صفحات العالم

قبضة بشار الأسد ترتخي


سوسن الأبطح

القبضة الحديدية للنظام السوري ترتخي عنوة، هذا مما لا جدال فيه. المعارك الضارية الدائرة حاليا في ريف دمشق وحمص وإدلب أيضا تأتي بعد أن أصبحت لـ«الجيش الحر» ومن معه من ثوار مسلحين مواقع ومساحات لا يستهان بها عصية على الجيش، آمنة للمنشقين، لهم فيها مكاتب ومراكز متفرقة حيث يقيمون محاكمهم، ويسجنون الجنود الذين يأسرونهم، ويحاكمون بعضهم ويقتلونهم. «إنها الحرب» يقولون «والقتل فيها ضرورة بغيضة».

حاول النظام أن يضع حدا للمنشقين ومن معهم طوال الشهور الفائتة ولم يفلح. أراد تفادي إيقاع عدد كبير من القتلى، يثير غضبا دوليا عارما على الطريقة القذافية، ويجعل التدخل الدولي حتميا وواجبا على الدول الكبرى. سياسة تقنين القتلى مع البطش الممنهج لم تزد الثوار إلا قوة وعنادا. لعل الوقت كان لصالحهم، لأن الجيش تهالك، صار بعض أفراده جواسيس في داخله، يزودون الثوار بالمعلومات، عن تحرك الوحدات، وأماكن تمركزها ومرورها مما يسهل مهاجمتها. حتى وحدات الدعم حين تتحرك يمكن للمعارضة أن تعرف أحيانا بها قبل أن تصل إلى الموقع المتوجهة إليها، لتنقض عليها في الوقت المناسب. ما بين الانشقاق الضمني، غير المعلن لبعض عناصر الجيش، والفساد المستشري في داخله بقبول الرشاوى لتسريب معلومات أو تقديم خدمات للثوار، صار جسد الجيش نخرا.

هذا لا يعني أن الجيش النظامي ما عاد قادرا على القتال، لكنه مخترق بشكل يسهل على الثوار رغم تواضع أسلحتهم أمام الدبابات مهاجمته والنيل منه بضربات موجعة. الكر والفر، وأسلوب الكمائن، والمباغتات على طريقة العصابات أفلحت في زعزعة عسكر السلطة. قرار النظام بأن يستعيد زمام المبادرة بدءا من نهاية الشهر الماضي، بهجوم شرس على المنشقين والثوار، من دون كبير اعتبار، هذه المرة، لما يمكن أن يوقع هذا القرار من ضحايا، أو يثير من غضب لدى الرأي العام، جاء متزامنا مع البلبلة في مجلس الأمن، والانشقاق الدولي (الفيتو الصيني والروسي) لا بل والعربي، أمام الحرب السورية – السورية الآخذة في التفاقم. النظام السوري في سباق مع الزمن. المهلة المعطاة له بفضل الموقفين الروسي والصيني لا يمكن أن تكون بلا نهاية. روسيا تريد للأسد أن يرتب البيت الداخلي، بحضوره وإشرافه، من خلال نقل سلطات وإجراء انتخابات وتسليم صلاحيات، بما يحفظ مصالحها في آخر دولة حليفة لها في المنطقة.

عدم تجاوب المعارضة من مسلحة وغير مسلحة مع الرغبات الروسية لا يسهل المهمة، كما أن الصعوبات الجمة التي تواجه الأسد في كبح المعارضة واستعادة المناطق الخارجة من يده سواء في حمص أو جبل الزاوية، ستمدد أمد الاقتتال وتزيد من تعنت الأسد والمعارضين على السواء، وترفع عدد الضحايا بشكل متزايد، في الأيام المقبلة.

عمليا لا يبدو أن النظام قادر – بعد كل هذا التأخير – على تنفيذ أي إصلاحيات (حتى ولو افترضنا أنه راغب في ذلك) في ظل حالة اقتتال داخلي باتت شبيهة إلى حد بعيد بأجواء الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة، كما أنه سيعجز على الأرجح عن تحقيق غايته في محاصرة الثوار وشل حركتهم، وبكلام آخر، الانتصار عليهم. كل السوريين يتحدثون عن فلتان أمني واقتصادي، وفوضى مرعبة أفلتت من يد الجميع.

الثوار، وخاصة المنشقين، بات بعضهم يقول صراحة إن انهيارا فجائيا لحكم بشار الأسد على الطريقة الليبية يعني فلتانا أمنيا من صنف جهنمي يصعب تخيله. لا يخفي حتى المنشقون أن المخاوف أكبر من أن تحصى.

السوريون على وعي اليوم بأن بلادهم عرضة لتقسيم وتشظٍ. المطالبة الكردية باستقلال ذاتي لا تترك مجالا لتفاؤل كبير. وحين سألت أحد الثوار الميدانيين إن كان يعي مخاطر التقسيم، أجاب بمرارة «أن تطالب كل طائفة بدويلة هو أمر وارد جدا إن استمرت المذابح متواصلة لشهور مقبلة خاصة أن الثأر الطائفي أصبح يحرك الغرائز ويثير الضغائن ويتسبب في جرائم كثيرة». في الوقت نفسه يقول الرجل «لكن ما حصل الآن قد حصل. العودة إلى الوراء مستحيلة. نحن الآن في منتصف الطريق، وليس أمامنا سوى استكمال ما بدأناه، وإن كنا نعرف أن النتائج قد لا تكون سعيدة أبدا».

استمرار الوضع على ما هو عليه لفترة طويلة قد يمتد لسنوات كما توقعت «فورين بوليسي» هو أمر عصي على الاحتمال، إذا ما أدركنا أن الحاجات الأولية للسكان، بما في ذلك الحصول على الخبز، باتت صعبة المنال. فالحياة اليومية في شلل، ولا يملك القدرة على الشراء إلا من ادخر قرشا أبيض لهذه الأيام السوداء.

حال سوريا وما يمكن أن تسببه من انهيارات خطيرة في بنية الدول المحيطة بها، إذا ما تصدعت وهوت، يجعل المسؤولية هائلة على العرب أولا قبل غيرهم. بشار الأسد، وإن ادعى غير ذلك، ما عاد وحده من يملك كل الأوراق، ليحرك خيوط اللعبة. تعددت الملاعب، فيما يتزايد عدد اللاعبين الداخليين، مع احتدام الاقتتال في الشوارع. الحرب الأهلية في سوريا بدأت بالفعل، وعلينا أن نصدق أن الجيش السوري ما عاد بمقدوره أن يمسك الأرض حتى وإن ذبح نصف الأهالي، وعلى من يحب سوريا أن يرى شامنا النازفة من هذه الزاوية القاتمة الحزينة، لنتدارك جميعنا الأمر قبل فوات الأوان.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى