صفحات سورية

قطار الحل السياسي ينطلق نحو السورية والركاب يتموضعون

 

د. رياض العيسمي

‘سنستمربالضغط على النظام السوري الذي يقتل شعبه، وسنزيد من دعمنا للمعارضة السورية التي تمثل إرادة الشعب’. كانت هذه هي الجملة اليتيمة بخصوص الأزمة السورية التي تضمنها خطاب ‘حالة الإتحاد’ السنوي للرئيس الإمريكي باراك أوباما. هذا وبالرغم من أن هذه الجملة كانت مُقتضبة ولا تخرج عن سياق الموقف الأمريكي المعروف، إلا أنه يُستشفُ منها الجدية هذه المرة. حيث أنها تختلف عن النبرة الخطابية التي كان يرددها الرئيس أوباما في الماضي للإستهلاك الإعلامي: ‘بأن الأسد قد فقد شرعيته في الحكم وعليه أن يتنحى’، أوعما كانت تكرره وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون: ‘بأن أيام الأسد باتت معدودة’. لقد جاءت جملة أوباما عن الوضع السوري ضمن سياق حديثه عن العلاقات الخارجية والوضع في الشرق الأوسط. حيث أكد الرئيس أوباما مرة أخرى بأنه يرفض مبدأ الحروب والعسكرة. وأن عقيدته هذه لا تقتصرعلى إنهاء الحرب في إفغانستان بعد العراق، بل ترفض التدخل العسكري بشكل عام. وهذا ما طرحه سابقا في خطاب القسم الذي أداه لدورة رئاسية ثانية في شهر ينايرالماضي. أما حقيقة توجههه بخصوص عدم تزويد المعارضة السورية بأسلحة نوعية كشف عنه مؤخراً ليون بانيتا وزير الدفاع في شهادته أمام الكونغرس الأمريكي. حيث أكد بأن الرئيس أوباما كان قد رفض مقترحا الصيف الماضي قُدم له من قبل هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية السابقة وديفيد بترايوس رئيس (السي أي آيه) في حينها وأيده هو والجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان العامة. ويتلخص المقترح بتحديد فئات المعارضة المقاتلة في سورية، الغير جهادية والغير مرتبطة بتنظيم القاعدة كجبهة النصرة، ودعمها بالأسلحة النوعية وتدريبها.

لذا جاءت تصريحات الشيخ معاذ الخطيب رئيس إئتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية حول إمكانية التفاوض مع النظام في الوقت الذي بات فيه من المؤكد بأن الرئيس أوباما لن يتخذ قراراً لا بالتدخل العسكري المباشر في سوريا، ولا السماح بتزويد الثوار بالأسلحة النوعية. وأيضا بعد التأكد من إقتراب الموقف الأمريكي من الموقفين الروسي والصيني بإعتماد الحل السياسي للأزمة السورية. والحل السياسي يعني الحوار مع الطرف الآخر، أي مع النظام. وكذلك تأتي تصريحات الخطيب في وقت دخل فيه الإئتلاف وضعا حرجا نتيجة الأزمة المالية التي نجمت عن نكث الدول المانحة بوعودها. وأيضا جراء الإنحسار السياسي الناجم عن تراجع موقف الولايات المتحدة، والذي تبعه بطبيعة الحال تراجع في إندفاع الدول الأوربية، وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا. وكذلك تأتي هذه التصريحات في الوقت الذي ما يزال فيه شلال الدم يتدفق غزيراً في سورية. حيث تُقدرالعديد من المصادر بأن أرواح السوريين التي أُزهقت منذ بدء الثورة تزيد عن المائة ألف. ومؤشرعداد الموت اليومي في تسارع مستمر، وكذلك هوعداد اللاجئين الذين يتقاطرون إلى دول الجوار، ومثله النازحين داخل الوطن. هذا غيرالمعتقلين والمفقودين الذين توقف عدادهم عن العمل. إضافةً إلى الدمار الماحق الذي يحل بالبلاد، والتشوه النفسي والجسدي الذي يلحق بالعباد. لابد وإن كل هذه الظروف كانت من ضمن ما دفع بالشيخ الخطيب للإطلاق دعوته للحوار المشروط مع النظام. إلا أن تصريحاته هذه كانت قد فاجأت الكثيرين من أطياف المعارضة بما فيهم أعضاء في الإئتلاف الذي يرأسه. وكذلك داخل المجلس الوطني الذي يمثل أكثر من ثلث الإئتلاف. كما وسادت موجة عارمة من الجدل واللغط حول شرعية و دوافع هذه التصريحات.

من حيث المبدأ، لا نعتقد بأن أية مبادرة سياسية تقود إلى سقوط النظام تتعارض مع مبادئ الثورة. بل بالعكس تحقق هدفها الأساسي (إسقاط النظام)، وتلتقي مع أول شعار رفعته (الشعب يريد إسقاط النظام)، وتعيدها إلى جوهر إنطلاقتها (السِلمية). إذن ليس هناك أي ضير في أي حوار يحقن دماء السوريين وفي نفس الوقت يحقق هدف الثورة الأساسي. وكون الإئتلاف يُعتبر بمثابة الذراع السياسي للثورة، فمهمته تكمن في ممارسة الفعل السياسي في الخارج الذي من شأنه أن يعزز فعل الثوارعلى الأرض. لهذا نعتقد بأن الدعوة إلى الحوار قد حققت حتى اللحظة عدداً من الأهداف السياسية، التي كانت المعارضة والثورة السورية بحاجة لتحقيقها. حيث أنها وبالدرجة الأولى أحرجت النظام ووضعته على المحك. فهو الذي لم يتوقف يوما عن إطلاق دعوات الحوارالوهمية التي لا يمكن أن تتم إلا بشروطه ولا تخدم غير بقائه في السلطة. وأيضا تهدف إلى تصوير الثوار وكأنهم كما يوصفهم ‘عصابات مسلحة’ لا تؤمن بمنطق الحوار. كما وحركت المياه الراكدة في ‘مستنقع’ القرارالدولي، وأعادت بالإئتلاف بشكل خاص والثورة السورية بشكل عام إلى واجهة الحدث بعد فترة من التراجع والإنحسار. وكذلك بنت الدعوة المشروطة للحوار برحيل الأسد جسوراً مع المعارضة في الداخل، وبالتحديد مع هيئة التنسيق وفعاليات الثورة الأخرى التي يتجاوب موقفها مع هذا التوجه. وهذا ما قد يمهد الطريق أمام وحدة المعارضة السورية، والتي لم يعد مناصاً منها بعد اليوم. كما وهيأت المعارضة السورية بأن تكون طرفاً فاعلاً في الحل السياسي، الذي يعتقد أغلب المراقبين بأنه أصبح وشيكاً، بدلاً من أن تكون طرفاً ضعيفا فيه تُفرَضُ عليه الحلول.

لقد أطلقت الدعوة للحوارسلسلة من الأفعال وردود الأفعال المكثفة والحثيثة على كافة الأصعدة المحلية والعربية والدولية. فبعد تصريحاته بقبول الحوار، دُعيَّ السيد معاذ الخطيب إلى مؤتمر ميونيخ للأمن في ألمانيا، والذي لاتحضره عادةً إلا الشخصيات الحكومية الرفيعة من رؤساء ونواب رؤساء ووزراء خارجية ومعنيون بالأمن. وأجتمع على هامش المؤتمر مع من تملك دولهم مفاتيح الحل للأزمة السورية. حيث إلتقى مع جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكي، وسيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، وعلي أكبر صالحي وزير خارجية أيران. كما وأجتمع مع الأخضر الإبرهيمي المبعوث الدولي والعربي، الذي توجه مباشرة بعد ميونيخ للقاء نبيل العربي أمين عام الجامعة العربية في القاهرة. وبدوره دعا العربي إلى القاهرة رياض حجاب رئيس وزراء سوريا المنشق للتباحث. وفي نهاية الإجتماع طالب حجاب بمقعد سوريا في الجامعة العربية. قطر تُسارع إلى تسليم مقر السفارة السورية في الدوحة للإئتلاف بعدإعتماد سفير له.

وفي الولايات المتحدة يتم الإعلان عن إمكانية فتح مكتبين للإئتلاف، واحد في واشنطن والآخر في نيويرك. المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، يرفض فجأة أي دعوة للحوارالمنفرد مع الولايات المتحدة حول ملف إيران النووي في الوقت الذي كانت فيه إيران تكرر الدعوة إلى هكذا حوار. ويتبع تصريح المرشد الأعلى مقترح من إيران بوضع البحرين وسوريا على جدول أعمال ال 5 + 1 المقرر عقده في كازخستان في 26 الشهر الجاري لمناقشة ملف إيران النووي. الرئيس أوباما في خطاب ‘حالة الإتحاد’ يجدد إمكانية حل مشكلة ملف إيران النووي بالتفاوض. معاذ الخطيب يُدعى لزيارة الولايات المتحدة وروسيا. وأيضا من المتوقع أن يزور وليد المعلم وزير الخارجية السوري موسكو هذا الشهر. كما وأعلن عن زيارة للملك عبدالله الثاني ملك الأردن لروسيا. جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة الجديد سيقوم بزيارة شرق أوسطية. وكان قد صرح مؤخرا بأنه سيناقش مع الدول التي سيزورها مقاربات لحل الأزمة السورية تتركز على الحل السياسي، وإقناع الأسد بأن إنتصاره بات مستحيلا وأن رحيله لامفر منه. كما وكان له إجتماع مع بان كي مون أمين عام الأمم المتحدة.

ناقش معه إمكانية إستصدار قرار من مجلس الأمن تحت الفصل السادس لوقف العنف في سوريا وإرسال قوات حفظ سلام، وتطبيق حل سياسي. الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية يعقد إجتماعا مطولا في القاهرة يناقش فيه مبادرة الخطيب وآفاق العمل المستقبلية. الأخضر الإبراهيمي يُعلن من القاهرة بأن مبادرة الشيخ معاذ الخطيب ماتزال قائمة، ويقترح أحد مقرات الأمم المتحدة لبدء الحوار. الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي يُعلن عن سفر وفد من الجامعة العربية مؤلف من ثلاثة وزراء خارجية عرب (مصر، الكويت، لبنان) إلى موسكو للتباحث. الرئيس أوباما سيحمل معه حصيلة ما ستتمخض عنه كل النشاطات والفعاليات بخصوص الأزمة السورية إلى إسرائيل التي سيزوها في الإسبوع الثالث من الشهر القادم، والتي ستكون الأزمة السورية حاضرة بقوه على جدول إجتماعه مع نتنياهو. يأتي كل هذا الزخم الدولي في الوقت الذي مايزال النظام السوري يصعد من حملاته العسكرية محاولا تحقيق مكاسب على الأرض وإستعادة مناطق إستراتيجية كان قد خسرها. وفي الوقت ذاته يستولي الثوارعلى مواقع إستراتيجية جديدة ويغنمون أسلحة نوعية، ويُحرزون تقدما حثيثا على إمتداد الأرضي السورية، ويُطبقون تدريجيا على دمشق المدينة.

ما يمكن إستنتاجه من كل هذه التحركات، بأن قطار الحل السياسي للأزمة السورية قد إنطلق بالفعل، وبدأ ركابه (الأطراف المعنية) يتموضعون إستعداداً للرحلة. أما السؤال المهم هو: هل يمكن لإئتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية أن يحجز للثورة والشعب السوري مكانا في عربة القيادة؟ لأنه ليس من المهم معرفة المحطة التي ينطلق منها القطار، بل المحطة التي سيصل إليها. لاشك بأن مهمة الإئتلاف ستكون صعبة وشاقة، وتحتاج إلى حنكة سياسة كبيرة وخبرة تفاوضية بارعة. فالسياسة والتفاوض هما علم وفن، وكلاهما يحتاج إلى المعرفة والتجربة لتحقيق الأهداف المرجوة منه. إلا أن التجربة المريرة مع النظام السوري علمت الجميع بأنه لا يوجد حوار أو أي حل سياسي يمكن أن يكون مجدياً معه في أي حال، إلا إذا إقترن بعاملين أساسيين: العامل الأول يتمثل بالقوة العسكرية. فالنظام السوري لن يفاوض على رحيله إلا إذا أدرك بأنه سيسقط، والأسد لن يستسلم إلا إذا تأكد من حتمية موته. إذن لا بد من زيادة دعم الثوار بكل الوسائل بما يوسع نفوذهم على الأرض إلى حدٍ يجعل النظام يرضخ للأمرالواقع مُرغماً. أما العامل الثاني فيتمثل بالمرجعية الدولية. حيث أن النظام لن يُطبقَ أي حل سياسي يمكن أن يقود إلى رحيله إن لم يكن بقرار مُلزم من مجلس الأمن الدولي (يوافق عليه الأعضاء الخمسة بما فيهم روسيا والصين)، ويستند إلى آليات وجداول زمنية محددة (تضعها وتشرف عليها الولايات المتحدة بمساعدة فرنسا وبريطانيا وتباركها روسيا والصين)، ويوفرأدوات تنفيذ فاعلة (تفرضها روسيا وإيران). فتجربة مصطفى الدابي وجامعة الدول العربية مازالت ماثلة أمامنا، وكذلك تجربة كوفي عنان والأمم المتحدة.

كما ولم يعد خافياً على أحد بأن الأزمة السورية لم تعد أزمة محلية فحسب، بل إقليمة ودولية. وإن كل الأطراف فيها تحرص على تحقيق مصالحها أكثر من حرصها على مصلحة الشعب السوري، الذي تُرك لعامين يعيش مآساة إنسانية غيرمسبوقة دون أن يهب لنجدته أحد. والآن بدأت جميع هذه الأطراف تحجز لنفسها مقاعداً على طاولةِ حوارٍتَعمدتْ بدمه. والكل يحاول أن يحقق إختراقا ما على حسابه كي يُحسّنَ من شروط تفاوضه، بما فيهم الأسد نفسه، الذي بات الجميع مقتنعا بضرورة رحيله وإن إختلفوا على كيفية الرحيل وثمنه. أما قوة التفاوض الحقيقية التي يمكن أن تمتلكها المعارضة السورية في أي حل سياسي تكمن بوحدتها وإلتزامها بثوابت الثورة وتمسكها بعزيمة الثوارالتي كانت من أهم الأسباب التي فرضت هذا الحوار، وجعلت كافة الأطراف المعنية تتسابق للمشاركة فيه. أما الحل السياسي الذي يمكن أن يقبل به كل الشعب السوري في النهاية هو الذي يضمن له أن تكون سورية واحدة موحدة أرضا وشعبا، ووطنا لكل السوريين. ويؤسس لدولة مدنية تعددية تعتمد الشفافية والتداول السلمي للسلطة. وأن يكون كل مواطنيها متساوون تحت سلطة القانون.

‘ أكاديمي سوري مقيم في الولايات المتحدة

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى