صفحات مميزةغازي دحمان

قبائل سنيّة!/ غازي دحمان

 

صدرت الرؤية الأميركية للحرب على «داعش«: التحالف مع القبائل السنية، التي يبلغ تعداد أفرادها عشرين مليون، والقابعة على خريطة تمتد من بغداد إلى دمشق؟ هكذا قال واضعو خطط الحرب الأميركية بعد ان سلمتهم شعوب المشرق، أو قل نخبها الحاكمة، خريطة مسرح العمليات، مطالبين بإعادة توضيبه وتجهيزه للقتال تحت قيادة الرجل الابيض.

الظاهر أن هذه إعادة تعريف للواقع وتوصيفه بشكل دقيق أكثر مما هي استراتيجية لمواجهة تنظيم «داعش«. إذ لا شيء يصدر عن أميركا ارتجالاً ولا تسرعاً. مثل هذه التقويمات تمر على مراشح كثيرة، ويجري التدقيق فيها قبل إطلاقها. والأهم من كل ذلك غالبا ما يجري تجهيز سياق كامل لموضعتها في نسق السياسات الدولية وفي البيئة التي تنتمي لها تلك التعيينات.

بعد رحلة قرن على درب الحداثة، أو هكذا كنا نعتقد ويهيأ لنا، ترجعنا غرائزنا القطيعية، وخبث الإرادة الدولية، إلى مربع ما قبل الدولة. قبائل هائمة في صحارى واسعة، تتقاتل على مصادر العيش من دون وجود إدارة أو تنظيم. الإدارة التنظيمية الوحيدة المرشحة للظهور هي إدارة القتال بين تجمعات القبائل المتناثرة على ضفاف المنطقة، ليس بهدف تحضيرها وتوضيبها لدخول عصر العولمة، وانما إخضاعها لمتطلبات الأمن، وضمان عدم تأثير صراعاتها على مصالح القوى الكبرى ومراكز نفوذها، من نفط وأسواق تجارية ناشئة وأخرى مستقرة.

بمنطق القبائل، تستدعي القبائلُ الخارجَ لكي ينصرها، وبعقلية القبيلة تعتقد تلك التجمعات أن الخارج مكلف خدمتها وحمايتها. حسناً، الخارج ليس ساذجا للدرجة التي نعتقده بها، وها هو يطرح علينا طريقته بالمساعدة، أولاً إعادة الهيكلة، أو بالأحرى اعادة صياغة اجتماعنا ووجودنا، عبر فصلنا من مداره الحضاري الممثل بالدولة والعالم المعاصر، ثم تظهير سياق جديد لإبراز فعاليتنا وتوظيفها إيجابياً. وأيضاً ليس بهدف إنقاذنا، وإنما لضمان عزل تأثيراتنا السلبية وإبقائها ضمن أطر معينة.

ثانياً، بلورة قوى تلك القبائل وصياغة النسق الاستراتيجي لمواجهاتها، ميدانياً، كمرحلة أولى يمتد من بغداد إلى دمشق، والأمر قابل للتطور في مرحلة لاحقة، حسب قدرة الخارج على ضبط الميادين التالية، وقدرة السيطرة عليها، والقدرة على استلحاق قبائل جديدة إلى ميدان الصراع.

ليس المقصود من ذلك إدانة الغرب على توصيفه لنا، والعودة إلى هجاء التحليل الانتربولوجي، الذي طالما رأنا ذلك الغرب من منظاره، وها هو يعود إليه مرة جديدة. ولكن المقصود هو تسليط الضوء على الانحدار الهائل الذي وصلت إليه أحوال أهل المشرق، ومصيبة اجتماعه القلق، والأهم، تسليط الضوء على المأزق الذي وقع به ولم يستطع الخروج منه، إلا بإعادة استدعاء الخارج وإعطاءه صلاحية وضع التوصيف المناسب لأحوالنا. والمسألة لا تقف عند حدود التوصيف، بل تتعداها للتشكل الذي سيتم توضيبنا وفقه، ذلك انه في مرحلة التفاوض التالية على وقف القتال، وبعد أن تقع كالثيران المنهكة، لن يقبلنا العالم الا بصفتنا قبائل.

في فترة سابقة كان طموح الكثيرين في المنطقة نشوء الدولة الطائفية، التي مثلت خلاصا وراحة. صحيح أن البعض سماها كانتونات طائفية، والبعض توقع استحالة نشوئها لما بين الطوائف من تداخلات، مكانية على الأقل، لكن منطقتنا اليوم تذهب حتى إلى ما دون ذلك، بحيث تصبح دول الطوائف فكرة متقدمة وتقدمية بعض الشيء، ذلك ان القبيلة هي تذرير للمتذرر الطائفي، اختراق بعيد. فالجسم الطائفي والعرقي ينطوي على آلاف نويات القبائل، وقد عملت سنوات الصراع على بلورتها بشكل أوضح وأكثر صراحة. فالمكون السني بات ينطوي على انحيازات قبلية واضحة، ظاهرة للعيان من بغداد إلى دمشق. والمكون العلوي بات يتذرر إلى عشرات التشظيات، التي باتت تعبر عنها بشكل جلي ميليشيات الحماية العائلية المنتشرة في الساحل السوري. وكذا المكون الشيعي، الذي سبق الجميع وأسس للحالة القبلية على وقع تعبيرات جيوش الصدر والحكيم والمالكي وسواها. وحتى الكرد باتوا ينخرطون ضمن هذا الطيف المتشظي ضمن صراعات الثنائي الطالباني والبرازاني والتفرعات الأخرى. ورغم صغر حجم المكون المسيحي، مقارنة بغيره، إلا أنه لم يعد خارج هذا المربع من التشظي، فتحالفاته في المنطقة تكاد تكشف هذه الحقيقة.

في الواقع، علينا الاعتراف بحقيقة ساطعة أسست لهذا السياق من الانحياز للقبيلة، وهي حالة الخطر الوجودي التي عاشتها مكونات المنطقة في السنوات القليلة الماضية، ما دفعها إلى محاولة ضمان أكبر درجة من الحماية لأفرادها. وهذا الأمر لم يكن ليحصل إلا ضمن الأطر الضيقة، التي تجمع بين أفرادها روابط الدم بدرجة كبيرة، بعد ان تبين أن كل الروابط الأخرى واهنة وغير مضمونة. ويتزاوج ذلك كله مع حالة عدم وجود المؤسسات الحديثة، التي يمكن الانتماء لها، ويمكنها تحقيق درجة عالية من الانصهار، كالحزب والنقابة والمؤسسات البيروقراطية، وسواها من الأطر الحداثية. ويترافق كل ذلك، مع درجة استعداد عالية لدى مجتمعاتنا، التي ظلت تعاني لوعة الشوق للقبيلة، ومنظوماتها المعيشية والقيمية.

هكذا تنتهي تجربة قرن كامل من القهر والتسلط والعبث وسوء الإدارة والنهب. التعيين الغربي لحالتنا، ومع انه ينهل من المنهج الانتربولوجي ويستعيد مضامينه، غير أنه لا يعني خلق حالة من العدم وتكييفها مع أطره النظرية، بقد ما يعني توافق أوضاعنا ومآلاتنا مع تلك القوالب، وانطباقها على توصيفاتها. قبائل سنية في مواجهة قبائل شيعية وعلوية ومسيحية وكردية، وكل القبائل التي ينطوي عليها هذا المشرق، وفي مواجهة بعضها البعض داخل كل مكون، هذه وصفة لفرط الصيغة الخطأ، التي ظللنا قرناً كاملاً نتفلت منها، وهي المعادل الموضوعي لحروب الغلبة، بعد أن طبع القهر والاستبداد بصمته الواضحة على وجداننا.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى