صبحي حديديصفحات مميزة

قشّة رفعت الأسد: منقذة الغريق أم قاصمة الظهر؟


صبحي حديدي

 إذا صحّت الأنباء عن إعادة تأهيل أمثال علي دوبا (المسؤول الأبرز عن المخابرات العسكرية في عقود حكم حافظ الأسد)، ومحمد الخولي (نظير دوبا في جهاز مخابرات القوى الجوية، والأثير عند الأسد رغم أخطائه الفادحة، وأشهرها المحاولة الفاشلة لنسف طائرة “إلعال” في مطار هيثرو، ربيع 1986)؛ فإنّ المأزق الذي يقود بشار الأسد إلى الاتكاء على هؤلاء، بحثاً عن الخلاص، يمكن أن يقود منطقياً إلى اتكاء آخر مواز، لا يتكامل مع الأوّل بل قد يتناقض معه: بحث ماهر الأسد عن قشة تنفذ النظام الغريق، في شخص رفعت الأسد، عمّه وقدوته ومثاله الأعلى. وإذا كانت الأسباب التي دفعت الأسد الأب إلى إبعاد أمثال دوبا والخولي وعلي حيدر وشفيق فياض وإبراهيم الصافي (أي كفّ يدهم عن أي نفوذ يمكن أن يعكر سيرورات توريث الفتى بشار)، قد طُويت اليوم لأنّ الانتفاضة تضع جميع القتلة والطغاة والمستبدين والفاسدين في سلّة الحساب ذاتها؛ فلماذا، إذاً، يُستثنى العمّ من لائحة المنقذين؟

 ذلك لأنّ أرصدة العمّ السياسية والأمنية والعسكرية والمالية، سواء داخل صفوف الضباط أو المدنيين، في الحزب أو الدولة أو المجتمع، ليست محدودة، وليست مجمدة البتة؛ وهي بالتالي قابلة للتوظيف الفوري، سواء جرى استثمارها من داخل سورية لكي تعطي ثمارها في الداخل السوري وتُرحّل إلى الخارج في آن معاً، أو جرى العكس: استثمار من الخارج إلى الداخل، حيث تكتسب من اسباب القوّة ما يجعلها قابلة للتصدير مجدداً إلى الخارج! إنه ما يزال يتمتع بولاء شرائح واسعة من كوادره القديمة (السياسية والعسكرية، الرسمية وغير الرسمية) التي صعدت منذ أوائل الثمانينيات على يديه، بفضل منه، وحين كان الرجل الثاني في البلاد. وتلك الكوادر اضطرت ـ بعد تقليص سلطاته، وإبعاده خارج سورية إثر صراعات عام 1984، وحلّ “سرايا الدفاع”، ذراعه العسكرية الضاربة ـ إلى التقاعد أو الإنزواء أو التأقلم مع الأوضاع الجديدة. وهي، أيّاً كانت مواقعها الراهنة، في شُعب التجنيد أم في فروع المخابرات المختلفة أم في ألوية الفرقة الرابعة، مستعدّة إلى الإنضواء من جديد في كنف “القائد”، ولعلها أيضاً قادرة على العودة السريعة إلى احتلال مواقع متقدمة في الترتيبات الجديدة.

 كذلك فإنّ رفعت الأسد قادر على مصالحة النقائض، وتقريب الهوّة بين شيوخ السلطة وكهولها وشبّانها، وبين الخاسرين منهم والرابحين، وحيتان الفساد إسوة بالقطط السمان، والجوارح التي تقتات على الجيف مثل تلك التي تستأثر بالطرائد الأدسم. وهو عسكري سابق امتهن الـ “بزنس” ذا العيار الثقيل، واستثماراته داخل سورية وخارجها تُحسب بالمليارات، وتحالفاته وثيقة مع التجّار ورجال الأعمال حتى جاء زمن عُدّ فيه “حامي التجّار” بامتياز. وحين كان قويّاً، على رأس جيشه الخاصّ، النخبوي تماماً في تسليحه وامتيازات أفراده، يقود تحالفاً عجيباً من العسكر والتجّار والأكاديميين (إذْ لا ننسى أنه “دكتور” في العلوم السياسية، ورئيس سابق لـ “رابطة خرّيجي الدراسات العليا”)؛ أشاع رفعت الأسد ثقافة “عسكرة التجارة”، التي تجعل العسكر شركاء دون رساميل في أيّ وكلّ تجارة، أو “تَجْرَنة العسكر”، حيث ينقلب الضباط إلى تجار في كلّ وأيّ صنف، وسط ابتهاج مختلف فئات البرجوازية السورية الطفيلية، واستسلام أو استقالة البرجوازية الكلاسيكية.

 وليس من المستغرب أن يبلغ تحالف مافيات النهب العسكرية ـ التجارية التي تحكم سورية اليوم ذلك الطور المأزوم الذي يحصر قشة الخلاص في شخص رفعت الأسد، لأنه حامي الفاسدين وسيّد الناهبين، منحاز إلى الليبرالية الاقتصادية، النظيفة أو الرثة أو التي بلا هوية؛ عسكري التكوين والمزاج، مستعدّ دائماً للبطش والضرب بيد من حديد؛ تحالفاته العربية (التي تشهد عليها زياراته واتصالاته وصداقاته وشراكاته) لا يستهان بها، بل هي تؤهلّه لأداء دور صمّام الأمان في المراحل القادمة من تطوّر الحياة السياسة والإقتصادية السورية. وبمعزل عن الترهات التي ينطق بها نجله رئبال، الذي يدير من لندن “منظمة الديمقراطية والحرية في سوريا”، فإنّ التبدّل الدراماتيكي الذي أدخله رفعت الأسد على خطابه، بحيث صار شيخاً في الديمقراطية وحقوق الإنسان (قد لا ينافسه إلا شيخ/ رفيق درب سابق من طراز عبد الحليم خدام!)، يمكن بالفعل أن ينطلي على البعض ممّن يبحثون عن الذريعة الأدنى للسير في ركابه.

 بيد أن احتمالات أدوار قادمة لرفعت الأسد في الطور الراهن من اهتراء النظام ترجحها، أيضاً، ثلاثة تطورات نشأت في حقبة غيابه عن السلطة، لكنها ما تزال قيد التأثير، وهي مرشّحة لمزيد من التفاعل، أو بالأحرى: التفاعل المضادّ، في حال استدعائه مجدداً إلى القصر الرئاسي. التطوّر الأوّل هو أنّ برامج “التغيير” التي اقترنت بصعود وتوريث بشار الأسد، خصوصاً تلك التي اندرجت تحت مسميات “الليبرالية الإقتصادية” و”تحديث المؤسسات” و”محاربة الفساد”، و”إحكام الرقابة”، و”تقديم الكوادر الشابة”… اقتضت، بالضرورة، إنقسام بنية النظام إلى فريقين: رابح، وخاسر. المشكلة، مع ذلك، أنّ المرشّحين للخسارة لم يكونوا على هوامش السلطة بل في قلبها أو ربما في قمّة هرمها، وأنّ وتائر “التغيير” لم تتكفل أصلاً بإقصاء هؤلاء إلى الهوامش.

 الوجه الآخر لهذه المشكلة هو أنّ المرشّحين للربح بدأوا يصعدون من منتصف الهرم أو من قواعده السفلى، وبعضهم كان في الهوامش أو في الصفوف الخلفية، وأنّ الوتائر لم تكن، هنا أيضاً، كافية لترقيتهم سريعاً إلى الصفوف الأولى. وهكذا، في ضرب مثال عملي: كيف سيجري توليف توأمة مسالمة بين أعمال رامي مخلوف، ابن الخال، وأعمال سومر الأسد، ابن العمّ، ولكلّ منهما أتباع في صفَّيْ الربح والخسارة؟ وكيف لضابط سابق في “سرايا الدفاع”، مثل معين ناصيف، صهر رفعت الأسد، أن يتصالح مع ضابط أكبر في المخابرات العامة، مثل حافظ مخلوف، ابن خال الرئاسة، وبينهما ما صنع الحدّاد طيلة سنوات؟

التطوّر الثاني أنّ توريث الأسد الابن اقتضى إقامة تعاقد أكثر متانة بين عناصر التحالف العسكري والأمني والتجاري ـ الاستثماري الذي يحكم سورية، ولكنه اقتضى أيضاً المسّ، برفق تارة أو بخشونة طوراً، بشروط تعاقد أقدم بين العسكر ومختلف فئات وشرائح البرجوازية السورية خلال عقد السبعينيات وأواسط الثمانينيات. فهذه البرجوازية، التجارية والصناعية أساساً، طالبت بالمزيد من الليبرالية والإنفتاح واستحداث القوانين التي تكفل صون رأس المال وتحصين المؤسسة الإستثمارية وإصلاح الأنظمة المصرفية. واستحداث مثل تلك القوانين سار على نقيض تامّ مع مصالح عشرات الضباط الذين “تبرجزوا” وكدّسوا ثروات هائلة، لأنّ بنية تقاسم القوّة داخل النظام أتاحت لهم تحويل البرجوازية السورية إلى بقرة حلوب، راضية تارة أو مضطرة طوراً.

 التحالف بين الفريقين سار على وئام حتى ساعة الانتفاضة، حين بدأت الأعمال تتعطّل، وظهرت آثار العقوبات الأوروبية والأمريكية المباشرة، فتوجّب على العسكر أن يختزنوا ما لديهم من سيولة وعملات، تتناقص حتماً لانها لم تعد تزداد؛ وتوجّب على كبار التجار والمستثمرين أن يدفعوا رواتب الشبيحة ونفقات القمع اليومي للانتفاضة، من رساميلهم السائلة التي أخذت تشحّ يوماً بعد يوم. هل من “منقذ” هنا، في شخص رفعت الاسد ومؤسساته، يملك مليارات في الداخل ومثلها في الخارج، كما ينعم بمرونة عالية في تحريك تلك المليارات، سائلة أو صيرفية، بالنظر إلى أنه خارج العقوبات، فضلاً عن كونه من آل بيت السلطة، بل هو العمّ فيها، والعميد؟

 التطوّر الثالث نجم عن اجتماع عناصر التطوّرين السابقَين. ذلك لأنّ الإنقسام إلى صفّيَن، رابح وخاسر، أفضى في المقام الأوّل إلى وقوع شرخ بنيوي عميق في تجانس الإئتلاف الأكبر الذي ظلّ ركيزة معادلات السلطة منذ أواسط السبعينيات: التحالف العسكري ـ التجاري. ولا يفهمنّ أحد أنّ الشطر الثاني من هذا التحالف يعني فئة التجّار الكلاسيكية وحدها، بل شمل أيضاً عشرات من كبار المسؤولين السوريين الذين مارسوا ويمارسون مختلف أنواع الأعمال، مباشرة في حالات محدودة، أو عن طريق أبنائهم في معظم الحالات (الأمثلة كثيرة بالطبع، ومعروفة). وليس تراث رفعت الأسد في هذا سوى المثال الأعلى كعباً وسطوة، من جهة؛ والأشدّ رثاثة وانحطاطاً ومافيوزية، من جهة ثانية.

 وتجدر الإشارة هنا إلى أمرَين جوهريين: أنّ هذا الإئتلاف كان نخبوياً على الدوام، ومقتصراً على فئات محدودة للغاية سواء في داخل السلطة أو خارجها؛ وأنه بدأ، وما يزال، عابراً للتصنيفات السوسيولوجية التقليدية (الطبقية أو المهنية أو الطائفية)، ومتمحوراً في الأساس على ما يسمّى “مصالح الجماعة”Group Interests، أكثر بكثير من مصالح الطبقة أو المهنة أو الطائفة. فإذا تعارضت المصالح بين الشطر العسكري والشطر التجاري من الإئتلاف النخبوي هذا (كما يحدث بقوّة في الأطوار الراهنة من عمر الإنتفاضة)، فإنّ خطوط التحالف القديمة لن تتمكّن من الصمود طويلاً، والعاقبة المنطقية هي انكشاف التناقضات داخل تلك الخطوط، وانقلابها إلى تفكك وانهيار، قبيل التناحر والتصارع. وهكذا يتكرر السؤال: هل من “منقذ”، أو “وسيط”، أو… قشّة يتشبث بها الغرقى؟

 بيد أنّ حكمة التاريخ البليغة، وهذه التطورات ذاتها بما تنطوي عليه من جدل وجدل مضادّ، تفيد بأنّ القشّة ذاتها يمكن أن تقوم بالدور النقيض تماماً: أن تقصم ظهر هذا الديناصور، الثقيل المتهالك المترنّح، الذي انتهى إليه النظام السوري، بعد 41 سنة من الاستبداد والفساد والنهب، وبناء شبكات الولاء والاستزلام والاستخبار؛ واعتماد أقصى السياسات التمييزية والطائفية والعنصرية للحفاظ على بقاء النظام، أياً كانت المخاطر الوطنية؛ فضلاً عن الدخول في شتى التحالفات الإقليمية أو الدولية التي تقيم أود النظام، ليس دون ادعاء “المقاومة” و”الممانعة” ومناهضة الإمبريالية…

 ذلك، أغلب الظنّ، هو السبب الذي جعل بشار الأسد يتردد في طلب النجدة من عمّه، وهو السبب ذاته الذي سيجعل شقيقه ماهر الأسد يقوم بخطوة معاكسة؛ ليس لأنّ لكلّ من الشقيقين قراءة مختلفة لمآلات النظام السائرة إلى الهاوية، بل لأنّ بلوغ ذروة قصوى في اليأس تجعل من القشة أمل الغريق الأخير، مثلما تجعلها قاصمة ظهر الديناصور. والأرجح أنّ صمت العمّ عن مجريات الانتفاضة لا يفيد تضامنه الضمني العميق مع الاسرة الأسدية في محنتها الأخطر، والختامية النهائية، فحسب؛ بل كذلك تأهب الوحش الرابض، قبيل برهة الإنقضاض والفتك!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى