صفحات الثقافة

قيس الهلالي وعلي فرزات والضحك في حضرة السلطان


عباس بيضون

الكاريكاتور فن ولد في مخاض الصراعات السياسية وفنان الكاريكاتور هو شاعر الصراعات السياسية والسياسة مادته وموضوعه، ومهما تكن هذه السياسة فإن فيها ما يستفز ريشته وما يستحق ملاحظته. مهما تكن هذه السياسة فإن فيها المفارقة التي يضع يده عليها والنادرة التي تضحك والطرفة التي تفتح الأعين عليها وتستوجب التعليق. ثم ان الرسم الكاريكاتوري يستتبع أن يكون لكل إنسان، صغر أم كبر، وجه كاريكاتوري وصورة كاريكاتورية، فلكل إذن صورته الكاريكاتورية والبعض يريدها لنفسه كما يريد صورته العادية، وللجميع، الرئيس أو الجنرال أو الوزير، أو النائب أو الموظف الكبير أو الصغير صورهم الكاريكاتورية، إن المبالغة والتضخيم والتصغير هنا أسس فنية ولا يقصد منها، بأي حال، الزراية أو الاستخفاف ولا يقصد منها التسخيف أو التقليل أو الإساءة. فن الكاريكاتور مثل الشانسونيه يعيش من السياسة وعليها، وقد وجدنا بعض السياسيين يرون في اهتمام الكاريكاتور والشانسونيه بهم، بأي شكل، عنصر دعاوة فيحضرون الشانسونات التي تتناولهم ويحتفون بالرسوم التي تصورهم، ففي مناخ ديموقراطي قد يكون هذا من أساليب السياسة ومن أدواتها، وفي مناخ ديموقراطي قد يكون الضحك من الحاكم نوعاً من الترويج ونوعاً من الاستطراف، قد يكون هذا هو الوجه الآخر لتعميم ذكره وتعميم صورته. وفي مناخ ديموقراطي قد يضايق الحاكم أن لا يهتم الفن به وأن لا يجد فيه فنانو الكاريكاتور ما يستحق اهتمامهم، وأن يتعفف فنانو الشانسونيه عن ذكره، فمثل هذا يعني انه لا يستحق الذكر، ومثل هذا يعني انه فعلاً مزدرى، وانه فعلاً متروك وبلا أهمية. هذا في المناخ الديموقراطي وهذا للحاكم الديموقراطي، أما في مناخ استبدادي فالأمر يختلف، إن الحاكم في أنظمة كهذه متأله والصلة به شبه دينية فهي لا تخرج عن الحمد والتسبيح والامتنان والشكر. والضحك والسخرية هما كما في اسم الوردة لامبرتو اكو آخر ما يمكن التفكير به، فالضحك كما في اسم الوردة نوع من الكفر، والضحك كذلك استخفاف وتجديف. والضحك في حضرة الحاكم كما هو في حضرة المقدس باطل إنساني وكبرياء غير محمودة وهرطقة مرفوضة. فإذا أضفنا إلى الاستبداد العلاقات القبلية والإقطاعية، وإذا أضفنا إلى الاستبداد التخلف الذي لحق بالحداثة بقدر من التململ والمؤاخذة والتذمر، بدا لنا أن الوجاهة والمقام لا يتحملان هذه الدرجة من التجرؤ والوقاحة والتطاول، وبدا لنا ان الصورة الكاريكاتورية لن تكون عندئذ سوى قلة احترام وتهوين من شأن الحاكم أو الشيخ أو العميد، وفهمنا عندئذ كيف تنتشر الصور الطبيعية المتقنة للرئيس أو القائد كما تنتشر التماثيل والأنصاب في حين لا محل للكاريكاتور أو الشانسونيه. هنا نفهم أيضاً كيف يتحول رسام الكاريكاتور عدواً، فهو الوحيد الذي يذكر اسم الحاكم بلا التجله اللازمة والديباجة اللازمة التي ينبغي أن تسبق اسمه وبدون آيات الحمد والتقديس الواجبة لذكره. من هنا نفهم لماذا قتل الفنان الليبي قيس الهلالي ولماذا ضرب علي فرزات وكسرت أصابعه. في الصور القليلة المتبقية من قيس الهلالي نرى أن القذافي الولوع بدرجة غير عادية بالصور والذي كان لفرط ولعه بتبديلها وتنويعها يكاد أن يصير ممثلاً، فهو تارة الشيخ وتارة الإمبراطور وتارة الجنرال. هذا القذافي لم يطق هو أو أنصاره صورة أخرى إضافية. صورة قيس الهلالي للقذافي يمكن ان تضاف إلى خزانة صوره فهي أقرب إلى البورتريه منها إلى الكاريكاتور وهي لا تحمل ملامح من القسوة والذهول أكثر مما تحمل بعض بورتريهات القذافي. لكنها كاريكاتور ورسمت بدون آيات التبجيل والحمد ما يستحق صاحبها عليها وعلى غيرها الموت. اللعب بصورة الحاكم أشبه باللعب بجسده، وجسد القذافي ليس أكثر من صورة. الضحك من صورة القذافي كفر والقتل وحده يغسله. القذافي المولع بتقديم جسده والذي لا يفرق بين زيه ومقامه، الذي أوكل لعمليات التجميل ان تحفظ شبابه، سيغضب كثيراً من هذا الذي يهزأ من شكله وسيعاقبه. افتتحت «الدومري» عهد الصحافة الحرة الذي لم يدم ولم يعش طويلاً. كانت بشارة بشيء لم يتحقق. لم تكن الدومري وقحة ولا كثيرة التجرؤ وبالطبع لم تكن انقلابية. لقد فرقعت بالضحك الذي كان ممنوعاً في حضرة الحكم من قبل والذي استمر ممنوعاً بعده. لقد تكلمت بلغة طبيعية فيما كان المطلوب لغة أخرى، لغة التسبيح والحمد وديباجات التمجيد وآيات التعظيم. أوقفت «الدومري» وماذا فعل علي فرزات. لقد انسحب الرجل الذي قال في حديث نشر في «السفير» انه لا يؤمن بالسياسة بل بالشعب، انسحب واكتفى بموقع على الانترنيت ينشر فيه صوره. موقع على الانترنيت ليس سوى صحيفة شخصية يقصدها من يريدها ولا تحدث أي ضجة ولا تعقب شيئاً، صحيفة شخصية في بلد يتظاهر فيه الناس كل يوم ويكشف فيه المعارضون عن وجوههم ويرى منه العالم صور التظاهرات وشعاراتها الجريئة للغاية. كل هذا ليس بإرادة السلطة لكنه يحدث، وكونه يحدث فهو سقف التحرك وأمام سقف كهذا ماذا تفعل صحيفة شخصية، ماذا يفعل موقع انترنيتي، ماذا تفعل صور لا ينشرها أحد ولا تنقلها الصحف ولا تذاع بين الناس. ماذا تفعل تعليقات ليست شيئاً أمام الشعارات التي يرفعها المتظاهرون والتي لا يمنعهم الرصاص عن الهتاف بها. ليس هذا بإرادة السلطة بالطبع لكنه يحدث، وكونه يحدث يجب ما قبله. لكن علي فرزات يضحك من السلطة. علي فرزات يسخر، وليس شيء كالسخرية يمكن أن يحطّم الخوف، أكثر الشعارات جرأة لا يمنع الخوف والخوف من السلطة بالنسبة للحاكم درجة أخرى من الاحترام، أما الضحك، الضحك البسيط والطبيعي فهو أخطر، انه لا يوقر السلطة ولا يرتجف أمامها. يفرقع في وجودها، يندلع في حضورها، يلعب ويمرح رغماً عنها. إنها لا ترعبه. لا تخرجه عن طوره. أن يكون الرسام رغماً عن السوط والرصاص قادراً على أن يبقى نفسه. أن يكون رغم الخوف قادراً على أن يغني وأن يسخر ويمرح، ليس أكثر من هذا تجرؤاً وليس أكثر من هذا دعوة إلى العصيان. انه يتصرف وكأن السلطة لم توجد وكأن السوط والرصاص غير موجودين، ليس أكثر من اللعب بصورة الحاكم دليلاً على انه لا يخيف، ليس أكثر من صورة كاريكاتورية له دليلاً على أن السلطة غير مرهوبة، كما في اسم الوردة الضحك كفر وتجديف، تطاول وقلة تهيب، كما في اسم الوردة الضحك يستحق العقاب، ان لم يكن الموت فأقله كسر الأصابع.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى