صفحات العالم

كابوس المشرق العربي

 

حازم صاغية

تركت الثورة والأزمة السوريّتان، وتتركان، تأثيرات عميقة على جميع الدول المجاورة لسوريّا، بما فيها الدول غير العربيّة منها. وهذا التأثير إنما يتعدّى، في معظم الحالات، الترتيبات العسكريّة والاستراتيجيّة للحكومات ليصل إلى عمق التراكيب الداخليّة للمجتمعات نفسها. ففي تركيا، لم يعد سرّاً أنّ الأقليّة العلويّة ليست على انسجام مع النهج الذي تنتهجه حكومة حزب العدالة والتنمية حيال الموضوع السوريّ. ويمكن قول الشيء نفسه عن الأقليّة الكرديّة في تركيا، اللهمّ إلا إذا استُكملت العمليّة التسوويّة الجارية بين حكومة أردوغان وحزب العمّال الكردستانيّ، وتكللت بالنجاح، كما انعكست على المواقف الخارجيّة. فإذا أضفنا اعتراضات أخرى على سياسة أردوغان في بيئات يساريّة وعلمانيّة متشدّدة، كما في دوائر عسكريّة مشبعة بالوعي الأتاتوركيّ، فهمنا واحداً من الضوابط التي حدّت وتحدّ من المبادرات الرسميّة التركيّة.

وغنيّ عن القول إنّ إيران، وإن لم تكن على جوار جغرافيّ مباشر مع سوريا، باتت تربط استقرار نظامها السياسيّ بمستقبل نظام الأسد في دمشق، فيما يميل أغلب المحللين إلى ربط المآلات السوريّة المحتملة بما يمكن أن يجدّ على جبهة “الملفّ النوويّ” الإيرانيّ، والعكس بالعكس. وهذا جميعاً ما يفسّر درجة التورّط الذي يمارسه النظام الخمينيّ في الشأن السوريّ. وبدورهم، لا يتكتم السياسيّون الإسرائيليّون، ومعهم رهط من المحللين الاستراتيجيّين، على أهميّة ما يجري في شمالهم الشرقيّ وانعكاسه على أمن الدولة العبريّة وعلى موقعها المستقبليّ في منطقة الشرق الأوسط. وعلى امتداد العامين الماضيين كانت قد تكاثرت التحليلات والتسريبات الصحفيّة حول “النصائح” الإسرائيليّة للولايات المتحدة بعدم التدخل في أمر سوريا ما دام الأمر دون سقف السلاح الكيماويّ ووصوله إلى أطراف راديكاليّة مثل “القاعدة” و”حزب الله”.

أمّا الأردن، فلا يزال محاولاً التوفيق بين اعتبارات داخليّة وأهليّة شتى، فضلاً عن العوامل والاعتبارات الإقليميّة والدوليّة والاقتصاديّة التي تستشعر عمّان حدّتها وخطورتها. وهذا كله بات مضبوطاً بدقة على إيقاع وجود الإسلاميّين هناك.

ولقد قيل مراراً، وبحقّ، إنّ الرقعة العريضة للتأثر بالحدث السوريّ ناجمة عن أهمية سوريا الاستراتيجيّة والسياسية، فكيف حين نضيف طبيعة النظام الأسديّ منذ 1970، الذي أزاح كل الحدود بين الداخل والخارج مقيماً سياسته على “الأوراق” التي تتيح له المقايضة مع سائر البلدان، المجاورة وغير المجاورة، في المنطقة.

ومع هذا يبقى العراق ولبنان شيئاً آخر، بمعنى أنّ النزاع السوري يتحول إلى المكوّن الأهم والأكثر أساسية في سياستهما وفي اجتماعهما، أو بالأحرى في احتمالات انفراط هذا الاجتماع. وتشي بذلك أحداث وحالات متفرقة كإصرار النظام السوري على إبقاء حدوده مع هذين البلدين مفتوحة من أجل حصوله على ما يحتاجه من سلع وإمدادات، وربما مقاتلين، أو محاولة الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة، حليف دمشق الراسخ، نقل متفجرات إلى لبنان بالترتيب مع أجهزة أمنية سوريّة، أو التصريح الأخير للمالكي بأنّ زوال نظام الأسد سوف يدرج المنطقة برمتها في أتون حرب طائفية ومذهبية. وهذا كي لا نشير إلى التقارير المتزايدة عن ضلوع عناصر من “حزب الله” اللبناني ومن أطراف شيعية عراقية في القتال الدائر بين السلطة والمعارضة في سوريا.

وتلك الأمثلة، وهناك عشرات غيرها، تنمّ عن مدى التصدّع الذي يعانيه كل من لبنان والعراق في نسيجهما الوطني، وعن مدى الضآلة في الإجماعات التي تربط العراقيين واللبنانيين. والحال أن الثورة والأزمة السوريتين جاءتا تكشفان عن هذا التصدّع السابق عليهما، إلا أنهما أيضاً جاءتا تزوّدانه بأدوات تفجير نوعية وغير مسبوقة.

فالعراقيون، منذ أطاحت الولايات المتحدة نظام صدّام في 2003، يكشفون عن عجزهم المتواصل عن بناء صيغة سياسية مستقرة. وإلى عوامل عدة في عدادها موضوع كردستان العراق وعلاقته بالمركز البغدادي، يبقى التنازع السنّي- الشيعيّ أبرز معوقات التوصل إلى تلك الصيغة العتيدة. فقد قرئ التحول الذي حصل في 2003 بوصفه انتقالاً للسلطة من السنة، وهم قاعدة السلطة تقليديّاً في العراق الحديث، إلى الشيعة. وكلنا يذكر أعمال العنف والإرهاب التي انفجرت في 2006 وحولت الموت والقتل إلى سلعة التبادل الأساسية بين الطائفتين الكبريين. ومؤخراً، ومع التزامن بين الثورة السورية والانتفاضة التي انطلقت من الأنبار في العراق، غدت الحدود واهية جداً بين العنفين السوري والعراقي، بحيث جاء مقتل عدد من الجنود السوريين داخل العراق إشارة بليغة إلى هذا الواقع المستجد. وهذا التوتر المتصاعد إنما يرفده تعاظم النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين، مصحوباً بسياسة تكاد تكون منهجية في محاصرة واستبعاد الرموز السُّنية واحداً بعد الآخر.

أما في لبنان، فمنذ اغتيال الحريري في 2005، والعلاقات السنية- الشيعيّة تتردّى من سيّئ إلى أسوأ. يكفي التذكير بأنّ “حزب الله”، وفيما كان قطاع عريض من اللبنانيين يتهم النظام السوري بقتل الحريري، دعا إلى تظاهرة كبرى عنوانها “الوفاء لسوريا”. وحين اتهم أربعة من عناصر الحزب بدور ما في مصرع الحريري، رفض تسليمهم كما رفض كل ما يصدر عن المحكمة الدولية. وهذا وسواه محكومان بالتمييز الذي يضمنه لـ”حزب الله” احتفاظه بسلاح أقوى بلا قياس من سلاح الدولة اللبنانية نفسها.

وغني عن القول، إن قطاعات سنية عريضة في العراق كما في لبنان باتت ترى في الثورة السورية عنصر إنجاد في مواجهة نظامين تصفهما بالانحياز للشيعة. وفي المقابل، فإن قطاعات شيعية عريضة في البلدين ترى في تلك الثورة ما يشبه الانتقام السني الذي يتهدد الشيعة بإخضاع لا يحول دونه إلا نظام الأسد وتحالفه مع إيران.

والخوف كلّ الخوف هو أن يزول ما تبقى من حواجز بين أوضاع سوريا وكلّ من العراق ولبنان، بحيث نجدنا أمام نزاع دمويّ مفتوح وعابر للحدود بين السنة والشيعة. وهذا ما سيغدو كابوس المشرق والعالم العربيّين لسنوات قد تكون مديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى