إيّاد العبداللهصفحات الرأي

قولٌ في الثورات العربيّة والإسلام السياسيّ


إيّاد العبدالله

جملة من المفاجأات حملتْها لنا الثوراتُ العربيّة. ومنها، وليس أهمّها بالضرورة، ما يتعلّق بالحضور الثانويّ، في أحسن الأحوال، للإسلام السياسيّ على أرض الواقع. فقد سبق أن ارتبط في ذهن الجميع تقريبًا أنه وحده من يستطيع أن يملاً الساحات، وأن يكون بديلاً لأنظمة الحكم العربيّة، التي لعبت على هذه الحيثية كي تؤمّن تأبيدها واستقرارَها في الحكم.

مدخل

كان لدخول “البلاد الإسلاميّة” عصرَ الحداثة أن كرّس الإسلامَ واقعةً عالميةً لا يمْكن التغاضي عنها. يصحّ هذا على “الإسلام” ذاته، الذي تحرّر، نسبيًا، من الانشغال بأصول الفقه والتشريع والآداب السلطانيّة (وهو ما غدا في الأزمان المتأخّرة نقلاً عن نقل)، ليدخل في فضاءٍ جديدٍ، قوامُه السجالُ والصراعُ والتشاكلُ مع “آخر” داهمه و”أيقظه” على قيمٍ ومبادئَ وأنماطِ حياةٍ كان بعيدًا عنها. كما يصحّ أيضًا على “الغرب” الذي تجنّد عددٌ من مؤسّساته ونُخبه بغية الخوض في “الإسلام” ومجتمعاته، بحثًا ونقدًا وتوظيفًا ــ وهذا هو مضمون الاستشراق غالبًا.

المسألة الإسلاميّة في المدرَك الغربيّ المعاصر

على حساب الفكرة الإسلاميّة، أخذت العروبةُ بالظهور والتوسّع ابتداءً من نهايات القرن التاسع عشر. وإذ كانت “العروبة الأولى” الوارثة للعثمانيّة ذاتَ مضمون استقلاليّ دستوريّ، ليبراليّ إلى حدّ ما، فإنّ الكفاحيّة ضدّ الغرب المستعمِر غدت هي النزعةَ الغالبةَ على “العروبة الثانية” مع بداية ثلاثينيّات القرن المنصرم، لتبلغ ذروتها بعد الحرب العالميّة الثانية على يد حزب البعث وجمال عبد الناصر.

مشكلة الغرب مع هذه العروبة الأخيرة هي في عدائيّتها له وقابليّتها للانحراف صوب الحضن السوفييتيّ، العدوِّ الأساس آنذاك. فعلى رغم إعلان العروبة عدمَ انحيازها، فإنها كانت ميّالةً، على صعيد الشعارات والعلاقات والأهواء، إلى أهل الاشتراكيّة الشرقيين. وكان التسلّل الشيوعيّ إلى الشرق الأوسط أحد كوابيس الغرب، وكان لا بدّ من وضع حدّ لهذه الكوابيس.

هكذا سيَظهر “الإسلام” الإيديولوجيا المعتمدة في محاصرة الشيوعيّة والقوميّة العربيّة العلمانيّة المعادية للغرب، وهو ما سيجد تعبيرَه الأفصح في مبدإ ترومان: “محاصرة الشيوعيّة بالإسلام.” فوفق هذه الرؤية، سيقف “الإسلام” سدًا عقائديًا وأخلاقيًا وسياسيًا يذود عن مصالح الغرب في وجه أعدائها. وهنا ستكون بداية “الإسلام النفطيّ،” الذي سرعان ما سيتهيكل في مؤسّساتٍ ومثقفين وعقائديين لا همّ لهم سوى النيل من الأفكار “التقدميّة” وأنظمتها. وجديرٌ بالذكر هنا الدورُ الذي سيلعبه الغربُ في مباركة قيام جامعة الدول الإسلاميّة من أجل تحجيم دور جامعة الدول العربيّة (الواقعة تحت هيمنة مصر الناصريّة آنذاك)، وفي دعم “الإسلام الجهاديّ” في أفغانستان لتكبيد السوفييت وأنصارهم خسائرَ فادحةً وإشغالِهم عن التفكير في المضيّ نحو مناطق نفوذٍ جديدةٍ في الشرق الأوسط.

آنذاك لم تكن ثمة مشكلة بين السياسات الغربيّة وبين هذا “الإسلام” بالتحديد. المشكلة ستأتي فيما بعد، على أثر قيام الثورة الإيرانيّة ذات الحساسيّة الشديدة العداء للغرب عمومًا، وللولايات المتحدة وإسرائيل خصوصًا. ولقد كان الشاه شرطيَّ الولايات المتحدة في الخليج العربيّ، والراعي لمصالحها، وكانت خسارته كارثةً إستراتيجيّةً لسياساتها، ولاسيّما أنّ حكام إيران الجدد يهدّدون بتصدير ثورتهم خارج حدود بلادهم، وهذا هو التهديد الأخطر الذي كان على الولايات المتحدة أن تواجهه.

هذه الحالة الجديدة ستعبّر عن نفسها، في ذهن بعض النخب الغربيّة والأمريكيّة بوجه خاصّ، على شكل تنميطاتٍ وصور ذهنيّة عن الإسلام، جاعلةً منه عدوّاً سيحتلّ الواجهة بعد زوال الخطر الأحمر خصوصًا. وهو ما لن يتزحزح إلى حدّ كبير إلا مع قيام الثورات العربيّة مؤخّرًا. وكمثالٍ على بعض هذه التنميطات ان يعتبر برنارد لويس أنّ الإسلام ذاته، لا الأصوليّة الإسلاميّة فقط، في تعارضٍ مع الديمقراطيّة الليبراليّة. وترتفع النبرة عند هنتنغتون الذي يقرّر أنّ لبنان المسيحيّ هو وحده من عاش الديمقراطيّةَ في محيطه العربيّ، وأنّ هذه الديمقراطيّة اللبنانيّة انهارت بعد أن أصبح المسلمون أغلبيّة! وهو ما سينعكس في دعوةٍ صريحةٍ إلى دعم أنظمة الحكم في الشرق الأوسط، وفي عدم إجبارها على تقديم أيّة تنازلات في مجالي الديمقراطيّة وحقوق الإنسان.

الأنظمة العربيّة والعفريت الإسلاميّ والغرب

تهلّلتْ أساريرُ الحكّام العرب بسبب الرُّهاب الغربيّ من الإسلاميين؛ ذلك لأنّ هؤلاء غدوْا البديلَ المرجَّحَ والوحيدَ للأنظمة العربيّة التي أمعنتْ في سحق أيّ حياة سياسيّة واجتماعيّة في بلدانها. ففي مصر، المدلَّلة من قِبل الغرب، بسبب موقعها ودورها الاستراتيجييْن، ولدعمها لعمليّة السلام مع إسرائيل في المنطقة، ارتفعتْ وتيرةُ المجابهة المسلّحة بين الإسلاميّة المجاهدة ونظامِ مبارك منذ بداية التسعينيّات في القرن المنصرم، وهذا ما سارعت الولاياتُ المتحدة إلى احتوائه عبر دعم مبارك في وجه الإسلاميين. وفي المقابل، لن يوفّر الحكّامُ العرب فرصةً لتذكير الغرب، تصريحًا أو تلميحًا، بأنّهم حلفاؤه في الحرب على “الإرهاب الإسلاميّ.” فبعد حادثة تفجير مركز التجارة العالميّ عام 1993، سارع مبارك إلى تذكير الأمريكيين بتحذيراته من شبكة “أصوليّة إسلاميّة” في الولايات المتحدة، ليدعوها إلى التصدّي لهذه الجماعات وداعميها، كإيران والسودان وإسلاميي أفغانستان. ولا زالت اللعبة مستمرّةً حتى الآن، ولن يكون آخرَ فصولها صراخُ القذّافي وهو يهدّد العالم بأن البديل الأكيد منه لن يكون سوى تنظيم القاعدة، وهو ما سينعكس على أمن إسرائيل نفسها!

“وداعا” ابن لادن

إلى أيّ حدّ كان وهمُنا حول تنظيم القاعدة كبيرًا؟ مشروعيّة هذا السؤال تجد نفسها في وقائع كثيرة، لعلّ أوّلها وأهمّها: أنّ هذا التنظيم، المدجَّج بالتنظيم والإعلام والمال والإيديولوجيا والأنصار، عجز عبر تاريخه المناهض للغرب وللأنظمة العربيّة عن تحقيق أيّ هدف من أهدافه، بل عجز يضًاأعن خلق “إجماع” عند العرب على أهدافه ووسائله كذلك. وفي المقابل، استطاعت حالةٌ فرديّة، هي حادثة “انتحار” الشاب التونسيّ محمد البوعزيزي، أن تكون الشرارةَ التي أشعلت الثورة في غير بلد عربيّ. ترى، كيف كانت ردّةُ فعل الشعوب العربيّة ستكون إزاء خبرٍ عن انتحاريّ من تنظيم القاعدة فجّر نفسَه في أيّ مكان، ولو كان مركزًا للأمن؟ أليس ذا دلالةٍ إصرارُ اليمنيين على ثورتهم السلميّة رغم توافر الأسلحة بين أيديهم؟ لقد استطاعت هذه الثورةُ السلميّة أن تهزّ أركانَ نظام علي عبد الله صالح، فما الذي فعلته “القاعدة” على هذا الصعيد؟ تقوية ذلك النظام! إذ جرّته إلى الميدان الذي يَبْرع فيه، مع أشقائه الحكّام العرب، وهو استخدامُ العسكر في المعارك الداخليّة؛ كما ضمِنتْ له تعاطفَ الغرب وكلِّ مَن يحرص من العرب على أن لا تُجاورَه “القاعدة” كنظام حكم!

الدرس الأول الذي لقّنتْه الثوراتُ العربيّةُ للغرب ولبعض النّخب المتعلمنة أنّ الأنظمة المستبدّة هي الجاذب الأكبر للقاعدة ولأشباهها. أليست هي صاحبة الثنائيّة الشهيرة: “إما نحن وإما الإرهاب المتأسلم”؟!

لقد كان العنف نقطةَ ارتكازٍ أساسيّةً لكلّ المعايير الإيديولوجيّة والحركيّة التي تنطلق منها القاعدة في تعاملها مع الواقع. واستندتْ في تدعيم هذه النقطة إلى معطياتٍ حسيّةٍ تحيل على الاستبداد العنيف الذي تمارسه الأنظمةُ ضدّ شعوبها، وعلى واقع معيشةٍ بائسٍ ترزح تحته هذه الشعوبُ، وعلى فشل الأنظمة بعد عقودٍ من تسلّطها في تحقيق أيّ مكسب على صعيد فلسطين أو غيرها من القضايا القوميّة والوطنيّة العالقة التي كانت إحدى أهمّ الشمّاعات التي برّرت هذه السلطاتُ من خلالها وجودَها. وإضافةً إلى ما سبق، فإنه مما لاشك فيه أن القاعدة استندت إلى خلوّ تاريخ العرب المعاصر من كلّ ما يشير إلى إمكانيّة تغيير الواقع أو أنظمة الحكم بالطرق السلميّة؛ فلقد كان العنف هو سبيل ذلك “التغيير” غالبًا، والحاكم لا يغادر كرسيّه إلا بانقلاب (أو عندما يأخذ الله أمانته). وبكلمة أخرى، فقد استمدّ تنظيم القاعدة أحد أهمّ مبرّرات وجوده من حالة الإحباط وانسداد الأفق التي وصل إليها الإنسانُ المحكومُ بأنظمة العسف.

ما فعلته الثوراتُ العربيّة السلميّة هو أنّها استطاعت أن تنجز في أيّام ما عجز عنه فعلُ “القاعدة” العنيف في عقود. بل إنّ القوى الإسلاميّة نفسها التحقتْ بشباب تلك الثورات وبمطالبهم التي لا تتعلّق بإقامة دولة الخلافة أو تطبيق الشريعة الإسلاميّة، بل بالكرامة والديمقراطيّة والدولة المدنيّة ومحاربة الفساد، مع أنّ بعض هذه المطالب (كالثاني والثالث) من الرذائل المستوجبة للتكفير في تنظيم القاعدة (راجعوا الرسالة التي أطلقها أيمن الظواهري، وفيها تأسّف على قبول “بعض الإسلاميين” بهذه المفاهيم الكافرة، في إشارة إلى الإخوان المسلمين في مصر غالبًا). ومن هنا ليس غريبًا أن نرى في مستقبل ليس ببعيدٍ تحوّلَ الحمولة التنظيريّة التكفيريّة في تنظيم القاعدة باتجاه تكفير الدولة الوليدة عن الثورات، وسجالاً عنيفًا مع إسلاميّي هذه الدولة الناشئة.

مناخُ الإحباط، كأن تكون النتائجُ على الأرض في مصر الثورة مثلاً مخيِّبةً للآمال، قد يجعل للقاعدة مَن يصغي لخطابها من جديد. وحالاتُ الفوضى، كما قد يحصل في ليبيا واليمن في ظلّ تعنّت القذّافي وصالح وعدم رضوخهما لمطالب شعبيْهما بل دفعهما الأمورَ إلى حدّ الانفجار الأهليّ (حصل في ليبيا)، قد تمهّد أمام القاعدة موطئَ قدم في صناعة الأحداث ورسم مصير تلك البلدان. ولربّما كان أكثرَ ما يتمنّاه صالح الآن هو دخولُ القاعدة إلى خطّ المواجهة، وضربُها أهدافًا أمريكيّة أو غربيّة، بما قد يعني إعادةَ خلط الأوراق وضمانَ الدعم الغربيّ أو صمتِه إزاء قمع التظاهرات بالقوة العارية.

هل الإسلام السياسيّ برمّته هو القاعدة؟

من الظلم الإجابة بنعم؛ فمروحة القوى والتجارب الإسلامانيّة تتراوح ما بين التجربة التركيّة لحزب العدالة والتنمية وصولاً إلى تنظيم القاعدة مرورًا بالإخوان المسلمين وحركة النهضة التونسيّة وغيرهما. إنّ هذه الـ ” نعم،” القاسية والخائفة والمجافية لواقع الحال، هي ما تحرَّرَ منها بعضُ “الغرب” وبعضُ علمانيينا بفضل الثورات العربيّة. لكنْ بقي آخرون من أهل العلمانيّة يعيشون رُهاب قيام أفغانستان جديدة، ولو كانت الإسلاميّة التي تواجههم هي من عيار حركة النهضة التونسيّة مثلاً! وقد لا يكون بعضُ هذا الهوى الأخير بريئًا، بل محاولة لبناء شرعيّةٍ علمانيّةٍ تحتكر فهمَ المجتمع ومناحي الدولة، وبشكل يتقاطع مع فهم مَنْ خلعتْهم هذه الثوراتُ.

ليس واضحًا حتى الآن إلى مَن ستؤول أمورُ الحكم في كلّ من تونس ومصر. إلا أنّه من الواضح غالبًا أنّ طموحًا يسعى إلى شكلٍ مؤبّدٍ للحكم، وإلى إعادة القبض على المجتمعات وتهيئتها وفق منظور إيديولوجيّ أحاديّ الوجهة، قد سقط وولّى إلى غير رجعة… بغض النظر إنْ كان الإسلاميون في السلطة أو سواهم.

من الواضحّ أنّ الإسلاميين هم الأكثر تنظيمًا وشعبيّةً من قوى يساريّة وليبراليّة موجودة في الحالتين المصريّة والتونسيّة وغيرهما ــ وهذا يعني أنّ احتمال وصول الإسلاميين إلى السلطة أكثر ترجيحًا. ولكنه سيكون وصولاً مقيّدًا بمدى قدرتهم على تلبية مطالب الناس والتصدّي بنجاعةٍ لمقتضيات المرحلة الجديدة. كما أنّ واقع ما بعد الثورات سيكون امتحانًا لأهل اليسار والليبراليّة وفرصةً لتطوير فرصهم وحضورهم في مجتمعاتهم؛ فزمنُ الاستبداد قد ولّى، ولا عذر لأحد بعد الآن.

خاتمة

في عام 2003 تمّت الإطاحةُ بنظام صدّام حسين في العراق. ساد بعدها مزاجٌ لدى بعض السياسيين والناشطين يَحْصر إمكانيّةَ التغيير في تدخّل خارجيّ على شكل غزو أو غيره. الأساس الذي يكمن وراء هذا المزاج هو حالةُ اليأس المطلق لدى هؤلاء من قدرة هذه الشعوب وقواها السياسيّة على إحداث أيّ تغيير يمسّ شكلَ أو مضمون هذه الأنظمة التي أمعنتْ في قهر شعوبها. الآن الوضع تغيّر. والحريّة، والكرامة، والتحرّر من عقدة الخوف والعجز، أمست سمةً تتكرّس في وعي العرب وأحلامهم، شبابًا وشيبًا. وإذا كان التغييرُ الذي حصل في العراق قد جرّ وراءه من الكوارث ما لا يختلف كثيرون عليه، فإنّ التغيير الذي أتت به الثوراتُ العربيّة سيفتح تاريخَ العرب على مستقبلٍ أكثر كرامةً وشجاعة.

دمشق

*كاتب سوريّ.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى