صفحات الناس

قاهرة الآمال تلهو بحلم السوري

نائل الطوخي

 يضحك معي السوري الذي ألتقيه في القاهرة قائلاً: “والله كتروا المصريين بالبلد!”.

هذه العبارة ليست مجرد نكتة. في الأحياء التي تتميز بكثافة سورية ملحوظة، مثل حي 6 أكتوبر، تتردّد العبارة بقوة، وفي المطاعم والمقاهي السورية التي تم افتتاحها أخيراً على يد اللاجئين من سوريا في القاهرة. كان لا بدّ للجالية السورية، التي وصل تعدادها إلى 145 ألفاً في نهاية العام الماضي، بحسب تصريح الخارجية المصرية، أن “تدبّر حالها”. أما عن “كيف دبّرت حالها”، فهذا هو السؤال.

في مقر المجلس الوطني السوري، الذي يقع في حي المهندسين بالقاهرة، ألتقي برامي عرموني. مهندس سوري شاب أتى من الإمارات بعد أن صدر قرار بطرده من هناك لنشاطه العام. يحدثنا عن خيارات السوريين. “الحياة في تركيا مكلفة، وحكومتا لبنان والأردن تقومان بالتنسيق مع الحكومة في سوريا، لكن مصر فيها ثورة (يضحك) ولا تتطلب تأشيرة دخول من السوريين”. لذا كان الخيار الأول هو مصر. النشاط السياسي فيها غير ممنوع والحياة فيها رخيصة.

ورقة الإقامة والرواتب

لكن هذا لا يعني أنه ليست هناك مشاكل بالنسبة للسوريين. أول مشكلة هي مشكلة الإقامة، صحيح أن السوري لا يحتاج لتأشيرة دخول إلى مصر ولكنه يحتاج لوثيقة إقامة فيها، ووثيقة الإقامة لا يمكنك الحصول عليها إلا بالعمل أو الدراسة، وفي نفس الوقت لا يمكنك العمل أو الدراسة سوى بوثيقة إقامة. هي دائرة مفرّغة كما يسميها. لفته الأمر عندما كان بصحبة صحافية سورية حاولت إعداد تقرير عن اللاجئين السوريين وطلبت معلومات من إدارة الهجرة والجوازات فجاء ضابط إلى المكتب وهدّدها بالترحيل من مصر لأنّها لا تملك إقامة. “أنت لست محمياً في مصر”.

وهناك المشاكل المادية، السوري يحتاج للعمل من أجل العيش. لذا قرر كثيرون من السوريين اللجوء للبيزنس. بالتحديد المطاعم ومحلات الملابس. “المرتبات المصرية قد تناسب المصري، ولكنها لا تناسب السوري. فضلاً عن مشكلة أخرى وهي استحالة العمل بالشهادة”.

 شبكات الدعم والتمييز

ثمة جمعيات سورية تقوم بالتنسيق مع جمعيات مصرية بهدف إيواء السوريين. هكذا يتم احتواؤهم في مناطق مثل 6 أكتوبر والعبور والعاشر من رمضان، وهي كلها ضواحي تبعد عن القاهرة عشرات الكيلومترات. بالإضافة إلى هذه الجمعيات، تقوم نقابة الأطباء بجمع التبرّعات للسوريين. ولكن الدعم الأبرز يأتي من الأمم المتحدة أو المنظمات الأوروبية. إضافة إلى جمعيات إسلامية، مثل الهيئة الشرعية في مدينة 6 أكتوبر. يستدرك رامي: “الهيئة الشرعية تغلّفها علامات استفهام، المعاملة هناك بحسب الدين. إذا كانت زوجتك غير محجبة فسيرفضون الدعم”.

جاءت ياسمين وهي طالبة جامعية من دمشق إلى القاهرة مباشرة. كانت زيارتها الأولى إلى القاهرة ولم يكن لديها معارف في مصر. أقامت في أول فندق صادفته، وكانت الفاتورة باهظة الثمن. بعدها حاولت استئجار شقة وما أن يلاحظ صاحب العمارة أنها سورية، حتى يرفع قيمة الإيجار: “الشقة التي يبلغ أيجارها ألف جنيه كانوا يعرضونها عليّ بثلاثة آلاف ونصف”. تحكي عن رسام ومصمم سوري اضطر للعمل عاملاً في مصنع، عمل شهراً، بمعدل 14 ساعة في اليوم، ولم يتقاض سوى ألف ومئتي جنيهاً، أي ما يقل عن مئتي دولار.

  السورية” وخراب البيوت

ولكن، ولله الحمد، ليست هناك عنصرية في الشارع موجهة ضدهم كسوريين. هناك بعض المشاحنات التي تتذكرها ياسمين مبتسمة. النساء المصريات يشعرن بالغيرة من السوريات، بسبب الفكرة الشائعة عن جمالهن، واحتياجهن للمال. بالإضافة إلى الفتاوى التي تصدر بوجوب الزواج من السوريات واعتبار هذا نوعاً من الجهاد، وهي الفتاوى التي تلقى – بالطبع- قبولاً من المواطن العادي. تعرف ياسمين سوريتين تزوجتا زواجاً مصرياً مناسباً، كما تعرف سورية أخرى تزوجت مصرياً يكبرها كثيراً في العمر تزوجها من باب “الستر عليها”. كل هذا يؤدي إلى غيرة المصريات، “تبتسم”. خاضت مشاحنة في المترو عندما لاحظت إحدى الراكبات لكنتها السورية، فقالت لها: “إنتو جايين تخربوا بيتنا”. الجمال والظروف الصعبة ليس هما الشيء الوحيد الذي يزيد من الظاهرة. يبتسم رامي ويقول: “المصري يتزوج السورية أيضاً بسبب براعتها في الطبخ”.

 مطبخ سوريا بمكونات مصرية

يقودنا هذا إلى المطبخ السوري. ليس صدفة أن سوريين كثرا وجدوا أن المطاعم هي العمل الأنسب بالنسبة إليهم. فبعد المطعم الأشهر “أبو مازن” للشاورما السورية، والذي افتتح منذ نهايات القرن الماضي، وبعد تزايد معدلات النزوح السوري إلى القاهرة، بدأت مطاعم كثيرة، متخصصة في الشاورما أو الحلويات الشامية، تفتتح هي الأخرى، ومنها ما كان يسمّى أيضاً “أبو مازن”، مما دفع أبو مازن الأصلي إلى تغيير اسمه لـ “أبو مازن السوري الأصلي”. والمطعم السوري تتراوح أسعاره على حسب المنطقة. فهناك “دار القمر”، القديم الذي يمكنك أن تأكل فيه التبولة بأسعار عالية جداً، وهناك المطعم الحديث الذي يوفر وجبات بأسعارها السورية. مشكلة أخرى تتضح: مواد المطبخ السوري غير موجودة بوفرة في مصر. لذا يستعيض صاحب المطعم عن الجبن الشامي بتشكيلة من الجبن، مما ينتج مذاقاً مختلفاً، يضيف رامي: “في النهاية سوف يتأثر المطبخ السوري بالمصري، والعكس أيضاً”.

 انتهاء زمن المطاعم

ألتقي بباسل ومنير عبارة، اللذين يعملان في مطعم ومقهى “عروس الشام” في ميدان الفلكي وسط البلد. افتتح باسل مطعماً في حي مدينة نصر حيث يسكن، ولكن قلة الرواج، بسبب الأحداث الدامية تحت حكم المجلس العسكري، دفعته إلى إغلاق المطعم والعمل في مطعم “عروس الشام”.

المقهى هو استثمار ممتاز بالنسبة للسوريين في مصر كما يقول: “المصريون يحبون النقاش في السياسة، والمقهى يوفر لهم هذا. والتعداد الكبير للمصريين يجعل السوق يحتاج إلى المزيد دائماً”. لهذا فالسوري يحاول دائماً العمل في تخصصه، وإذا تعذر هذا، فهو يلجأ لفتح مطعم أو مقهى. إلا أن مطاعم كثيرة تم إغلاقها. المشكلة في أن السوري عندما يفتتح مطعماً، يكون أول اعتباراته أن مصر رخيصة جداً، فيتناسى أن الأسعار قد ارتفعت من ناحية إيجارات المكان وأجور العمال. إضافة إلى أن صاحب المطعم يعتقد أن مطعمه سيعمل بشكل قوي بسبب تعداد السكان لكنه سرعان ما يكتشف أن الأمرين ليسا مترابطين. لأن ظروف المواطن المصري الآن سيئة من الناحية الاقتصادية. الآمال الوردية السورية بخصوص السوق المصري تكون مبالغاً فيها في بعض الأحيان.

 هجرة تعيد زمن “الوحدة الشعبية”

الشاعرة رشا عمران اضطرت للخروج من سوريا لأسباب “أمنية”، كما تصفها. ذهبت الى فرنسا أولاً، وحصلت على الإقامة هناك ولكنها فضلت بعدها الاستقرار في مصر: “حدث هذا لأسباب عديدة، منها أنني سأكون في القاهرة أكثر قرباً إلى سوريا وأكثر تواصلاً مع السوريين، خاصة أن المدينة تشكل نقطة التقاء لمختلف السوريين، كون السوري لا يحتاج إلى فيزا للدخول إلى مصر، ومن هنا أيضاً سأكون شاهدة على التحولات السياسية والاجتماعية في مصر مما سيساعدني ربما على فهم آلية ما قد يحدث لاحقاً في سوريا”.

وتفرّق رشا بين هجرة الشوام قبل قرن من الآن وهجرتهم الأخيرة بالقول: “الهجرة الماضية كانت مختارة، بمعنى أن مصر كانت ذات سلطة مركزية ثقافية عربية تستقطب أي مثقف للقدوم إليها دون اضطرار، أما الآن فقد جاء السوريون إلى مصر هرباً من الموت أو الاعتقال أو الجوع أو التشرد، أقصد أنها ليست هجرة مختارة ومسبقة التصور. جاؤوا إلى مصر لأنها البلد الوحيد الذي يحتضنهم الآن بكل محبة ومن دون أي تذمر رغم كل مشكلات المجتمع المصري الحالية. و أهم ما سينتج عن وجود السوريين في مصر هو إعادة لفكرة الوحدة بين البلدين بطريقة أخرى، بعيدة عن السياسة والإيديولوجيا، هي اكتساب عادات واكتساب ثقافة حياة بين الطرفين. يدرك السوريون جيداً الآن وسيردّدون هذا لزمن طويل: مصر كانت وطناً ثانياً لهم ولم تكن معبر لجوء مؤقت”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى