ البارز ألبرت حوراني بأنه ابرز المؤرخين اللبنانيين المعاصرين بلا منازع.

وإلى جانب أبحاثه اللبنانية التي استغرقت حيزاً كبيراً من حياته الأكاديمة، عمل الصليبي على كشف خفايا التوراة وشخصية السيد المسيح، وجمع بين نقد القضايا التاريخية المبنية على المرويات غير المثبتة، والشخصيات الأسطورية التي لا اساس لها في التاريخ الحقيقي، بل هي من صنع الرواة، والقضايا الدينية ذات الطابع الغيبي التي تحوِّل الدين إلى عصبوية سلبية كالعصبيات العرقية والقبلية.

كان الصليبي فعلاً من ابرز رواد التاريخ السجالي بحثاً عن جلاء الحقيقية التاريخية وتخليصها من الأدلجة التي تنشر تاريخاً لا وجود له في الوثائق العلمية، لكن مناقشة الصليبي في جميع سجالاته التاريخية تحتاج إلى ندوات علمية يشارك فيها اهل المعرفة من المؤرخين من ذوي الثقافة المعمَّقة في مجال الدراسات التي اثارها الصليبي ولم يتراجع عنها، لشدة إيمانه بصدقيتها وصلابة المصادر التاريخية التي اعتمد ها. وأكثر من كان يثير غيظه ولا يستثير قلمه للرد عليهم، دعاة التأريخ التقليدي المبسط المستند إلى مرويات غير مثبتة، وشخصيات تاريخية لم يتأكد وجودها التاريخي أصلاً، وأساطير كبيرة يعتقدون بقدرتها على خداع العالم لقرون إضافية. وكان الهدف من ردودهم السطحية الكثيرة على مقولاته النظرية، هو الإبقاء على الجهل بالتاريخ الحقيقي وبناء عصبوية شعبوية ضيقة مازالت تطبع التاريخ اللبناني، ومعه تاريخ العرب وتاريخ اليهود. وقد ادخلوا منطقة الشرق الأوسط في نزاعات قوموية ودينية وقبلية يساند بعضُها بعضاً على امتداد المشرق العربي.

تصدى الصليبي بجرأة نادرة لنقد الأساطير السائدة، ونقض بعضها، على غرار دراسته المعمقة عن التوراة التي جاءت من جزيرة العرب، فأثبت عبثية الأوهام الصهيونية عن إثبات جذورها اليهودية على أرض فلسطين، فشتان ما بين العلم التاريخي المستند إلى المصادر المادية التي يبرزها علم الآثار وبين الدراسات الأيديولوجية التي تبحث عن مصادر أسطورية تقدمها بديلاً للوثائق التاريخية الأصلية. كان الصليبي رائداً ثقافياً في هذا المجال بكل ما لمفهوم الريادة الثقافية من دلالات وأدوات معرفية، فقد تملَّك من لغات قديمة سمحت له بالاطلاع على الوثائق الأصلية بلغاتها الأم، وتجاوز الكم الهائل من المعلومات المؤدلجة والمسندة إلى عنعنات ومرويات تاريخية يسهل التأكد من عدم صحتها نظراً لضعف الأسانيد التي بنيت عليها.

بدأ الصليبي مسيرته العلمية بالتدريس في الجامعة الأميركية منذ وقت مبكر، بعد أن أعد أطروحة الدكتوراه بإشراف المؤرخ المشهور برنارد لويس، وكانت بعنوان: «المؤرخون الموارنة وتاريخ لبنان في العصور الوسطى»، فأنجزها في العام 1953 ونشرها في العام 1959. وكانت كثافة الفكر الإيديولوجي اللبناني واضحة جدا في العنوان كما في الوثائق المسندة، فمصطلح لبنان في العصور الوسطى هو مفهوم إيديولوجي بامتياز لاثبات أولوية الموارنة في بناء لبنان الحديث والمعاصر. وقد تكررت هذه المقولة مع جميع المؤرخين الموارنة الذي نظروا إلى تاريخ لبنان نظرة «طوائفية»، ومنهم من تجاوز العصور الوسطى ليربط تاريخ لبنان بتاريخ فينيقيا ويعتبر أن الموارنة ليسوا عرباً بل لهم تاريخ حضاري متمايز عن تاريخ الشعوب العربية.

لكن تلك المقولات لدى الصليبي الشاب لم تعمر طويلاً، فقد عاش في وسط الجامعة الأميركية بين كوكبة من المؤرخين والمثقفين العروبيين بامتياز، من أمثال قسطنطين زريق، ونبيه أمين فارس، واسد رستم، ونقولا زيادة، ومحمود زايد، ونبيه أمين فارس وغيرهم.

لم يتمسك الصليبي بكثير من المقولات الفكرية التي طبعت بدايات مسيرته العلمية، بل اتجه إلى نقد الأساطير المكوِّنة للكيان اللبناني وللأيديولوجيا اللبنانية، كما توجه لاحقا إلى نقد الأساطير المكوِّنة للأيديولوجيا الصهيونية.

على الجانب اللبناني، نشر كتبه المهمة التي صدرت تباعاً بالإنكليزية وبترجمة لها الى العربية بإشراف الصليبي نفسه، وأبرزها: «تاريخ لبنان الحديث» 1965، و«مفترق طرق إلى الحرب الأهلية» 1976، و «منطلق تاريخ لبنان» 1979، و «التوراة جاءت من جزيرة العرب» 1985، و «خفايا التوراة»، و «أسرار شعب إسرائيل» 1988، و «من كان يسوع « (بالإنكليزية) 1989، وصدر بعنوان «البحث عن يسوع» بالعربية 1999، و «حروب داوود» 1991، ومذكراته بعنوان «طائر على سنديانة» عام 2002، وبيروت والزمن» 2009، وطبعة مزيدة ومنقحة من «الموارنة» بيروت 2011.

المروحة التاريخية

تشير هذه المروحة الواسعة من الكتب إلى تملك الصليبي لثقافة شمولية متنوعة جعلته قادراً على معالجة موضوعات سجالية بمنهجية علمية صارمة جعلتها عصية على النقض باعتماد المنهج العلمي السليم المسند إلى الوثائق التاريخية الأصلية والأدوات المعرفية، بخاصة اللغوية منها، للاستفادة الدقيقة من معلوماتها ومدلولاتها التاريخية. لذلك تعرض الصليبي إلى حقد هائل من المؤرخين المؤدلجين، الذين حاولوا نقض مقولاته النظرية بالاستناد إلى موروث غيبي، وعنعنات متوارثة كان للإسرائيليات دور أساسي في نشرها عبر الكتب التاريخية التقليدية والمعتمدة لدى الجانب العربي.

التزم الصليبي الصمتَ تجاه التهم التي كالها له مؤرخون لم يمتلكوا سلاح النقد العلمي لتفنيد مقولاته النظرية التي بقيت عصية على الطمس والنسيان، ومن المتوقع ان تبقى حية لدى الأجيال الجديدة من المؤرخين العرب الشباب الذين تلقوا ثقافة تاريخية علمية معمقة وهم يعيشون اليوم عصر الانتفاضات الشعبية التي بدأت بتغيير بعض الأنظمة السياسية العربية، ويليها تغيير جذري في الذهنية العربية، من حيث النظر إلى تاريخ العرب والمنطقة العربية نطرة علمية مستندة إلى علم الآثار والوثائق الأصلية وليس إلى الأساطير والمرويات التي تركتها أو عممتها الأيديولوجيا الصهيوينة لتبرير سيطرتها على فلسطين وبناء اسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل وفق اسطورتي «الشعب المختار» و«ارض الميعاد»، وهي تتضمن كمّاً هائلاً من المرويات الإسرائيلية التي استندت إلى اساطير التلمود والتوراة وغيرهما من الأساطير التي تفتقر بالكامل إلى الصدقية والأمانة والدقة.

من جانب آخر، كشف الصليبي زيف الأيديولجيا المكوِّنة للكيان اللبناني في أبحاث مهمة تحتاج إلى دراسة مستقلة سنعمل على إعدادها لاحقا، كما كشف زيف الأيديولوجيا الصهيونية المؤسِّسة لقيام دولة إسرائيل، فعرَّى الجانبَ الأيديولوجي فيها تاركاً للمناضلين العرب مهمة تعرية الأهداف البعيدة المدى التي قادت إلى ولادة دولة اسرلئيل على أرض ليست لها، ومن خلال مجموعات بشرية وفدت إليها من مختلف دول العالم من دون أن يكون لهم تاريخ يذكر على هذه الأرض التي ارتبطت بفلسطين وشعبها.

أخيراً، كان الصليبي شديدَ التفاؤل بأن إسرائيل إلى زوال أكيد طالما تمسك العرب بأن الأرض التي قامت باغتصابها هي ارض عربية لشعب عربي، وله كامل الحق في تحريرها بكل الوسائل المتاحة، والعودة إلى الديار التي طرد منها مهما طال الزمن، فكتب دراسات مطولة حول الموقف غير الأخلاقي للدول الغربية، ومنها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول التي ساندت قيام دولة إسرائيل لأسباب لا علاقة لها بتاريخ اليهود، وهي سياسة غير أخلاقية تسيء إلى تاريخ الشعوب، ومنها الشعب اليهودي نفسه، الذي سيدفع عاجلاً أم آجلاً ثمناً باهظاً للأخطاء الكبيرة التي ارتكبها رجال يطلق عليهم صفة العظام في إسرائيل لكنهم يبدون صغاراً جداً أمام محكمة التاريخ، على غرارهتلر وموسوليني وبن غوريون وموشي دايان وغيرهم، فالدولة الصنيعة عاجزة عن الصمود في مواجهة حقائق الجغرافيا والتاريخ، وعن مواجهة الشعوب العازمة على استعادة حقوقها المغتـصبة مهما طال زمن القهر والاغتصاب.

ختاماً، كان الصليبي على قناعة تامة بتراجع صورة اولئك الأبطال حتى في نظر مريديهم، لأنهم قادة مرحليون في فترة تاريخية محددة، ولن تكون أعمالهم في مستوى صناعة الحدث التاريخي الحقيقي الذي يخترق الزمن والحدود الجغرافية وينتسب إلى فعل إنساني عميق الأثر في نشر الحضارة الإنسانية والحفاظ على ثقافاتها المتنوعة والمتعددة، فالبطل التاريخي بالمفهوم العلمي، أو البطل التاريخي الحقيقي، هو العامل لخير الإنسانية جمعاء، وليس الساعي إلى تدمير تراث الغير وإحلال ثقافة على حساب أخرى، وشعب مكان آخر بعد طرده من دياره وتشويه معالم تاريخه في الزمان والمكان، كما فعل قادة الأساطير النازية والفاشية والصهيونية.

كمال الصليبي مؤرخ لبناني بامتياز، لكنه عميق الانتماء إلى الحضارة الإنسانية الشمولية التي تتجاوز البطل الوهمي أو المؤدلج إلى البطل الإنساني الراسخ عميقاً في وجدان شعبه أولاً وجميع الشعوب المناضلة من أجل حريتها واستقلالها.

* مؤرخ وأكاديمي لبناني

الجامعة الأميركية كما نعت كمال الصليبي

بيروت – «الحياة»

نعت الجامعة الأميركية في بيروت ودائرة التاريخ وعلم الآثار فيها أستاذ الشرف في الدائرة البروفسور كمال سليمان الصليبي، الباحث والمؤرّخ المرجعي الذي توفي صباح 1 أيلول 2011.

ولد كمال الصليبي في بيروت في 2 أيار 1929 ونشأ في بلدة بحمدون، وارتبط بالجامعة الأميركية في بيروت باكراً. فهو التحق في عام 1938 بمدرسة الإنترناشونال كولدج التي كانت جزءاً من الجامعة آنذاك. وبعد الدراسة الثانوية التحق بالأميركية في عام 1945 وتخرّج بعد أربع سنوات حائزاً بكالوريوس في التاريخ والعلوم السياسية.

وقد علّم في الإنترناشونال كولدج لمدة عام بعد تخرّجه ثم سافر إلى إنكلترا حيث نال الدكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط من جامعة لندن في عام، 1953 وكانت أطروحته بعنوان «المؤرخون الموارنة وتاريخ لبنان في القرون الوسطى» بإشراف الأستاذ برنارد لويس.

في العام التالي بدأ الصليبي التعليم في دائرة التاريخ في الجامعة. وبعد عامين رقّي إلى رتبة أستاذ مساعد. وأصبح أستاذاً (بروفسور) في عام 1965، وهي رتبة رافقته حتى عام 1999 حين عيّن أستاذ شرف في دائرة التاريخ وعلم الآثار، التي كان قد أصبح من أعمدتها مع صحبه الكبار مثل نقولا زيادة وزين زين.

وخلال خدمته الطويلة في الدائرة عُرف الصليبي بحضوره العلمي ومكانته الأدبية البارزة كمؤرخ وصاحب نظريات ناقضت مفاهيم شائعة وراسخة على مستوى المنطقة والعالم. ووضع كتباً بالعربية والإنكليزية، ومعظمها تُرجم أو عُرّب بقلمه أو بمراجعته ودارت حوله نقاشات طويلة.

ومن كتبه:

– تاريخ لبنان الحديث

– منطلق تاريخ لبنان

– بيت بمنازل كثيرة

– التوراة جاءت من جزيرة العرب

– البحث عن يسوع

ونال الصليبي تكريمات عدة، منها وسام المؤرّخ العربي من اتحاد المؤرخين العرب في أيار 1993، ضمن كوكبة من المؤرخين البارزين ضمّت قسطنطين زريق ونقولا زيادة وزاهية قدّورة وسامي مكارم وعادل إسماعيل وياسين سويد وحسّان حلاق. كما كان من ضمن كوكبة من الأساتذة الباحثين كرّمتها الجامعة في حزيران 2000، وعيّن في عام 2009 زميلاً فخرياً في جمعية الدراسات الشرق أوسطية.

بقي الصليبي في الجامعة طيلة سنوات الحرب. وكانت أبواب بيته مفتوحة دائماً لطلابه الذين أتحفهم بعزفه على البيانو. وفي حزيران 1977 عُرضت مسرحية فكاهية من تأليفه.

في عام 1994 وبطلب من الأمير حسن بن طلال أسّس الصليبي المعهد الملكي للدراسات الدينية في عمان وخدم كمدير له لعشر سنوات. وأصبح بعد ذلك مستشاراً لمؤسسة التراث الدرزي.

للمؤرخ الكبير كبواته «الأسطورية» أيضاً

جورج مسّوح *

اجتهد المؤرّخ كمال الصليبي في ميادين عدّة من ميادين التاريخ، واستطاع أن يدخل عمق المسائل التي تناولها في دراساته وأبحاثه من دون أن يصل في الكثير من الأحيان إلى توليفات تقنع المتخصصّين والعارفين بدقّتها العلميّة وصوابيّتها. فدراساته التوراتيّة وأبحاثه عن أصول يسوع المسيح ما زال يعوزها الكثير من البراهين والحجج العلميّة حتّى تستقيم وتجد لها مكاناً ما بين المراجع المعتدّ بها في الدراسات الأكاديميّة والعلميّة الموثوقة.

يعتمد كمال الصليبي في معظم مؤلّفاته الكتابيّة (الكتاب المقدّس لدى المسيحيّين بعهديه القديم والجديد) على بناء نظريّة أسّس لها في كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب». تقوم هذه النظريّة على المقارنة ما بين أسماء المناطق الفلسطينيّة والشاميّة الواردة في الكتاب المقدّس وردّ أصولها إلى منطقة عسير والحجاز في جزيرة العرب. وبناءً على ذلك، لم تنشأ التوراة، وفق أقواله، في فلسطين بل في الجزيرة العربيّة. تشابه الأسماء جعل الصليبي يبتدع أسطورة جديدة في حاجة إلى أدلة قويّة كي تصبح يقيناً قاطعاً. والمؤرّخ يكبو، بلا ريب، حين يصبح راوي أساطير، وحين يجعل التاريخ صراعاً بين أساطير.

لا أحد ينكر وجود الأساطير في الكتاب المقدّس. وهذه الأساطير لها وظيفتها الدينيّة والتعليميّة والتربويّة، ولها رموزها التي تحيل إلى حقائق غيبيّة، وهي ليست قطعاً وقائع تاريخيّة. فالكتاب المقدّس ليس كتاب تاريخ، بل هو يعرض للخبرة الحياتيّة التي عاشها المؤمنون مع الله الذي أخرجهم من أرض العبوديّة إلى أرض الحرّيّة. الكتاب المقدّس ليس كتاباً منزّلاً من السماء حتّى يؤخذ بحروفيّته بل هو تأليف بشريّ، دوِّن على امتداد ألف عام تقريباً بأساليب عدة تتراوح ما بين التاريخيّ الذاتيّ والتشريعيّ والحِكمي والشعريّ والنبويّ. الكتــاب المقدّس ليس كتاباً يتّبع المنهج الوضعيّ في العلوم والآداب، بل هو كتاب دعوة إلى الله والإيمان به.

غير أنّ وظيفة المؤرّخ تختلف عن وظيفة الكاتب الدينيّ، لأنّ غايتيهما تختلفان. ففيما يسعى المؤرخ إلى الوقائع والبيّنات والآثار، يلجأ الكاتب الدينيّ إلى التفسير والتأويل والبحث عن المعاني التي قصدها المؤلّفون. وكمال الصليبي تخلّى مرّات عدّة عن وظيفته الأساس ليغرق في التأويل والاستنتاجات غير المثبتة، والانحياز من دون حجج مقنعة لفرضيّة ضدّ فرضيّة أخرى لا تقلّ عنها معقوليّة. فعلى سبيل المثل، يحيل تشابه الأسماء ما بين جغرافيّة فلسطين والحجاز، لدى الصليبي، إلى القول بأنّ أصول التوراة بدأت في الحجاز ثمّ انتقلت إلى فلسطين، فيما الافتراض المعاكس لا يقلّ صدقيّة عن الأوّل، وبخاصّة أنّ لا آثار ولا معطيات أركيولوجيّة في الحجاز، إلى يومنا الحاضر، تثبت افتراضات الصليبي.

وفي هذا السياق، يؤكّد الصليبي، ومن دون أيّ دليل أركيولوجيّ، أنّ هيكل أورشليم كان بسراة عسير وليس في القدس. ويذهب في رأيه إلى حدّ مناقضة رأي المؤرّخ اليهوديّ يوسيفس (القرن الأوّل الميلاديّ) قائلاً: «لعلّ هيكل أورشليم الذي بني على شاكلته هيكل يهود مصر، وهيكل السامريّين بفلسطين، لم يكن هيكل أورشليم اليهوديّة بفلسطين، كما يفترض يوسيفس، بل هيكل أورشليم يهوذا بسراة عسير.

ولعلّ هيكل أورشليم اليهوديّة بني على شاكلة هذا الهيكل الأصليّ ذاته». كيف لمؤرّخ كالصليبي أن يناقض مؤرّخاً آخر – أقرب منه إلى الحدث – من دون إثباتات أو معلومات قاطعة؟

والجدير ذكره أنّ الصليبي ليس رائداً في هذا المجال، وقد تابع نهج مَن سبقوه من علماء الكتاب المقدّس في ألمانيا وأوروبا منذ القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الحين تتكاثر النظريّات بشأن الكتاب المقدّس وشخصيّة يسوع الناصريّ. ومعظم هذه النظريّات لا يسعنا أخذها على محمل الجدّ، إذ تكون مبنيّة على فرضيّات سرعان ما تتحوّل، من دون أيّ سعي إلى براهين علميّة، إلى مسلّمات ووقائع ثابتة وحجج يبني عليها صاحب النظريّة استنتاجاته وخلاصاته. هذه هي حال كمال الصليبي في كتابه «البحث عن يسوع». وهو نفسه يعترف في كتابه المذكور بهذا الأمر قائلاً: «هذه الافتراضات لا تدعمها أيّة معلومات ثابتة. لكنّها، على ذلك، تبقى افتراضات مشروعة».

يذهب الصليبي في كتابه «البحث عن يسوع» كما يذهب الكشافة الهواة في رحلة استطلاعيّة في الغابة. فهو، المؤرّخ الكبير، جعل يسوع المسيح الذي يشهد التراثان المسيحيّ والإسلاميّ عن فقره وتقشّفه أميراً من أمراء الحجاز جاء إلى فلسطين لاستعادة العرش الداووديّ «منفقاً على مسعاه ما كان قد ورثه عن أبيه من مال». لم يتكبّد الصليبي عناء البحث عن أيّ دليل تاريخيّ أو جغرافيّ يسند به حكمه القاطع بأنّ المسيح وأباه كانا ثريّين من أثرياء الحجاز. وبخفّة لا تطاق وغير مألوفة لدى المؤرّخين الجدّيّين يستند إلى أقوال العامّة ليقول إنّ مريم المجدليّة كانت عشيقة ليسوع: «ويسود الاعتقاد بين العامّة بأنّ مريم المجدليّة كانت صديقة مقرّبة ليسوع، بل إنّها كانت عشيقة له».

ولا يسعى الصليبي في تمييزه ما بين عيسى ابن مريم، من جهة، ويسوع الناصريّ، من جهة أخرى، إلى تقديم أيّ براهين تثبت الفرق بينهما. ثمّ في حديثه عن «إنجيل النصارى»، هذا الإنجيل الذي لا نمتلك أيّ نسخة منه، يجزم الصليبي، من دون دليل واحد على الأقلّ، بأنّه «كان يتحدّث ليس عن يسوع، بل عن عيسى ابن مريم». ولا يكتفي بذلك، بل يبحث في الأناجيل القانونيّة الأربعة لدى المسيحيّين عن الفقرات المستلّة من هذا الإنجيل المفقود. وهذا بحدّ ذاته الخروج عن سكّة الصراط العلميّ المستقيم.

كثر كمال الصليبي من استعمال عبارة «في يقيني» من دون أن يشركنا في كيفيّة وصوله إلى يقينه، فيقول على سبيل المثل: «في العام 586 ق. م. تقريباً، قضى الملك نبوخذ نصّر البابليّ على مملكة يهوذا (وفي يقيني أنّ مركزها كان في سراة عسير، إلى الجنوب من الحجاز)…» على القارئ أن يسلّم تسليماً مطلقاً بهذا اليقين، هو الذي علّمه الصليبي بأن يشكّك بكلّ شيء، وأن ينتقد كلّ شيء. ما هو مسموح للصليبي غير مسموح للقارئ.

ويكثر الصليبي نفسه من تكرار عبارات «على الأرجح»، و «ربّما»، و «لعلّ»، و «لا بدّ»، وما شابهها. غير أنّ «على الأرجح» سرعان ما تتحوّل، بعد صفحة أو صفحتين، أو بعد فصل أو فصلين، إلى يقين يستند إليه صاحبنا لكي يبرهن ما يريد برهانه. والأنكى أنّه لا يحيل في استشهاداته إلى سوى نفسه وفي الكتاب ذاته، فإمّا أنّه يعيدك إلى الوراء، أو يجعلك في حالة انتظار إلى أن تصل إلى الفصل المنشود… أخطاء منهجيّة لا يقع فيها سوى المبتدئين أو الوعّاظ الدينيّين.

قلنا في بداية المقالة إنّ كمال الصليبي قد اجتهد في الدراسات التوراتيّة والبحث عن حقيقة يسوع الناصريّ. غير أنّ لكلّ مجتهد كبواته، وبخاصّة حين تغيب عن بعض مؤلّفاته، التي عرضنا لها هنا، المنهجيّة الدقيقة والصارمة التي وحدها تمنع الزلل والخطأ.

* كاهن وأكاديمي لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى