صفحات الثقافة

قصة ولدين أو خمسة..


أحمد عمر

سألتهم عن اسم مناسب لمجموعتنا؟ فاقترح أبو الخير ببساطة وعفوية: جماعة الكروش. عاشت ‘الاسامي’. ثم اقترحت: نسميها: ‘حزب الفتة’ الاشتراكية. جمال الذي لا يشارك في الأحاديث إلا بابتسامته، والذي يقلّ كلامه إلى الحد الصفري بسبب خوف قديم، مرده تجربة السجن القاسية التي استأصلت رأيه استئصالا، قال مصححا بصوته الهامس المستأذن: جمعية الفتة.

وأردف محذرا من التهلكة: أحسن. ابتسمنا فنحن لسنا أحسن حالا منه بكثير. قال أبو محمد: نسميها جمعية ‘هرمنا’، ومسح بيده على شعره الأبيض: وأردف: هرمنا .. من اجل هذه اللقمة التاريخية، واكل اللقمة. فاعترضت، فزميلنا سعود في الخامسة والعشرين وأبو الخير في الثلاثين، رغم طحين الزمن المنثور في فوديهما.

يعدّ زهير الفتة في هذه الأثناء بعناية عانس، وقلما يشارك في الحديث الجاد. يخرج تيسير من الحمام، فأدخل واتدوش في اقل من خمس دقائق، واخرج متحررا من العرق بالماء ومن بعض الشحوم والكولسترول بالكرة كما يجدر بها. يجتمع الشيوخ الأربعة والشابان تحت الدالية على الصحفة الواسعة التي تلمع فوقها جداول وبحيرات صغيرة من زيت الزيتون الذهبي، مخفورة بزوارق من المخلل وكؤوس من العصير الغامق السكران بالحلاوة.

هذا هو الدأب، بعد أن ننتهي من مباراة قصيرة بكرة القدم، في ملعب لا يجاوز ملعب كرة سلة، متاخم لبيت أبي الخير. وبعد أن تعصر الكرة أجسادنا نجتمع في جنينة البيت. والبيت ليس لأبي الخير وإنما لأخيه عبد الباري الذي هرب إلى كندا ولن يعود، إلا إذا سقط النظام. عبد الباري كان مصارعا في الفريق القومي وقد خرج إلى ألمانيا لمباراة دولية ثم خدع مديره ولجأ إلى ألمانيا انتقاما من تاريخ عريق من ‘الإذلال الرياضي’ ثم استقرّ في كندا. يحضر زهير عدة الفتة كلها قبل المباراة، التي تستغرق ساعة أو اقل، من عند أبو عبدو الفوال؛ الحمص الناعم والحمص الحب، والطحينة، ومرق الحمص، والخبز المكسر، وعصير التمر هندي المحلّى والمطيّب بماء الزهر، أو السوس، وأحيانا عصير الجلاب. زهير هو الوحيد يلعب حبا بمشاركة ابنه مزهر الذي يبلغ الثانية عشرة، يلعب خصما له، ليمنحه أهدافا مجانية! يلعب معنا ولدان غير مزهر هما ابني؛ العمرين (16 سنة)، ومحمد ابن صاحبنا عباس (17 سنة).

غالبا ما تسقط طابة الأولاد في جنينة الدار مرة أو مرتين فيسرع زهير إليها ويخرجها للولد ذي الشعر الأبيض الذي يسرع، هو لا غيره، لإحضارها، ويخرج وهو يضمّ الطابة، ويحبسها عدة ثوان في حضنه ثم يناولها لذي الشعر الأبيض مشترطا عليه عدم الإزعاج، وقت الفطور خشية من أن تسقط في قصعة الفتة. فأتذكر فضولي في معرفة سبب بياض شعره سأسأله في المرة القادمة.

فبعد أن ننتهي من اللعب يحضر فريق آخر من الاولاد ويلعب بعدنا. كنت انتبهت إلى انني أصاحب فريقا مكونا من ستة خريجين جامعيين أربعة منهم في الأربعين وثلاثة منهم أطفال حقيقيون رغم سنهم. وإنني الأكبر والاخبث بين الجميع .سعود بريء، وطيب ومطيع، ومستمع ممتاز، بل ومذعور إذا فاجأته بلمسة أو سؤال. تيسير ينام فورا بعد الفتة كالطفل الشبعان من حليب أمه بعد جوع، وقد ينام جالسا، أو يضطجع وتستمر ضجعته حتى أذان صلاة الجمعة، وجمال المبتسم الأخرس، الحيادي إلى درجة السلبية المطلقة؛ طلبت منه مرة أن يقتل ذبابة كانت تحط بجواره فرفض. كأني أكلفه بجريمة قتل!

حتى أنّ غسان لا يخلو من طفولة في الهيئة وفي السلوك أيضا، فهو يعبر عن أرائه في الناس بطريقتين: أحب واكره. أولادنا: العمرين، ومحمد، ومزهر، يبدون انضج من آبائهم وأكثر اطلاعا على الانترنت وابرع استثمارا للكومبيوتر. كأنّ بيننا لعبة كراسي موسيقية نتبادل فيها الأدوار. زهير ولد حقيقي، ولعل سبب طفولته هو تربية ابيه الصارمة، فهو دائما، بعد الانتهاء من وجبة الفتة ينفخ كيسا من أكياس الحمص الحب التي فرغت ثم يفجرها عابثا قرب أذن احد الساهين أو المنهمكين في الحديث، أو يغدر بأحدنا برنّة هاتف جّوال كاذبة، أما عند الحديث في السياسة، فيسكت كأنّ الأمر لا يعنيه، بل يبدو عليه الملل.

ونحن نحاول تقدير اسم الجمعة القادمة؛ أقول لهم ان التنسيقيات أخفقت في اختيار اسم الجمعة الماضية، فيقترح العمرين أن نسميها جمعة ‘فرمتة الطغيان’ فيوافق محمد سعيدا بالاسم ويصرّف الفرمتة عربيا ويقول: الفرمتة من الفرم والتقطيع .. وإسقاط النظام.

الأمر الوحيد الذي قد يثير زهوّ زهير هو الثناء على جودة إعداد الفتّة، أو الثناء على الزيت الذي اشتراه. زهير يحبّ التباهي بالحسميات التي يحصّلها من باعة سوق الحشيش، من مساومات ناجحة. أو من مهارته الشرائية.

بعد صلاة الجمعة نهرب نحن الكبار من الشارع تاركينه لفريقين آخرين يلعبان لعبة دامية اسمها: عسكر وثوّار. في الجمعة السابقة قررت أن ألحق بهؤلاء الثوار، عن بعد، ليس استجابة لهتافهم (اللي ما بيشارك، ما فيه ناموس) فناموسي انتهى من زمان، ولم تكف ثمالته سوى لشارع واحد، اثر زخة إطلاق نار أثكلت أمهات كثر.

تسللت بعدها إلى الدار أتلصص على معركة غير متكافئة بين الهتاف والرصاص. وفي الجمعة الثامنة التي كان اسمها جمعة أطفال الحرية كان فريقنا قد نقص لاعبين، متقاربين في العمر هما الطفل مزهر وأبوه زهير، فلن يلعبا معنا أبدا بعد الآن.

طبعا لم نلعب نحن أيضا..

كما لم نأكل الفتة المعتادة …

وسقطت طابة الأولاد في باحة الدار مذكّرة بكرتنا الثكلى. فخرجت بها، ولأول مرة لم أجد الولد ذا الشعر الأبيض، ثم علمت من صاحبه أنه لن يتاح لي سؤاله عن بياض شعره .. أبدا.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى