صفحات الثقافة

قاسية علينا هذي الأبوة

 


محمد غرافي

إلى سعدي يوسف: لم أشعر بالإحباط منذ اندلاع الثورات العربية إلا في حالتين متشابهتين في مناح ٍ شتّى:

أولهما: اللحظات التي تلت خطاب نائب الرئيس حسني مبارك وهو يعلن أمام العالم أجمع أن الرئيس المصري قد تنحى. هرعت إلى الهاتف وقلت لأبي على الضفة الجنوبية من غرب المتوسط الأقسى: مْبارك مْشى آبّا! مْبارك مشى (مبارك رحل يا أبي! مبارك رحل). فجاءني الرد مثل صفعة قوية: ما امشاش! هو في شرم الشيخ. كيف حالك؟.

ثانيهما : صباح الخامس من ايار (مايو) وأنا أقرأ ما كتبه الشاعر العربي الكبير سعدي يوسف في ‘القدس العربي’ عن الثورات العربية مشككا في مصداقيتها وناعتا إياها بمؤامرة أمريكية جديدة. لأوّل مرة في حياتي كدت أصدق أن الشعر فعلا كذبٌ في كذب.

بين الشخصين أعلاه نقاط تشابه كثيرة بالنسبة لي على الأقل: ثمة أولا تاريخ مشترك: الانحدار الطبقي والسجن والتعذيب. وثمة ثانيا أني مدين للأول بكل شيء وللثاني بداء الشعر. وثمة ثالثا: أنهما من جيل واحد. وهذه النقطة الأخيرة هي موطن القصيد في هذا الكلام. أذكر أني حين هرب الرئيس زين العابدين بن علي كتبت إلى صديق أقول له إني في منتهى السعادة لا من أجل نفسي وجيلي والمستقبل فحسب بل من أجل أبي الذي أنهكه التعذيب والسجن المركزي في القنيطرة وجيله الذي ضحى بكل شيء من أجل الحرية دون أن يستطيع تحقيق ما كان يصبو إليه. كنت على يقين من أن نجاح الثورة التونسية والمصرية بعدها سيكون بردا وسلاما على جيل أبي وسعدي يوسف. لكن رد فعل الشاعر المعلن ورد فعل أبي الخفيّ ظهرا لي أولَ وهلة بمثابة ركلة قوية في المؤخرة لكل هذا الشباب الذي لم يجد بعد الوقت المناسب للافتخار بإنجازه الثوري. غير أني حين تأملت طويلا رد فعل أبي وحين قرأت مرات ما كتبه سعدي يوسف (إن كان ذلك شعرا، فإني أخشى أن يكون أسوأ قصيدة في تاريخ الشاعر) وجدت في ذلك ما يشبه الدعوة إلى ضبط النفس والتخفيف من الحماس تجاه ما يحدث في الشارع العربي من ثورات. وهذا تنبيه أبويّ حميد. لكن المسألة في العمق أعقد من ذلك، لأنها في رأيي تتعلق بإحساس الجيل الستيني عربيا بالتجاوز وبفقدانه التحكم في مشعل الثورة المنشودة. لا شك في أن الفشل الذي آلت إليه أحزاب اليسار في الإطاحة بالأنظمة العربية الفاسدة وانخراط الكثير منها في اللعبة السياسية دون أن تستطيع تطويعها لصالحها جعل الكثير من رموزها يشعرون الآن بأن الأبناء قد انتفضوا بشكل غير مباشر على الآباء وعلى نظريتهم التقليدية التي مفادها : الإيديولوجيا أولا والتنظيم الحزبي ثانيا والثورة أخيرا. أليس في نص سعدي يوسف استغرابا بأن الثورات العربية يقودها فتيان لا يملكون شراء ‘خبزَهم اليوميّ’؟ أجمل شيء في هذه الثورات أنها انفلتت من عقال التنظيمات الحزبية اليسارية المهترئة منذ زمان وأطلق شرارتها شاب تونسي لم يكن يملك فعلا ما يقتني به خبزه اليومي.

لقد اندلعت الثورة التونسية بشكل لم يفاجئ إلا ساسة وجمهور المثقفين الغربيين وزبانيتهم من مثقفين عرب لم يتجرؤوا يوما على إدانة أنظمتهم رغم ما يتمتعون به من شهرة كافية لتحميهم من جبروتها. وحدهم الذين كانوا يعيشون على الخبز والشاي لم يُفاجَؤوا بثورتهم لأن صراعهم مع النظام المستبد كان قائما آناء الليل وأطراف النهار. وإذا كان استخفاف سعدي يوسف بالربيع العربي تعبيرا عن رؤية أبوية ترى في ثورات شباب الفيسبوك قتلا للأب، فإن كل هذا المد الثوري من المغرب الأقصى إلى سورية لا يمكن أن ينكِر تاريخيا أن إنجازه الرائع هذا فيه امتداد سياسي وفكري مع ماض بدأه وشارك في صنع محطاته الجميلة جيل الشيوعي الأخير.

لكن هل كل ما جاء في نص سعدي يوسف خاطئ أصلا؟

قرأت كل الردود على ما كتبه. وجدت فيها تعبيرا صادقا عن غضب تجاه الألم الصادر عن ذوي القربى وغيرة على هذا التغيير العميق الذي بدأ يطيح بأنظمتنا الديكتاتورية، لكني وجدت في بعضها أيضا ارتكانا إلى الحقيقة المطلقة أو إلى ما يشبه اليقين بأن المنجَز في هذا الثورات لا يمكن أن يأتيه الشك من يمينه ولا من شَماله (أعني حلف الشمال الأطلسي و زبانيته). فإذا كانت الثورتان التونسية والمصرية قد نتجتا عن حراك جماهيري واسع وفاجأتا العالم أجمع بطرقهما السلمية الناضجة وبأشكال عالية في التضامن والتصدي لجميع دسائس السلطة القمعية وأجهزة مخابراتها الضخمة، واستحقتّا عن جدارة لقب الثورة، فإن الثورة الليبية التي انطلقت شرارتها من بنغازي على الطراز التونسي والمصري، التفت حولها سريعا الأطماع الأوروبية والأمريكية وأجهزت على مكتسباتها الرمزية في انتظار الإجهاز على موارد ليبيا البترولية. ففي اليوم الذي وضع فيه المثقف الصهيوني الفرنسي برنار هنري ليفي قدميه في بنغازي وأتى بممثلي الحكومة المؤقتة إلى الرئيس نيكولا ساركوزي، أسيء في الشكل والمضمون إلى الثورة الليبية. لا أستطيع أن أتكهن بشيء في ما ستؤول إليه ليبيا، لكن لن يكون لثورتها التي نتمنى أن تطيح سريعا بالديكتاتور نفس اللمعان ولا نفس الثقل الرمزي اللذين طبعا الثورتين التونسية والمصرية. لقد علمنا التاريخ وما يزال أن تعامل الحكومات الغربية مع أوضاعنا العربية قائم على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية أولا وأخيرا. ثم إن العديد من أعضاء المجلس الانتقالي للثورة كانوا يشغلون أهم الوزارات الحساسة والظالمة في نظام معمر القذافي. هذا وحده كاف للنيل من حماسنا تجاه التغيرات في ليبيا. لذلك أجد لسعدي يوسف في ما كتبه بعض العذر. لكني لا أقاسمه هذا الشعور بأن كل ما يحدث في الشارع العربي هو من تخطيط أمريكي. أن تحاول أمريكا وبعض الدول الأوروبية الإجهاز على ثوراتنا وتحويل مسارها إلى ما تقتضيه مصالحها هذا أمر لا شك فيه، أما أن تكون هذه الثورات من صنع أجنبي فهذا أمر لا يستقيم مع المنطق الذي يحكم المخططات الأمريكية في المنطقة العربية. لذلك يجدر أن نحيي النداء الذي وجهه صبحي حديدي وفاروق مردم بك وبرهان غليون إلى الصهيوني السابق الذكر يدعونه فيه إلى الابتعاد عن الشأن السوري بعد توقيعه على بيان بجريدة لوموند ينادي إلى مساندة الشعب السوري. نضم صوتنا إلى هذا النداء خوفا على الثورة السورية من مخططات صهيونية وأمريكية طالما سكنت مضاجعنا حتى صار أكبر شاعرعربي يرى في ثوراتنا الخيّرة شرّاً.

قاسياً كان رد فعل أبي وهو يتجاهل فرحتي الغامرة وسعادتي التي جاءتني توّا من ميدان التحرير عبر قناة الجزيرة.

قاسياً كان نصّ حفيد امرئ القيس وهو ينعتنا بالدجاج ويحط من مستوى هؤلاء ‘القادة الفتيان’.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى