صفحات الثقافة

قلق الإبداع!/ إبراهيم صموئيل*

 

 

 

من أطاح بالقلق السابق على الكتابة، المرافق لها، والمتخلف عنها بعد ظهورها مطبوعة: أقصيدة كانت أم قصة أم رواية؟ وكيف صار أن تبددت الخشية من احتمال فشل النص فنيا من احتمال عدم جدارته بالمشاركة أساسا، ناهيك عن عدم توفر بهاء حضوره ومقدرته على لفت الأنظار؟

ليس مصادفة أبدا أن الموهوب الحقيقي، الكامن في داخله طاقة الإبداع، والذي أصابته لوثة الكتابة، نراه يتقدم بمخطوط عمله الأول إلى ناقد متخصص أو مبدع مكرس بكثير من التلكؤ والتحفظ والقلق الداخلي.

نراه يتقدم خطوة ويتراجع خطوة.. ينوي ساعة ويعدل عن نيته ساعة أخرى.. يتقلقل رأيه بسوية وقيمة ما كتب.. لا يرتاح، ولا يطمئن كمن سيُقدم على فعل خطير يمكن أن يكلفه حياته.

ولو أمكن لنا أن نرافق هذا الموهوب الحق وهو يُنشئ عمله الشعري أو القصصي أو الروائي، وأن نصغي إلى أعماقه لتبين لنا مصداقية المخاوف والهواجس التي تعتمل فيه وهو يدخل عالم الأدب، وحجم الشعور بالقلق كما لو كان يغامر برأسه وأحلامه، أو يندفع إلى تجربة غير محمودة العواقب، قد تؤدي إلى الهزء به، أو إلى تلقي نصيحة الكف عن هذه “الفعلة” والتوبة عن الإتيان بمثلها.

لعنة الموهبة

مشاعر وهواجس كهذه ليست كاذبة ولا مصطنعة.. الموهوب قلقٌ بسبب موهبته. بل هو ملعون بها أحيانا، إذ تدفع بشطره الناقد إلى الاستبداد وعدم الرضا عن الشطر الآخر فيه: الكاتب.

وما من سبيل للإطاحة “بالمستبد” ههنا.. ما من “ربيع” ينهض لمقاومته فينحيه ويعزله.. المستبد في الكاتب الموهوب سلطة ملازمة ومحايثة قبل الكتابة وأثناءها وبعدها، لا تزول.

لهذا يظل المبدعون الكبار مبدعين كبارا بفضل شطرهم الرقيب الحريص على رفعة المستوى في أعمالهم، وعدم التهاون في تقويمها مهما حصل أصحابها من شهرة وإعجاب، ومهما فُتحت أمامهم من أبواب.

وفي المقابل، ليس مصادفة أيضا أن نرى آخرين -وما أكثرهم!- ممن لا موهبة لديهم، يتقدمون نحو حقول الكتابة، غير متهيبين ولا قلقين، دافعهم الرئيس أنهم قرروا قرارا وجاهيا غير قابل للطعن أو الاستئناف أن يدخلوا عالم الأدب، ويصيروا نجوما فيه على قدم المساواة مع المبدعين الكبار.

تساؤل هؤلاء الوحيد: ما الذي تحتاجه كتابة الشعر -خصوصا قصيدة النثر- غير جمع كلمات من هنا وهناك ونثرها على أسطر متتالية للخروج بقصيدة من الشعر الحر، إنْ لم يرضَ عنها النقاد، فإن صفحات ثقافية عديدة سترحب بنشرها، وحتى إذا امتنعتْ، فإن “الفيسبوك” على أهبة الاستعداد لتلقي إعجابات أكثر بما لا يُقاس من أعداد قراء الصحف الورقية؟!

وعلى الغرار نفسه: ما الذي تحتاجه القصة -القصيرة جدا على الخصوص- سوى سطرين أو ثلاثة أسطر يمكن تدبرها من أية حادثة أو حركة أو خاطر؟

استرخاص الكتابة

يا سيدي! حتى كتابة الرواية مادتها متوفرة للجميع، إذ لكل امرئ حياته ووقائعها يمكن تذكرها ونسخها وتقديمها للنشر، والدليل أكداس الروايات المكتوبة ممن قرروا قرارا وجاهيا أن يصبحوا كتابا.

وبالعودة إلى تساؤل بداية المقال، يبدو لي أن تغيير الحال من المحال، فثمة ما أرخَصَ الكتابة.. ثمة ما جعل وَطءَ أرضها من القاصي والعابر والداني والحابل متيسرا سهل المنال.. ثمة من أو ثمة ما فتح البوابة على مصراعيها أمام الجميع، وأفلت الحبل على الغارب لدى الجميع، من دون إمكانية الاحتكام.

من حق الحالمين الركون إلى مقولة “البقاء للأصلح”، ومن حق الآملين يقينهم بطرد الكتابة الجيدة للرديئة، ومن حق عشاق ثورة الاتصالات أن يروا أن منجز القفزة التقنية الهائلة هو إتاحتها فرصة الكتابة لسكان المعمورة على قدم المساواة.

لكل راءٍ رؤيته، ولكل مجتهدٍ نصيب، غير أنه يبدو لي أن القلق الإبداعي العظيم الذي يُفترض أن يُراود كل موهوب حقيقي قد تلاشى لدى كثيرين جدا، بل لم يكن موجودا أساسا لدى العديدين.. ما من رهبة خلاقة بعدُ.. ما من توجس.. ما من ارتياب.. ما من شك وتردد وتحفظٍ وتريث حميدٍ بات يكبح -أو يضبط- الشهوة إلى الكتابة.

هل أقول بات يندر جدا -إلى حدود العدد المجهري- وجودُ مَنْ يُخلص لكتابته إخلاص الرهبان المتصوفين، ومن يُعنى بنصه عناية المهووس بالتجويد، ومن يتعامل مع الكتابة الإبداعية معاملة جراحة القلب، ومن يبحث في نفسه، ويجرب، فإذا لم يجد الكفاءة ولا الجدارة، عفّ وامتنع برضا وقناعة ويسر من دون شعور بالعيب أو النقص أو العجز؟

يقيني أن ثمة الكثير مما فقدناه في حياتنا الثقافية، ثم ألفنا فقدانه, واعتدنا على غيابه حتى نسيناه بالكامل، فبات كل متحدث عنه، أو ذاكر له، أو مذكر به، أشبه بالقادم من العصر الحجري!

_______________

* كاتب وقاص سوري

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى