صفحات الثقافة

قبل الثورة… بعد الثورة


أحمد يماني

تابعت، كغيري من المصريين، الدعوة إلى الثورة في الخامس والعشرين من يناير، يوم الشرطة، وتابعت كذلك ردود الأفعال الساخرة في معظمها، فمنذ متى يتم تحديد يوم وساعة لثورة؟!

بالإضافة إلى عنصر المفاجأة الذي وضع النخب الثقافية التقليدية أمام واقع جديد تماما، فإن الثورة فرزت نمطاً جديداً من المثقف لا يمكن إدراجه بسهولة في السياق الاعتيادي الذي امتد على مسافة زمنية طويلة، ربما تكون قد بدأت مع صعود الدولة القومية في خمسينات القرن الماضي ومن دون الدخول في تصنيفات المثقفين ومراتبهم. لنقل، بعبارة أخرى، إن هذا المثقف هو من أفرز الثورة. مثقف شاب يقف على أرضية جديدة، تشكل وعيه في جزء منه خارج الحسابات التقليدية وتلقّى معارفه من مصادر لم تتح لسابقيه بهذا القدر، مثقف الواقع الافتراضي الذي أحاله على واقع ملموس.

لكن يرى البعض أن المثقف التقليدي كذلك قد ساهم قبليا في الثورة التي هي تراكمات على مستويات عدة، الثوري في فنه كما يلخص ذلك هيرمان هيسه: “لا تجذبني السياسة على الإطلاق، في المقابل كنت ثوريا منذ زمن بعيد. ليس لديّ أي هدف آخر سوى العمل على ذاتي وعلى مسائل فكرية بحتة”. المثقف التقليدي أمام المثقف الجديد، لكنه الثوري من قبل، حتى وإن لم يتمكن من ترجمتها إلى واقع عملي ولكن إلى واقع فني، وهذا ليس بالقليل على كل حال. فالاشتغال على الذات وعلى الفن لا يمكن أن يجعل المثقف التقليدي بعيدا من هذا الحراك، هذا إذا وافقنا بالكامل على هذه الفرضية التي تفصل بين القديم والجديد فصلا حادا والتي لا أراها على هذه الشاكلة.

لم يشكل الربيع العربي، في تصوري، نهاية النمط التقليدي للمثقف، مع خطر الوقوع في التعميم المخل عند تناول مصطلح المثقف، لكن لنقل إنني أعني منتج الثقافة من إبداع وفكر وخلافه، وكذلك العامل عليها. ولا أتصور أن المثقف العربي سيقع من جديد في فخاخ الثنائيات الضدية التي تفصل بين المثقف الخاص والمثقف العام وقد أبان ادوارد سعيد خطل هذه الفكرة وتهافتها، وهي شأنها كشأن اصطلاحات أخرى تنطلق من الثنائيات نفسها، ونعرف جميعا أن حركات الاحتجاجات والاعتصامات وقول “لا” عالية قد بدأت قبل الثورة بسنوات طويلة وخصوصا في العقد الأول من القرن الحالي. كذلك فإن نجاح ثورة تونس أدى إلى تشجيع الشباب في مصر ومدّهم بنموذج عملي بل وبالشعار أيضا: “الشعب يريد إسقاط النظام”.

أعاد المثقف حساباته سريعا في ما يخص أفكاره عن النخبة وثقافة الجموع والاشتغال على ذاته بعيدا من السياسة ليحسم توجهه مع الثورة، ولكن أحسب أن مراجعات شاملة أخرى سيقوم بها، من دون أن يقع في تخبطات فكرية، فالثورة كفكرة ليست بعيدة منه وإن كان تحققها بعيد المنال بالنسبة إليه في أزمنة أخرى قريبة.

سواء ابتعد المثقف باختياره أم أجبر على الانعزال، فإنه وجد نفسه فجأة في قلب حدث قلما يتكرر في تاريخ الشعوب وأحسب أن معظم المثقفين، وأحصر كلامي هنا على مصر، لم يتردد لحظة في تأييد الثورة حال وقوعها بعدما ظن لزمن طويل أن الأوضاع لن تشهد تغيرات جذرية في حياته الدنيا ومن ثم اندفع في تأييدها بكل وسيلة ممكنة وشارك الكثيرون فيها بشكل فيزيقي وقدموا لها كل دعم ممكن. غير أن الثورة أفرزت كذلك أو لنقل أظهرت نوعا آخر من المثقف يعتمد على قدراته الكلامية والسجالية ومهارته في إدارة الحديث معتمدا على “شعبية” أتاحتها له بعض كتاباته التي لاقت قبولا موسعا. ربما يكون هذا النوع من المثقف ضروريا كذلك الآن في المرحلة الراهنة وبجانبه ظهر نوع آخر يعتمد أيضا على قدراته الكلامية والسجالية ولكن المؤسسة على نوع من الأكاديمية وعلى التحليل الأكثر وعيا بمتطلبات الراهن. على أن هناك أنماطا أخرى، في تقديري أكثر عمقا، لم يتح لها أن تحظى بمساهمات إعلامية تصل إلى الكثيرين بشكل أسرع، وكأن الثورة لم تصل بعد إلى الإعلام فلا يزال يعمل بعقلية من يبيع أكثر حتى في أكثر أشكاله راديكالية أو هكذا يبدو على الأقل. فالثورة، إعلاميا، لم تصل بعد إلى إظهار مثقفين آخرين ذوي كفاءات معروفة والتحاور معهم، بل هناك اكتفاء في معظم الفضائيات بشخصيات تتكرر هنا وهناك. وللفضائيات أهميتها القصوى في بلد يعاني ثلث سكانه من أمية لا تمكّنه من القراءة والمتابعة إلا من خلال ما يبث إليه عبر الشاشات.

الثورة، إذاً، لا يمكنها الاستغناء عن هذا المثقف التقليدي، وهو ليس كيانا مغلقا بل متعدد الاتجاهات والأفكار والمشارب، والثورة بحاجة إليه كما هو بحاجة إليها.

كان الإبداع في الثورة المصرية فنا خارج الفن المعتاد، كما كان المثقف مثقفا خارج الثقافة التقليدية، لكن الثورة ليست لأحد بعينه، فقد شارك بها الجميع، والآن في ظل تحالف العسكر والإسلاميين وصعود السلفيين الذين وصف أحد وجوههم رائد الرواية العربية بـ”الهالك”! فإن للمثقف دورا محوريا ليست الثورة فقط بحاجة ماسة إليه ولكن البلد بكامله إذا ما وصل الأمر إلى سيناريوات مرعبة تحرم وتمنع وترى في الفن انحلالا وفي الأدب هلاكا، هذا المثقف الضمير القادر “في أعمق أعماقه، على استشعار أي نوع من الظلم في أي موضع من العالم” بحسب كلمات تشي غيفارا.

المجد للشهداء والجرحى ولفاقدي عيونهم وكل من ضحّى وسهر الليالي وواجه الموت والرصاص والغازات السامة، نساء ورجالا وشيوخا وأطفالا، وجعل الأحلام تقترب.

“يا بنيّ، إننا نقضي حياتنا باحثين عن بلد لسنا واثقين أساسا من وجوده. أحيانا، برق، ضباب ذهبي، جبل مرعب… من يعرف إذا كنا سنجده، بعد سنوات طويلة، متأخرا جدا وبعيدا جدا. ربما عندما لا يكون هناك ما نبحث عنه. عندما يعود كل شيء ليصبح عدما، كصرخة في الليل”

(حكاية مجهولة المؤلف).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى