صفحات الثقافة

دعوة مفتوحة للبكاء


    لبانة بيضون

كلما سألني أحد عن رأيي في كل ما يجري في سوريا ومصر، قلت إن موقفي السياسي الوحيد هو البكاء. لست بكّاءة بطبعي، حتى انني طوال حياتي تساءلت عن فائدة ترجى من البكاء باستثناء أنه ينقّي المقلتين. أنا التي لم أبك في كل الجنازات التي حضرتها، أجدني أحرّض نفسي والآخرين على البكاء. دعونا نبكي عنهم، أولئك الذين لا وقت لهم لرثاء أحبائهم، فعليهم أن يدفنوهم سريعاً كي يذهبوا الى موتهم أو لحماية ما بقي من الأحياء. بمَ يفيدهم بكاؤنا ستقولون لي؟ لن يفيدهم في شيء، فبكاؤنا هو تماما كصمتنا، كعجزنا أو تخاذلنا. لكن دعونا نبكي كي نتذكر صمتنا، كي نتذكر تخاذلنا، كي نتذكر عجزنا. دعونا نبكي كي نتذكر أننا أحياء وأنهم أموات. دعونا نبكي كي لا ننسى أو نتناسى أن هذه ليست صوراً بل جثث وأن الذي يسيل منها ليس مادة ملونة بل دم حي كالذي يجري في عروقنا الآن. أفتح التلفاز كل يوم وأسمع الأرقام، خمسة في…، عشرة في….، مئتان في… فماذا يعني هذا؟ ربما الرقم ثلاثة كان يفكر في شراء طابة جديدة قبل أن يُقتل. ربما الرقم مئة كان في انتظار موعد غرامي غداً لن يحدث أبداً. ربما الرقم ألف لم يكن يفكر في شيء. ماذا نفعل؟ هل نحضر آلة حاسبة ونجمع الأرقام؟ لماذا لا نرقّم الأحياء منذ الآن؟ أحضر آلتك الحاسبة واجمع واحسم، وقبل أن تخرج من المنزل لا تنس أن ترقّم نفسك استباقاً لما يمكن أن يحدث. دعونا نبكي كي لا نصدّق أنهم مجرد أرقام الآن. إذا صدّقنا ذلك فسنكون تماماً كآلة القتل النظامية التي لا ترى في الشعب سوى معادلة رقمية تحذف منها ما تشاء. دعونا نبكي كي لا نصدّق اننا نحن أيضا لسنا سوى مجرد ارقام أخرى بائسة. لأننا متى صدّقنا ذلك زدنا موتاً على الاموات. دعونا نبكي عليهم وعلينا، وعنهم وعنا. دعونا نبكي نيابةً عن كل حياة جديدة تولد، ويطبعون على جبينها رقمها وسعرها وعنوانها. دعونا نبكي لأنه لم يعد لدينا من دموع نذرفها على الأموات. دعونا نبكي لأننا لبنانيون ايضاً. دعونا نبكي لأننا لم نزل نصلّي كل ليلة للآلات التي وشمتنا بأرقام مذهبية وعددية وطائفية. دعونا نبكي لأننا سننتخبهم مجدداً بطبيعة الحال، فالأرقام لا تفكر. دعونا نبكي لأن الأطفال يُقتلون دفاعاً عن الأوطان وباسم الأوطان. دعونا نبكي لأننا ولدنا في أوطان كهذه وسنموت فيها وسننجب أطفالا لها لتقتلهم بكل محبة. دعونا نبكي لأننا نحب هذه الأوطان على رغم كل شيء، ونحلم بها وطناً لنا. ربما بكاؤنا يكون كالمطر يغسل عن جبيننا الأرقام التي طبعوها ويرطب جلودنا الميتة. أحدهم صرخ قبل أن يُقتل: “أنا لست رقماً”. لكنه مات قبل أن يتسنى له أن يبكي. لنبك عنه نحن بقية الأرقام التي تنتظر من يحصدها. دعونا نبكي على أولئك الذين لم يجدوا سبيلا للحياة إلا عبر الموت. إنهم يموتون من أجلنا جميعاً، هو موتهم يوقظ الحياة داخلنا ويمسح عنا صفتنا الرقمية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى