صفحات الثقافة

كاتبات عربيات يتساءلن عن الكتابة الروائية/ إعداد أوس داوود يعقوب

 

 

تحديات كبيرة تبرز اليوم أمام الروائي، قبل أن يشرع في العمل. الاستبداد وأقداره، الظلاميون، الجموع والفرد الممزق، الجهل والتخلف، الآخر، الجدران العرقية والطائفية الصاعدة، التاريخ والمستقبل، والهوية بالطبع.

كيف نكتب وماذا نكتب في الأزمنة العاصفة

هذه شهادات حول الكتابة في زمن الرواية وهي جزء من عمل أوسع قامت به مجلة “الجديد” راصدة الكتابة الرواية في قلب اللحظة العربية الراهنة ومستفتية الروائيين حول فكرة الكتابة في قلب الحدث. هنا آراء من كاتبات عربيات حول ما سمّاه بعضهم بـ”الزمن الروائي المحيّر”. زمن العواصف والخراب. زمن التغيرات الكبيرة التي لا يعرف إن كانت قد حدثت أم لا. ملفّ من نوع مختلف يتناول فناً مختلفاً أكثر العرب من محاولاتهم فيه غير أنه لم يكن ديوانهم يوماً كما كان الشعر.

ليس هذا بغير دلالة. فالرواية هي الحدث. والشعر خارج الحدث. الرواية سياق درامي. والشعر مجرّات من الصور. وطالما كان الواقع متعطلاً درامياً فلا شك أن الرواية ستتعطل عجلاتها. ترتبك وتتلعثم. تبتكر لغتها البدائية، تطوّر فضاءاتها، حكاياها، أمكنتها. لكن يبقى شخوصها أسرى في منطقها وفيزيائها. وهو ما يفرضه ظرف عريض من الشروط الموضوعية لحركة المجتمعات والثقافة والآداب وانعكاس الأولى عليهما.

تحديات كبيرة تبرز اليوم أمام الروائي، قبل أن يشرع في العمل. الاستبداد وأقداره، الظلاميون، الجموع والفرد الممزق، الجهل والتخلف، الآخر، الجدران العرقية والطائفية الصاعدة، التاريخ والمستقبل، والهوية بالطبع.

وكان لافتا في تلك الشهادات ما تحدث منها عن انتهاء صلاحية الخيال، وعن الكتابة بالوثيقة والريبورتاج.

كلمة “الناس” تكررت، وتكررت معها صيغة السؤال المفتوح حول كل المسلّمات التي بنيت عليها قواعد اللعبة الروائية. احتشدت مشاريع الكتابة الروائية في مختبر “الجديد” حتى أنها تتحول في بعض الوقت إلى رواية أو مقاطع منها على الأقل، بسبب أصالة التساؤلات والبحث الجاد والملحّ من أصحابها، بما يؤكد صوابية الملف وضرورته في هذا الوقت بالذات. فالرواية العربية كما الخرائط العربية، كلاهما في حيرة.

زمن كتابة الرواية/ ليلى الأطرش

ربما كانت الكتابة عن إفرازات هذا المخاض في فنون بصرية وسمعية وأدائية أسهل بكثير من كتابة رواية تتميز بعمق الرؤية أو استشراف المستقبل.

المخاض الخريفي الدّموي في عالمنا العربي

لا يستطيع أحد أن يفرض على الرّوائيّ ما يكتب إن لم يتفاعل مع ما يجري، والمشكلة في كتابة رواية عن المخاض السّياسي والصراع الدّيني والفكري والاجتماعي في سنوات ما أطلق عليه “الربيع العربي” هي ضبابية الفهم، وتلاحق الأحداث وعنف التطرف الراهن الذي تجاوز كل تصوّر، وإن كان له شبيه في التاريخ العربي والعالمي حين تسيّد الفكر الدّيني وانتزع السلطة، فتشابهت جرائمه، صكوك الغفران في قرون الظلام الأوروبي والحرق والإبادة لا تختلف عن ممارسات “داعش” وأخواتها.

كما أن تلاحق الأحداث واختلاط المعطيات تحيّر السّياسي ومحرر الأخبار فأصبح مجرد متابع ينقل ما يحدث دون تحليل حقيقي أو فهم للمستقبل، فكيف يمكن للروائي أن يكتب بعمق عن جنون التطرف والاستبداد والظلم وهو ما زال يعيش التجربة.. حين تصوّر وجهًا أو منظرًا تحتاج أن تبتعد مسافة عنه لتنقل تفاصيله جميعًا، ولهذا ما كتب من روايات عن المخاض الخريفي الدّموي في عالمنا العربي، العراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن تميّز بنقل صورة مصغرة لهذا الانهيار الفكري والمجتمعي والسّياسي.

وربما كانت الكتابة عن إفرازات هذا المخاض في فنون بصرية وسمعية وأدائية أسهل بكثير من كتابة رواية تتميز بعمق الرؤية أو استشراف المستقبل.

هناك عدد من الروايات العربية التي رصدت التحولات الفكرية والمذهبية والاجتماعية التي استشرفت الإرهاب القادم، ونبّهت إلى خطر التطرف الدّيني تحديدًا، ومنها روايتي “مرافئ الوهم” الصادرة عن دار الآداب، ثم “أوغاريت” (عام 2005)، ثم “رغبات ذاك الخريف” عن الدار العربية للعلوم ووزارة الثقافة الأردنية (عام 2010).

وهناك روايات كتبت عن المخاض العسير الذي تمرّ به منطقتنا العربية، لكن عنصر التسجيل الواقعي طغى على الحبكة الرّوائيّة.. قد يستطيع الشاعر أن يرصد الحدث المتسارع في قصيدة، أما الرّواية فلا بد للكاتب من الإلمام بمجمل الصورة ليكتب فنًا روائيًا لا تاريخًا ينقل الواقع، فهذا مهمة المؤرخ.

لكن أفضل الروايات العالمية التي كتبت عن الاضطرابات والحروب في بقاع العالم لم تكتب أثناء الحرب، بل بعدها بمدة، لأن الرّوائيّ/الرّوائيّة، يحتاج وقتًا ليفهم ويلمّ بالصورة الكاملة، التي يبدو أنها لغرابتها وتشابك أحداثها وأطرافها الإقليمية والدولية تغيب حتى عن السّياسيين وأصحاب القرار.. والبعد قليلًا عن الحدث يخلّص الرّوائيّ من التحيز لمشاعره تجاه ما يحدث. الروايات الفارقة في الفن الرّوائيّ العالمي مثل “الحرب والسلام”، و”دكتور زيفاجو”، و”لمن تقرع الأجراس″، كلها لم تكتب في خضمّ الأحداث، لهذا طغى فنها الرّوائيّ على إغواء التاريخ ومحاولات رصده.

وفي ظروف الفتن والصراعات وضبابية الرؤية تظهر روايات تستقرئ التاريخ، الذي يحيل أو يمكن إسقاطه على الراهن، لتتشابه الفتنة الكبرى التي نعيشها، مع كثير من الفتن الدّينية والسّياسية، عن صراع الطوائف واحتكار الحق، واضطهاد الأقليات والتهجير والنخاسة وسبي النساء وتغييب العقل، فيلجأ الكاتب أحيانًا إلى إسقاط التاريخ على الراهن متجاوزًا الرقابة الذاتية والخوف من فكر متشدد قد يلاحقه.

كاتبة من الأردن

الخروج من الرماد/ منصورة عزالدين

الكتابة الحقيقية لا يمكنها الانفصال عن الواقع والهرب منه، فحتى في أقصى درجات قطيعتها معه، نجدها تفكّكه وتعيد تركيبه مجددًا بغية القبض على جوهره.

وليدة أهوال المنطقة

ما لنا والقصص؟ لنتركها للكُتَّاب المشغولين بالحكايات ذات المغزى، ولننغمس نحن في ألعاب تعيننا على تمضية الوقت أو تجاهل قبضته الغليظة على أعناقنا”.

بهذا المفتتح تبدأ الرّواية التي أكتبها حاليًا؛ بتمجيد اللعب وقطيعة مشتهاة مع القصص والحكايات ذات المغزى. هل يضمر المفتتح أيضًا قطيعة مع الواقع السّياسي والاجتماعي؟

ما أعرفه أن ما بدأ لاهيًا هادفًا للانغماس في ألعاب فنية وجمالية بحتة، صار مسكونًا بالجحيم الأرضي، الذي يحاصرنا، كلّما توغلت في الكتابة، ليس بطريقة مباشرة أو حتى واضحة. فالرّواية لا تقترب من الأهوال الجارية حولنا، لكن المذبحة مضمرة بين سطورها، والقسوة والغرق وهشاشة الوجود مفردات مفتاحية فيها.

أسئلة وانشغالات روايتي السابقة “جبل الزمرد” كانت – هي الأخرى – وليدة أهوال المنطقة من دون أن تتناولها بشكل مباشر. كانت كتابتها تميمتي ضد النسيان والتحريف، ومحاولتي المرتبكة للإيمان بإمكانية البعث من رماد الاحتراق.

أجازف بالقول إنه من المستحيل إدارة الظهر للواقع، مهما خُيِّل لنا أن ما نكتبه مغرق في الخيال والفانتازيا. فالكتابة الحقيقية لا يمكنها الانفصال عن الواقع والهرب منه، فحتى في أقصى درجات قطيعتها معه، نجدها تفكّكه وتعيد تركيبه مجددًا بغية القبض على جوهره، نجدها تقدم مجازًا للعالم لا صورة فوتوغرافية جلّ طموحها أن تكون نسخة باهتة منه، مجازًا للمذبحة لا مجرد رصد لها.

منذ 2011 وأنا غارقة بين مئات الصور والمشاهد القاتمة، مختنقة بالركام والأنقاض وغبار الهدم، ومسكونة بمدن تتحول إلى قبور لأهلها، وجغرافيا مفخخة أقرب للورطات منها للأوطان.

أسأل نفسي عن معنى الكتابة الإبداعية وسط كل هذا القتل، بل عن جدوى الكتابة طالما تعجز عن إنقاذ حياة إنسان. أراني أترنح بين الكفر التام بها والإيمان بقوتها وقدرتها على مواجهة العدم.

لا أزعم أنني توصلت إلى أجوبة أرتاح إليها؛ لا تزال الحيرة والتساؤلات والارتباكات هي المسيطرة، ليست حيرة بشأن موقفي الإنساني والشخصي بطبيعة الحال، ما يحيّرني هو الفن: أسئلته ومتطلباته وحساسيته تجاه المباشرة والضجيج.

أعرف، بشكل غامض، أني سوف أكتب، يومًا ما، عمّا يحدث الآن. ربما عندما أجد حلولًا فنية لأسئلتي المؤرّقة. أصبِّر نفسي بأن أهم الكتابات التي كُتِبت عن التحولات التاريخية، والأهوال المرعبة، احتاجت وقتًا كي تنضج، بل وأحيانًا كتبها من لم يعايشوها. أتكلم هنا عن الفن لا الوثيقة أو الشهادة أو محاولات الرصد. أقصد هنا الكتابة بصوت الضحايا وعنهم، لا المتاجرة بأوجاعهم والتسلق على عظامهم من أجل مجد أدبيّ متوهم.

أسأل نفسي في النهاية: هل من الترف الانشغال بالشرط الجمالي في زمن المذبحة وأنهار الدّم؟!

وأجيب كمن يفكّر بصوت عالٍ: ربما، لكن ما سبق وتعلمناه، من تجارب من سبقونا، أن الرداءة الفنية لن تضيف جديدًا، وأن البروباغندا ستظل بروباغندا حتى لو سُخِّرت لصالح قضية عادلة.

كاتبة من مصر

كتب لن تعد ولن تحصى/ مايا الحاج

الموت الأشبه بكابوس طويل، سيأتي يوم نقرأ فيه عن مأساة ‘العربي’ في كتب لن تُعدّ ولن تُحصى.

صرخة ضدّ الظلم

الكتابة فعل مزاجي، تختلف دوافعه وأسبابه وظروفه بين الكتّاب باختلاف أمزجتهم. ومن هنا يصعب الجزم في سجالات تدور أصلًا على أشياء متقلبة وغير ثابتة. هل الكتابة ممكنة في لحظات الدّم؟ الجواب نعم ولا.

فالكتّاب -أو الفنانون عامةً- لا يتفاعلون جميعًا بالأسلوب عينه أمام الموقف نفسه. لذا نجد أنّ بعضهم يُستفزّ أمام العنف المحيط به، فيلجأ إلى الكتابة على اعتبار أنها انفعال لغوي، أو صرخة ضدّ الظلم، وأحيانًا صرخة ضدّ الصمت.

وثمّة من يجد في الكتابة وسيلة تعبير ووجود ينتقم عبرها لضحايا “مساكين” سالت دماؤهم عبثًا من غير أن يسمح لهم أحد بأن ينطقوا، ولو بكلمة واحدة. وبعض الكتّاب يرى في الكتابة فعلا حميميا يهرب إليه من ضغط اللحظة الدّموية الراهنة وقسوتها. فتكون الكتابة عندها مرادفًا للهرب من الخوف أو لنقُل من الموت، تمامًا كما يهرب الناس العاديون القابعون تحت أزيز الرصاص ودويّ المدافع إلى الجنس، بحيث تزداد نسبة المواليد في الحروب، كأنّهم بذلك يستخدمون لغة الحياة بدلًا من لغة الموت.

أمّا النوع الآخر من الكتّاب فيصير عاجزًا عن الكتابة أمام كلّ مشاهد الموت والدّم من حوله. ومنهم من يتجه نحو البحث عن جدوى الكتابة، في زمن تفقد فيها الأشياء معانيها.

الإنسان نفسه يفقد قيمته، ومعنى وجوده، فيقضي رخيصًا، وأحيانًا رقمًا مجرّدًا من اسمه وكيانه وهويته. وفي كلتا الحالتين، يواصل الكتّاب، كلّ الكتّاب، إبداعاتهم بعد انقضاء اللحظة الدامية (الحرب) وانجلاء الصورة، فتصير أزمة الأمس محركًا فنيًا جوهريًا، بل تُشكّل منعطفًا في المسار الأدبي برمّته.

وليس الدليل على ذلك سوى الحروب الكبرى التي غذّت الأدب العالمي على مدار عقود، وما زالت. وعلى أمل أن يتخلّص عالمنا العربي من كلّ هذا الخراب والموت الأشبه بكابوس طويل، سيأتي يوم نقرأ فيه عن مأساة “العربي” في كتب لن تُعدّ ولن تُحصى.

كاتبة من لبنان

نسف القاعدة الثابتة/ ديمة جمعة السمان

الأديب يتوقّف عن الكتابة فترة من الزمن حتى تختمر الفكرة وتصل حد النّضج ليقدم لقرائه نصوصًا شهية، وإلّا فلماذا يكتب، ولمن يكتب.

مادة زخمة

عندما تَستبدل لون حبر دواتك بلون الدّم مُكرها يغصّ القلم. هي جلطة، أو ذبحة قلميّة تعيق تحرير كلمات تتعارض ومبادئ الإنسانيّة. ما أصعبها على الأديب! يغصّ قلمه، ويغصّ هو بدمعه، يتوحّدان سويّا في كتلة من المشاعر والأحاسيس تتمرّد على زمنٍ استباح الإنسانيّة.

عمّاذا يكتب الرّوائيّ في زمن الدّم؟ هل يكتب عن طفل بعمر الزهور يقتل بدم بارد، عن أمّ شهيد تزغرد أمام جمهرة من الناس، وتنهار عندما تعود إلى غرفة فقيدها ترمي بنفسها على سريره، تضمّ وسادته، تشتمّ رائحته، تنتعش ذكرياتها معه، تغيب عن الدّنيا في إغماءة قد تطول أو تقصر بعد أن تطلق صرخة تدمي القلوب؟ عن أب شهيد يقف أمام الكاميرات قويّا يتحدّث عن مشاعره بالفخر بإباء وكبرياء، إلى أن تختفي الكاميرات فيغلبه الدّمع دون مقاومة تذكر.

عمّاذا يكتب الرّوائيّ في زمن الدّم؟ هل يكتب عن “ربيع” كانت بداياته أكبر من الحلم، صفقنا له، رحّبنا به، استقبلناه بأجمل ضحكة، وإذا بالفصول الأربعة تتداخل مع بعضها البعض، نسمع صوت قهقهتها تستخفّ بسذاجتنا، فلم نعد نميّز بين الرّبيع والخريف. بتنا تائهين ضائعين.

ترى أكان ربيعًا حقًا! إذن، فلماذا وصل الدّم إلى الركب؟ فلا أمن ولا أمان، لا سلم ولا سلام. لم يعد للروح قيمة، فالأرواح تحصد دون اعتبار. ابن آدم يذبح كما تذبح الخراف، النساء يتعرضن لشتّى أنواع التحرش، ليس في خلوة، بل أمام أحفاد “معتصماه”. ولا مجيب لصرخات استغاثتهن، سيحلّ عليهم غضب الجد إلى يوم الدين.

قد يرى البعض أن الكاتب يجد مادة زخمة في ظلّ ما يجري على السّاحة العربية، ناسيًا، أو متناسيًا أننا نتحدّث عن مرحلة لم تنته بعد، لم يهضمها الأديب بعد، ليس هناك ركيزة ثابتة ينطلق منها الحرف. قد يفاجأ بتطوّرات لم تكن بالحسبان. على الأديب أن يكون حذرًا جدًا في نصوصه الأدبية في مرحلة غير مكتملة، المشهد لا زال ضبابيًا، في زواياه تختفي الحقيقة. فكل حرف يخطّه يُحسب له أو عليه. قد يخدمه أو يتسبّب بلعنة عليه تصحبه مدى العمر.

الرّواية فن من أصعب الفنون الأدبية. هي ليست لحظة مأزومة كالقصيدة تستدعيك وتلحّ عليك شئت أم أبيت، فتخرج صرخة مدويّة تحكي لحظتها.

الرّواية “أميرة” الفنون الأدبية، لا تأتي وحدها أبدًا، تنتظر دعوة من الأديب، بعد أن يكون قد مهّد لها الطريق وعبّدها، فيغوص في تفاصيل تفاصيلها.

كانت لي قصة مع المدعو “الربيع العربي”، خدعتني انطلاقته، بث الأمل في روحي، ملأت دواتي بتفاؤل غير مسبوق، لم أستطع أن أقاوم إغراء التطورات التي شهدها وطننا الكبير. فاستحضرت أحداث روايتي “غفرانك قلبي”، وسننت قلمي لأخط البداية، وإذا بالأحداث تركض في غير اتجاه، انحرف المسار، فما كان منّي سوى نسف القاعدة الثابتة التي ارتكزت عليها روايتي واستبدالها بقاعدة متحركة مرنة أمدّ منها خيوط الأحداث من كل لون. فلا زال الطريق طويلًا.

ومع كل هذا يصمد الأديب، فهو يعي تمامًا مدى أهمية دوره. فلا بد من إيجاد سبيل ليمرّر عبره الرّسالة، ولكن عليه التّروّي، وربما التّوقف عن الكتابة فترة من الزمن حتى تختمر الفكرة وتصل حد النّضج ليقدم لقرائه نصوصًا شهية. وإلّا فلماذا يكتب، ولمن يكتب؟!

كاتبة من فلسطين

أعداء جميع الأعداء/ مايا أبو الحيات

من السهل الحصول على التصفيق واللايكات وأوسمة البطولة هذه، بل سيتغاضى عنك العدو قبل الصديق لأنك تلعب معه في الحارة ذاتها.

أن تكون فنانًا في لحظة دم

أعتقد أن لحظة الدّم تحديدًا هي ما تحدّد إن كان الرّوائيّ يكتب فنًا بالفعل أم تأريخًا، إن كان مشغولًا بقلق كوني أم قلق فردي محدد. لم تكن وظيفة الفن يومًا نقل الواقع ولا نقده وتعريته حتى، الفن هو وسيلة الفنان الوحيدة التي يعرفها لفهم العالم، للمساهمة بزيادة حجم التعاطف الإنساني مع وجوده في المخيلة والوعي دون الكثير من الدروس.

إن كنت ناشطًا سياسيًا ستتكلم عن السياسة، إن كنت عالمًا اجتماعيًا ستتكلم عن علاقات الأفراد والسلطة، وإن كنت فنانًا ستنقل كل ذلك لتحلل هم الوجود في هذا الكون، سترى الظالم والمظلوم والجلاد والضحية وستبحث عن الطرق التي يسيرون بها إلى منازلهم ليلًا، وربما إن حالفك الحظ، ستصنع للقارئ واقعًا موازيًا لكل ما يحدث، لتنشله من وحل الدّم الذي يراه ويغوص فيه يوميًا.

لقد أصبحت متأكدة أننا نحتاج لكثير من السخرية لاحتمال كل هذه الفيديوهات التي تتفنن بنقل طرق الموت المجاني الأكثر فظاعة، نحتاج لمواجهة الاستبداد بالضحك، إنها مهمة صعبة بل المهمة الأصعب، من السهل أن تكون بطلًا في العالم العربي ما عليك إلا أن تكتب خطبة جيدة تشعل بها كل الغرائز الوطنية عن التمجيد والتخليد والوطن الذي لا يقدر بثمن، وتقلل من قيمة الإنسان الذي يتم محوه معنويًا مع كل خطاب، من السهل الحصول على التصفيق واللايكات وأوسمة البطولة هذه، بل سيتغاضى عنك العدو قبل الصديق لأنك تلعب معه في الحارة ذاتها، تؤجج الفتن وتزيد من مستوى الدّم، لكن من يحتاج إلى هذا، إنها مهمة صعبة أن تكون مهمشًا وفردًا ولا تتكلم كما تريده الجماعة، المهمة الأصعب أن تكون فنانًا في لحظة دم.

الأعداء لا يخشون بعضهم.

الخوف الفعلي من هؤلاء الأوغاد

من لا أعداء لهم

الذين يمشون في جنازات الأعداء جميعا

مرددين على مسامعنا

” كم هي تافهة وصغيرة وقابلة للتجاوز عداواتكم الكبرى”

هؤلاء هم فعلًا

أعداء جميع الأعداء.

كاتبة من فلسطين

خيانة المثقفين/ هيفاء بيطار

الوسط الثقافي يعاني فسادا كبيرا ربما أكثر من فساد الأوساط الأخرى، وتكفي نظرة بانورامية على المشهد العربي كي نرى كم من العدوات وتبادل التهم.

فساد ثقافي عربي

حاولت أن أستعمل تعبيرا مُلطفا ومُخففا لحقيقة مؤلمة وهي خيانة المثقفين لبعضهم البعض، والعداوات العلنية وتبادل التهم عبر المقالات وصفحات الفيسبوك والتواصل الاجتماعي، وبلغة تقترب كثيرا من اللغة السوقية، ولا أستثني العديد من البرامج الحوارية على الفضائيات التي كانت تنتهي بأقذع الشتائم وبالضرب أحيانا، إلى درجة تجعلني أتساءل: هل نحن نتقبل الرأي الآخر فعلاً، أم أن الآخر يصبح عدوي لمجرد طرحه فكراً مُخالفا لفكري فيحقّ لي تسفيهه وشتمه وإيذاؤه.

ما كنت أتمنى أن أخوض في هذا الأمر، لولا أنني لاحظت في الفترة الأخيرة تبادل اتهامات وشتائم فاحشة بين قامتين أدبيتين مهمتين، ومعركة كلامية على صفحات الفيسبوك يقرأها كل الناس، ويتساءلون: أيّ مستوى هبط إليه هؤلاء المثقفون الذين من المُفترض أن يكونوا قدوة للآخرين بكلامهم المهذب وسلوكهم الراقي. أيّ عار أن تخاطب مثقفة زميلة لها بعبارة ” الكلاب تعوي والقافلة تسير!”، وأن ترد الأخرى ساخرة “لأنها مثقفة تشتمني باللغة الفصحى”.

للأسف الوسط الثقافي يعاني فسادا كبيرا ربما أكثر من فساد الأوساط الأخرى ، وتكفي نظرة بانورامية على المشهد العربي كي نرى كم من العدوات وتبادل التهم بما يفيد بأن الكاتب الفلاني سرق نص كاتب آخر، ويبدأ كل منهم بشتم الآخر واتهامه بالسرقة. وغالبا ما يجد البعض من المثقفين متعة وشماتة في هذه العداوات، فيصبون الزيت على النار بدل أن يخففوا من التوتر ويلعبوا دور الوسيط في إزالة العداوات واحتقان النفوس بالكره والغضب. وفي ذاكرتي الآن أمثلة عديدة على السلوك الفاسد عدا عن اتهام الكاتب أو الكاتبه كاتبا آخر بسرقة بعض من إنتاجه.

فعلى مستوى المجلات الثقافية كم من رؤساء تحرير فضلوا كاتباً على آخر بسبب العلاقات الشخصية والمصالح المشتركة فقط ، وكم من مجلات ثقافية أصدرت الكتاب الشهري الثقافي المُلحق بالمجلة مرات عدة للكاتب المدلّل نفسه، بحكم صداقته ومصالحه مع رئيس تحرير المجلة.

وربما يكون الكتاب دون المستوى الإبداعي المطلوب، ولكن المهم أن يعثر هذا الكاتب على الباب حتى يدخل محفل المرضيّ عنهم ويُفرض على الناس وكذلك يقبض المكافأة المجزية وبهذا الفساد الثقافي يُمنع أصحاب المواهب الحقيقية من فرص نشر إبداعهم. ولكم من كاتب مغمور هزيل الموهبة فُرض فرضاً ليحتل صفحة في أشهر المجلات الثقافية بفعل صداقته النفعية مع رئيس التحرير، ولا ضرورة لأن أذكر الأسماء، فأنا أجزم أن كل من يتابع الإصدارات الأدبية في عالمنا العربي تلفته ظاهرة صنع نجوم أدبية زائفة. بل وأجزم بأن أسماء تخطر لنا معا الآن.

في هذا السياق من الفساد المحموم تتأثر الكاتبات أكثر من الكتاب بمظاهر الفساد الثقافي، فكم من كاتبة اتهمت بأن الكاتب الفلاني كتب لها روايتها، وكم من منتشين بهذا المنطق يدافعون ويتحمّسون ويؤكدون ذلك الاتهام من دون أن يملكوا دليلاً، كما لو أن اللذة والمتعة كامنتان في النميمة وفي تشويه صورة الكاتبة المُبدعة. وغالبا ما تتعرض الكاتبة، خصوصا لو كانت شابة وجميلة، إلى سيل من التهم تتركز حول دور جمالها وصباها في قيام شهرتها، وليس مستوى نصها الأدبي.

الفساد الثقافي الأكبر والأكثر خزيا هو قبول العديد من القامات الإبداعية في أن يكونوا مثقفين مُقاولين، بمعنى أن يبيعوا أفكارهم لرجال السلطة السياسية، فالثقافة للأسف في عالمنا العربي كثيرا ما تلعب دور الخادمة للسياسة، وكم من كاتب مهم ثمّن أفكاره وباعها لزعيم سياسي أو رئيس دولة وكتب له كتابا يحمل اسم السياسي وقبض مبالغ سخية مقابل ذلك. ولا أنسى عدداً من الشعراء والشاعرات الذين كانوا يسافرون من بلد إلى بلد للاحتفال بعيد ميلاد حاكمه المُستبد، وإحدى الشاعرات كانت تتباهى بأنها في كل عيد ميلاد حاكم كان قويا في المشرق كانت تقف في قصره وتقرأ قصيدة تؤلهه فيها وتقبض الثمن.

هذا النوع من المثقفين أسمّيه بالمقاول لأن الثقافة الحقيقية لا تعني له شيئاً بل ترى واحدهم مستعداً لأن يثمّن أفكاره ويضعها في خدمة الأقوى وهو السياسي.

لا أنسى تعريف ألبير كامو للكتابة بأنها شرف. شرف الكلمة وتقديسها واحترامها هو ما يجعل الكاتب محترما وذا مصداقية.

الكاتب الحقيقي لا يكون ولاءه إلا للحقيقة. لا يستغل ضعف ثقافة القارئ ويسرق من هنا وهناك أفكارا وكتابات. من حسن الحظ أننا نعيش في زمن ثورة الاتصالات حيث لم يعد بمقدور أحد أن يستغل الآخر ويستغفله ويسرق ما طاب له من كتب منشورة في غوغل دون أن يُكتشف. صار بإمكان طالب على مقاعد الدراسة أن يكشف تلك السرقات.

أخيراً كم هو محزن أثر الفساد الثقافي على تيار الأخلاق في عالمنا العربي. إن مظاهر الفساد وظواهره الكثيرة تتطلب مواقف جادة من الكتاب الشرفاء والمثقفين الكبار من ذوي الأخلاق الرفيعة ولكن هل يمكن إلغاء المحسوبيات ومحاربة المثقفين المقاولين وفضحهم بل ومحاكمتهم، وتسليط الضوء على من تسوّل له نفسه السرقة والإفساد في الحياة الثقافية؟

في نظري إن على المثقفين والمبدعين أن يفضحوا بطرائق شتى كل كاتب يخون شرف الكلمة. لأن الكتابة، أولا وأخيراً -كما عرفها العظيم ألبير كامو- هي شرف.

كاتبة من سوريا

الكتابة عن الناس/ جنى فواز الحسن

ككتّاب علينا أن نبتعد عن الأيديولوجيات والحسابات السّياسية وأن نكون صادقين مع أنفسنا ومع ما نكتب وأن نتحرّر من المفاهيم المسبقة.

تجرّعنا الكأس المرّ

في هذه الفترة المظلمة التي يعيشها العالم العربي، من الضروري أن يواصل الكاتب رواية الحاضر والماضي والمستقبل والتأمل في ما جعل حالنا تكون ما هي عليه اليوم.

الكتابة هي لحظة المواجهة مع المجتمع والذات واستخلاص الحقائق حول من نحن فعلًا. أدرك تمامًا أن الكتابة لا تحيي الموتى ولا تحدّ من قهر طفل أو انكسار رجل أو خسارة امرأة، لكنها تتيح لنا أن نعيش الحياة مرة أخرى كما نرويها وأن ندمج المتخيل بالواقع لكي نكتشفه.

هناك أسئلة كثيرة حول جدوى الكتابة في اللحظات المفصلية، وهذه الأسئلة تنطبق على الحياة وجدواها وعبثها. لقد بات الفرح في حياتنا أشبه بالإثم. نخجل أحيانًا من أن نضحك ونخرج ونمرح بينما الدّمار يحيط بكل من نعرف، لكن كيف لنا أن نتحمّل ورطة الحياة إن لم نراوغ قليلًا ونتظاهر أن لكل هذا معنى. يجب أن نكتب ربما لنعالج أنفسنا ومجتمعاتنا من الإرهاق الذي نعيشه ولنبقي الذاكرة حية وسط كل الموت الذي نجده حولنا.

ربما تكون الكتابة وسيلة لإحياء من نحبّ وتركيب الشخصيات والأنماط البشرية لنرسم صورًا للناس لكي نقول إن هذا الوجود ليس هباء. أنا شخصيًا غير مقتنعة بإمكانية التغيير الجذري وتحويل الحياة إلى حلم وردي، هذه الأحلام خدعة انطلت علينا للأسف حتى تجرّعنا الكأس المرّ وفهمنا أن الأمور أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه.

وسط الاستبداد السّياسي والدّيني، أفضل ما يمكن أن نقوم به هو الكتابة عن الناس العاديين بعوالمهم البسيطة والصغيرة والتفاصيل التي تصنع الحياة.

علينا، برأيي الشخصي، ككتّاب أن نبتعد عن الأيديولوجيات والحسابات السّياسية وأن نكون صادقين مع أنفسنا ومع ما نكتب وأن نتحرّر من المفاهيم المسبقة لنجد مفاهيم أخرى ومعاني ولغة جديدة. لا يمكنني القول إن الكتابة تقوم بالمعجزات، لكنّها على الأقل مساحة حرية شخصية.

كاتبة من لبنان

مواجهة الفناء بالكلمات/ لنا عبدالرحمن

النتاج الرّوائيّ العربي بغزارته وتنوّعه، وبالوتيرة المتصاعدة التي عرفها منذ قرابة خمسين عامًا، شكّل رافدًا إبداعيًا مهمّا يعكس التفاعل الفني والمعرفي والحدثي، والثقافي والاجتماعي لكل حقبة زمنية.

عمل الرّوائيّ هو البحث ثم البحث

ماذا يمكن للرّوائي أن يكتب في لحظة الدّم؟ هذا السؤال الذي لا يمكن حصره فعليًا عبر اختصار ما يحدث بأنها “لحظة دم” فقط، لأنّ السؤال في بعده البراغماتي سوف ينفتح على تأويلات شتّى تتشعب لتشمل الخراب الذي ينخر الواقع العربي المشرع على بلدان يرعاها إله الحرب، حيث التهجير والفقد والموت، بتر الجذور وفقدان الانتماء؛ هناك أيضا اللجوء الإجباري ولحظات الحنين القصوى؛ ثمّة أيضًا خوف قصيّ ودان، متوغّل في تعتيم المعنى أو تضبيبه بحيث تختلط الصور فلا تبدو مفهومة، تمكّن من قراءة المشهد العبثي الذي تحوّل إلى كرنفال وثني.

من الممكن للروائي أن يكتب عن ذكرى شجرة ياسمين في ساحة الدار، بالتوازي مع أهمية تدوينه انتشار رائحة البارود في شارع كان يحتفي بالبهجة في زمن يبدو الآن موغلا في القدم، ولا يمكن التنبؤ باحتمال عودته القريبة إلا عبر أمنيات تصعد إلى السماء مع تنهيدات حارقة تيقّن أن الوقت سيطول.

إن الوقائع اليومية التي يقف الكاتب شاهدًا عليها، ليست جزءًا من كابوس طويل، بقدر ما هي مزيج سامّ من تفاعلات سياسية واقتصادية ودينية تعمل على تعميق إحساسه بالعجز عن التغيير، وإدراك أن المنظومة الكبرى التي تُسيّر هذه البلاد تحتاج إلى تغييرات جذرية كي لا تستمر النتائج كما هي الآن.

الرّوائيّ بوصفه شاهدًا على عصره بشكل أو بآخر، سوف يجد نفسه متورطًا مع لحظة الدّم أيضا.. سواء بالكتابة عنها في زمنها، أو اختزالها في ذاكرته لتحضر على شكل واقعي أو شبحي في نصوصه، ولعله من البديهي أيضًا في كل مرحلة تحدث فيها تحولاّت كبرى أن تُنتج أدبًا يعبّر عنها، خاصة أن المنطقة العربية توالت عليها الحروب والثورات بشكل متلاحق، بحيث لا تكاد تمر عشر سنوات كاملة من دون وجود حرب أو ثورة في هذا البلد أو ذاك.

إن النتاج الرّوائيّ العربي بغزارته وتنوّعه، وبالوتيرة المتصاعدة التي عرفها منذ قرابة خمسين عامًا، شكّل رافدًا إبداعيًا مهمّا يعكس بالإضافة إلى الواقع؛ التفاعل الفني والمعرفي والحدثي، والثقافي والاجتماعي لكل حقبة زمنية، لأن عمل الرّوائيّ هو البحث ثم البحث، والعثور على بدايات الأشياء وما وراءها، ثم الكتابة من وسط المنطقة التي تتداخل فيها الأحلام، بالخيالات والكوابيس، بالأشباح والدّمى الناطقة، مع احتفاظه بإيمان شخصي بالقدرة على الاستمرار ومواجهة الفناء بالكلمات.

كاتبة من لبنان

الكلمات توجعني وأكتبها/ مسعودة بوبكر

مع تقدّم الوعي وتداعي الأحداث في الشرق العربي وقد وعيتها باكرًا تلك التي أقضّت أخبارها مضاجعنا، بات لديّ شبه قناعة أنّ الدم من ثوابت الأقدار العربية القاسية.

الشعلة التي تقاوم الرّيح

وأنا طفلة، كان من ضمن ما تسرّب في صفحة الوعي الباكر محفوفًا بأسئلة الاستفهام، مشهد دموي لم تمح كل السنوات التي عشتها هوله من ذاكرتي حتّى والوهن يتهدّدها، مشهد رجل منكفئ على جسده الهامد مذبوحًا والدم يلطّخ ثوبه، خيّم بالصدمة والهول على صبيحة قريتنا الهادئة.

مشهد تكفّلت أخبار لاحقة بجعل تقبّلنا له على غير الحدّة المتوقّعة، خصوصًا أن أهالينا أجمعوا على التشفّي في الخائن الذي نال ما يستحقّ من جزاء فقد وشى للمستعمر الفرنسي حينها ببعض المقاومين من جبهة التحرير بالجزائر. كان الحدث مناسبة لأدرك ما كان يدور في الجزائر الشّقيقة وفي فلسطين بالخصوص من حرب وقهر وظلم ومقاومة، وأنّ الخيانة لا تواجه بغير الدم. والوطن لا يسترجع بغير الدم.

متى كانت قلوبنا نحن أبناء الشعوب العربية خالية من شبح الدم! نراه بالعين في ما عشناه أجيالًا من معارك وحروب، ونتصوّر دفقه عبر صفحات تاريخنا “الموشّى” بالمعارك والمرقّش بالجراحات والمآتم والمناحات.

الدم مقترن بأفراحنا، منذ يراق دم الصّبي بالختان ومنذ تلطّخ قطراته دانتيلا البنت دليلًا للعفّة.. حين بكيت جزعًا يوم نُحر خروف تعلّقت به أيّامًا، صاح بي والدي أنّه فداء لإخوتي الذكور الذين كانوا سيذبحون تباعًا لولاه.. صعقني جوابه فتداخلت أمام عيني مشاهد الذبح بالجـملة لإخـوتي الـذّكور.

مع تقدّم الوعي وتداعي الأحداث في الشرق العربي وقد وعيتها باكرًا تلك التي أقضّت أخبارها مضاجعنا، بات لديّ شبه قناعة أنّ الدم من ثوابت الأقدار العربية القاسية، يزهق بأيد معروفة وبأيد مجهولة، بأيد الغريب وبأيد الأخ وابن العم.. دماء تهدر في العتمة وزوايا النسيان، وتارة في وضح الضوء وعلى واجهة الجهر.

دماء تراق هونًا ومجانًا تلاشت نداءات الثأر لها حتّى أخرست الشهقات دونها.. بتنا ننام على أخبار قتلى الحروب والمعارك غير المتكافئة والاغتيالات والمداهمات والاعتداءات.. لا تستثني أدوات الموت رضيعًا لم يدرك الفطام، أو صبيًا لا يميّز التمر من الجمر، أو شيخًا نال منه الوهن.

كل الدّماء مباحة، والأمرّ أنّها زهيدة لا تساوي في كفة العدل الإنساني حبّة خردل. الدم العربي كدمع اليتامى، عوّدتنا النكسات على هدره وزهد ثمنه، وتيبّست في حناجرنا المراثي والنّواح. لا أستثني نفسي ممن امتشق الكتابة منفى لروحه.

هي حصن يقيني الانهيار، مصل ضدّ الجنون أمام سريالية المشهد العربي بالذّات، أشهر كلمتي إدانةً ورفضًا في محاولات لهمز الحسّ الجماعي الذي بات يلتقم من ثدي العادة بلادته حيال الأحداث وبرودته ويأسه.

أقف بعزيمتي ككاتبة بين رفع وخفض، بين قنوت وأمل، وخمود وثورة، في دوّامة زمن ينزف فيه الجسد العربي دم الخذلان والفرقة، أنزف بنصل الكلمات، توجعني وأكتبها عساها تصبح ذات مرّة نصل الثأر. والشعلة التي تقاوم الرّيح وتحفظ التاريخ الصادق من الزّيف والنسيان. نكتب الوجع بكل مراتبه خارج القوالب أحيانًا كما تستدعي منعرجات الحال.

كاتبة من تونس

لغة التوثيق والتأريخ/ آن الصافي

في الوقت الحالي نأمل في توفر أقلام تقدّم سردا ينير الدرب لجيلنا وأجيال قادمة من بعدنا مدركة أثر الحرف المقروء في العقول المتلقية ومصائرها.

وضع راهن يحمل من ظلاميات وفوضى تعسفية تصل للدموية

على مرّ العصور السابقة والحالية عانت الإنسانيّة صراعات مهما كان ظاهرها فخلفها عادة تروس الاستبداد السلطوي السّياسي والدّيني.

كل كاتب له أدوات حسبما يتأتّى له من ملكة ومهارة يطوّعها لخدمة تقديم أفكاره من خلال السرد. فالمُطّلع على الروايات الصادرة في الوقت الراهن والذي يشكل حقبة مفصلية في المنطقة العربية، يجد أن الرائج هو ذات الثالوث المفضل على ما يبدو للكاتب والناقد على حد سواء: السياسة والتاريخ والجنس وهناك دائمًا خطوط عريضة تعكس مهاجمة الدين والمعتقدات السائدة. (مع العلم ليس من الحصافة التعجل في الكتابة عن حقبة غير مستقرة أمام أحداث لم نستقرئ بعد آثارها على المدى القريب والبعيد بشكل واضح، على المجتمعات والفرد. يكفي أن نتذكّر توقف الرّوائيّ نجيب محفوظ عن كتابة الرّواية، لمدة خمسة أعوام بعد قيام الثورة المصرية، في خمسينات القرن الماضي).

نموذج: نظرة سريعة على قائمة الروايات التي اعتلت بذائقة المحكمين في المسابقات الرّوائيّة المشهورة في الوطن العربي خلال السنوات القليلة الماضية، نجد اختياراتهم قدمت لواجهة المكتبات ما يؤكد هذه الظاهرة. وكأنما الرّواية العربية لا يجب أن تخرج عن هذه النمطية والمحدودية. ببساطة معظمها روايات تتحدث عن نتائج وحصيلة وضع بحيث نجد عيانًا لغة التوثيق والتأريخ لأحداث من وجهة نظر الرّوائيّ تنقل على لسان شخوص أعماله ولا يتوانى بعض الكتاب عن السقوط في التقريرية وبالتالي إنقاص أدوات السرد التي تميزه. بينما بنظرة فاحصة للأدب العالمي لكتاب أنتجوا روايات تعكس حقبة حفّتها الحروب والصراعات السّياسية والدّينية لن نجد ولا حتى عملا واحدا يعود لكاتب من الوطن العربي.

على الرغم من أن سبب ما تعانيه الكثير من المجتمعات لدينا، من الاستبداد الدّيني والسّياسي، نتيجة لتمجيد ما كتب سابقًا من أفكار سياسية ودينية تنقصها الحيادية والموضوعية، فنجدنا أمام وضع راهن، يحمل من ظلاميات وفوضى تعسفية تصل للدموية لن تغفرها لنا أجيال قادمة، بأيّ حال.

مع معطيات العصر الراهن من علم وتقنية وطرق بحث متطورة من الأجدر أن ندرس بعقلانية وموضوعية أسباب ما وصلنا إليه من تمزّقات وتفكّكات وسلسلة إشكاليات سياسية متفاقمة دون كلل وزجّت بنا في حروب وبراثن جماعات متطرفة سياسيًا ودينيًا. كل ذلك طال المجتمعات والمؤسسات القائمة على خدمتها على حدّ سواء. من الأجدر أن نحلل وندرس اللبنة الأولى التي تشكل المجتمع وهي الذات الإنسانيّة ومعطيات كل بيئة، والرجوع لمبدأ القيم والمساواة والسموّ الأخلاقي. العلم والدراسات الموضوعية تقدّم ما فيه تأكيد لقيمة الإنسان من خلال فتح أبواب تبادل الأفكار، وتقديم مصلحة الإنسانيّة، على أيّ من الأفكار التي أثبتت فشلها بالتجربة والبرهان حتى وإن ورثت من الأجداد، بعد أن أُكدت عدم جدواها للبشرية ومعطيات عصرنا الراهن.

الأقلام التي تسمو بمجتمعاتها، هي من تأخذ بهذه المعطيات بوعي دقيق بمعرفة أسباب ما نحن فيه الآن وما يجب علينا أن نكونه. بعض الأصوات السلبية تتحدث بأن لا داعي لتقديم ما يسهم برفعة الإنسان والمجتمعات من خلال الأدب، عمومًا هي ذات الأصوات التي تهتف مع التيارات الظلامية بسقوط الضمير والإنسانيّة.

نأمل في توفر أقلام في الوقت الحالي تقدّم سردا ينير الدرب لجيلنا وأجيال قادمة من بعدنا مدركة أثر الحرف المقروء في العقول المتلقية ومصائرها. المواضيع التي تعبّر عن عصرنا هذا ليس لها حصر ولا يوجد سبب للتكرار والدوران في حلقة مفرغة. فلتفتح الأبواب لعوالم أرحب تتناول الهم الإنساني بعمق أكبر من ناحية الأفكار والمواضيع وأسلوب السرد، حتى مواضيع الثالوث الذي تحدثنا عنه بدءا، من الممكن تقديم مواضيعه بمنظور جديد، من خلال أساليب مبتكرة في السرد، وتفادي الزجّ بأفكار وآراء تنقصها الحيادية والموضوعية، تلقي بأدبنا بعيدًا عن ذاكرة الغد، وحتمًا ستعوقه عن الوصول إلى أرفف المكتبات العالمية.

كاتبة من السودان

ما لا يرد في نشرات الأخبار/ رنوة العمصي

إنّني وبعد أن تساقطت من حولي المفاهيم والشعارات واحدة تلو الأخرى منذ بداية ما أسمي بـ’الربيع العربي’ وإلى الآن، أتمرّد على نفسي قبل المستبد.

أكتب لأصنع الحرية لنفسي

بالنسبة إليّ، حين يجيء الموت، ذلك الشيء الذي لم أعثر على تفسير له بعد، ولم يسبق لأحد أن عاد منه، ليخبرنا ما هي الحقيقة، كما قال درويش، فإنني أقف مطأطئة قلبي أمام عصيانه على الفهم والتحليل، أسبابًا ونتائج. إنه عسير أن تكون الكلمة مخلصة في زمن الصراع، التجاذب، الاستبداد. ومرهق، أن تكتب فيما الحرب تدور في الخارج، وآلتها تجرّف الأرواح، لأنك تكتب في مرحلة لا يجد أحد أثناءها وقتًا ليقرأ، ولا يملك أحد صفاء الروح ليعي، ولأنك تخاف أن تقع روحك في فخ الشعور باللاجدوى.

بعضهم يمسك بزمام الأمور في الخارج، وأنت كالممسوس تدوّن، تعدّل ميزان الأشياء على الورق، بدعوى أن هذا ما يجب أن تكون عليه الأمور، وشئت أم أبيت، اعترفت بذلك أم لا، إنك تكتب كي تلوذ بنفسك، تكتب كي تختبئ بداخلك، تكتب، كي لا تفقد عقلك.

ماذا تكتب في هذه الأثناء؟ إنك تدوّن. تسجّل ما لا يرد في نشرات الأخبار، الصحف، خطابات المسؤولين وخطب رجال الدين. كل ما يقع خارج هذا هو قلب الحقيقة، وهو ما تبحث عنه، تختزنه لتستعيده، وتحتاج أن يمضي الوقت عليه حتى ينضج فيُروى.

بعضنا يجمع حطام المدن التي طالها الدّمار ويعيد بعثها في النص، بعضنا يستعيد الوقت الذي غادر إلى غير رجعة، بعضنا يرصد الحالة العامة ويحاول تفسيرها، وأنا أجرّب أن أعترض، إنّني وبعد أن تساقطت من حولي المفاهيم والشعارات واحدة تلو الأخرى منذ بداية ما أسمي بـ”الربيع العربي” وإلى الآن، أتمرّد على نفسي قبل المستبد، أكتب لأصنع الحرية لنفسي، أستيقظ كل صباح وأعدّ كلماتي بمساحة سنتيمتر إضافي من الحرية والإنسانيّة، أنحت الكلمة كي تشبهني قدر المستطاع، لا أريد لأيّ فكرة أن تقع محل عورة فأسترها عن الكلمات، إنني أربّي نفسي على الحرية من دون أن أطلبها أو أطالب بها، أرهق نفسي بممارستها في النص وأترك له أن يفعل فعله بالمحيط.

لا أكتب العام، أكتب الخاص، والخاص جدًا، غير أنه، وحده الذي بإمكانه أن يعكس ما يجري، وهو وحده الذي لن تجده في مواد كل أجهزتنا الإعلامية الضخمة، وهو الذي لا يلتفت إليه أحد لا في مجريات حرب، ولا في مفاوضات سلام، وهو وحده الذي بعد أن ينقضي كل هذا، سيدلّك على الحقيقة.

كاتبة من البحرين

رواية لحظة الصدق الضائعة/ ليانة بدر

أبطال روايتي لسوف يتساءلون مطولًا: لِمَ حصل ما حصل، حتى لو كان هذا على حساب حيواتهم الفردية الضيقة والصغيرة بالنسبة إلى المجموع؟

تجريد الأُمة العربية من الفسيفساء السكانية الغنية بالطوائف والأديان والمذاهب

أُحاول إتمام روايتي التي بدأتُ العمل عليها منذ أربع سنوات. لا يمكن التفكير أو الكتابة إلا بدءًا ممّا يجري حولنا. وما يجري مُلهِمٌ لأيِّ كاتب وروائي.

بقيتُ مدةً طويلةً أُتابع الربيع العربي بالدهشة والمفاجأة التي تخلقها عصا سحرية، ثم ارتددتُ إلى الواقع حينما رأيت أشكالًا جديدة من طغيان الأنظمة والدول والمؤسسات، وأشكالًا من التطرّف الدّيني لم نعرفها في بلادنا سابقًا. لا يعود هذا إلى موجات الهبّات الشعبية والانتفاضات، بقدر ما يظهر مدى تعفن الواقع العربي الذي أنتج هذه المآسي، بدءًا من الدول العربية الرجعية التي تمارس سياسة لفظية ثورية وتطرح نفسها على أنها وريثة جيفارا شخصيًا، فيما هي تعاود إنتاج آليات الوراثة والعفن، سواء أكانت جمهورية أم ملكية أم دولة صغيرة.

استوى الكذب على عرشه، وأنتج بيوضًا من الدكتاتوريات لا تني تفرّخ هنا وهناك. ومع أنني كنت بين من سعدوا بما حصل من انطلاق هذه الانتفاضات الشعبية، فإنني كنت أيضًا معهم حين خابت آمالهم، وهذا ينعكس على كتاباتي بالتأكيد.

أقوم على إنجاز رواية تبحث عن لحظة الصدق الضائعة التي أنتجت الجفاف الروحي الذي بان فيما تعانيه بلادنا كلها حاليًا. أُفتش في دواخل الشخصيات عن المسكوت عنه وعمّا لا يريدون الاعتراف به، وأُتابع حياةَ كل واحد فيهم كشاشةٍ مكبرةٍ لما نعيشه الآن. ويسرّني كثيرًا أن أرى ما يمكن لكلٍّ منهم أن يكتشفه عن نفسه، لأنني أعتقد أن حياتنا العربية كانت مليئة بالشعارات إلى حد إسكات وإخراس صوت النفس الداخلية التي تعجز وحدها عن اكتشاف هذا الخراب.

هل نضجت الحال حولنا كي يبدأ الناس، كلٌّ حسب إمكاناته، بتحليل ما جرى ويجري من أحداث صاعقة وخراب مديد لم يحسب حسابه أحد؟ لا أعتقد ذلك، لأن الأنظمة كافةً ما زالت تماطل نفسها وتغفل عمّا يجري وراء الستار. وما نراه حاليًا من استبدال دكتاتوريات الدولة بطغيان وبؤس المتعصبين والمتطرفين دينيًا، الذين يريدون تجريد الأُمة العربية من أهمّ ما وجد فيها، وهو الفسيفساء السكانية الغنية بالطوائف والأديان والمذاهب، هو ما يحدث على الأرض.

ولسوف يتساءل أبطال روايتي مطولًا: لِمَ حصل ما حصل، حتى لو كان هذا على حساب حيواتهم الفردية الضيقة والصغيرة بالنسبة إلى المجموع؟ آمل أن تنشر الرّواية قريبًا، ولم أستقر على اسمٍ لها بعد.

كاتبة من فلسطين

الهروب من الكابوس/ رئيفة المصري

الكتابة تحت سيل القذائف ومن قلب المعارك تشبه الكتابة من قلب البحر وأنت تصارع الموج من أجل نفس أخير.

في لحظات الرعب يتجمد الحرف في عروق القلم

الكتابة فعل تربية الحرف على طرف هاوية. الكتابة فعل إنشاء الظرف على نقيض الحياة. الكتابة هي تدوين المشهد قبل اختراع “الكاميرا”. والكتابة هي استنهاض الموت بعد تاريخ كتبه أحد المنتصرين. في أوقات الحب نحوّل لحظات لا يقوى فيها المظروف على مقاومة إغراء نص العشق وفي تلك الحالات يكون إغواء الكلمة مدهشًا. في أوقات السكينة لا نحتاج سكينًا لنرسم بها لوحة زيتية، يكفي أن نملك قلمًا وورقة وموهبة كي نصنع من لحظة عابرة مزارًا للحكمة يطوّق رغباتنا ويدفعنا للاستمرار نحو الأعلى.

في لحظات الرعب، الخوف، الدّم، الحرب، الموت، يتجمد الحرف في عروق القلم وينام على كتف الورق كل ما يمكن أن يقال. حين يثقل الهم كتف الكاتب بين تأمين الدفء لعائلته أو إنقاذهم من براثن المجازر حين يطوي السّقفُ السّقفَ، لا سقف وقتها للكتابة سوى عن الألم.

الألم هذا النخر المستعصي على إنهاء المشهد، وكمسرحي يحاول ختم السيناريو بعبارة رنّانة تترك الحاضر عالقًا بدهشة المحتوى. كعالم يحاول ختم أطروحته بمعادلة تلخص كل التجارب التي قام بها كي يحرّك التاريخ عن سكتّه باتجاه معاكس، كخبّاز يضع الرغيف في فرنه وهو يتخيل أن النار هناك ستنضج الحالة، ولا حالة هناك سوى الموت، ماذا عسانا أن نكتب؟!

حين يصبح فعل الكتابة كالسّير في حقل ملغّم بالأفخاخ السّياسية والتوجهات الفكرية يصبح الإنسان هو الرقم الأضعف. حين يصبح فعل القتل بمختلف الطرق هو السائد بلونه الأحمر المشتقّ من السّواد والسّواد المشتق من الأحمر يكون العقل مصفّدًا بسلاسل وأقفال كبيرة. حين تحاول تدوين المشهد بوحشيته وتغرق الصفحة بدمعك تصبح أنت السوري الغارق في أحد مراكب الموت بحثًا عن مكان آمن.

تخيّل معي أنك تمسك قلمًا وتحته ورقة تئنّ بانتظار نشوة الكلمة لكن الجدران حولك تنزف، الأرض تشتعل، وطاولة المكتب تنهار أمام سيل الحزن القادم من أعلى. تخيّل معي أنّك تحاول جاهدًا إرغام الحبر الأزرق الفاضح أن يشقّ طريقه على شوارع مدماة. أن يرسم بالكلمات قوس قزح وضحكة مراجيح تنادي الأولاد. تخيّل أن الحبر ذاته كان يكتب دعوة لعرس وفي الأعراس زنبق بلدي يغرق أنفاسك بعطره. تخيل أنك ببلد وقع على ركبتيه ولا يسمح له بالنهوض، تخيل أن الفرح مرَّ من هنا.. تخيّل أنت ككاتب وانقل ما كان على ورق مبلل بالدّمع.

الكتابة تحت سيل القذائف ومن قلب المعارك تشبه الكتابة من قلب البحر وأنت تصارع الموج من أجل نفس أخير. أجل! الكتابة من قلب المعركة وأنت تصغي إلى صوت الرصاص معتبرًا أنك خبيرٌ بتفنيد نوع السلاح الصادر منه ومسافة إطلاقه يشبه إلى حد كبير الهرب من كابوس مستمر وحقيقي.

أما الكتابة من قلب مخيّم على حدود رسمها قلم فهو كالقفز على الحبل وأنت تستذكر قول الراحل غسان كنفاني “خيمة عن خيمة تختلف”.

كاتبة من سوريا

الخروج من القمقم / نبيهة عبدالرازق

كل هذه الثورات والدّماء التي تستباح لا تترك للكاتب إلا همًا أكبر ووجعًا ومسؤولية أشمل إذ عليه أولًا أن يحرر ذاته من قمقم الخوف الذي يقبع في داخله.

نعيش بلا رؤية واضحة لما سيؤول إليه التقسيم في منطقتنا العربية

كتبت ذات مساء عن علاقة الأفراد بالزمان والمكان أن “المكان والزمان محددات وهمية لحياتنا، تفرضها علينا طبيعتنا البشرية المحدودة”، كما قلت عن ذواتنا البشرية في وصف لحالنا حين نكون بين حالين “الخط الفاصل بين العتمة والضوء، ربما يكون ذاته الفاصل بين الحياة والموت، هناك منطقة مخفية لا بد أن تعبر خطواتنا إليها، نعبر مرحلة نتركها خلفنا ونستقبل أخرى بلا تهيئة تليق بها”.

الحقيقة أنني كلما تطلّعت إلى الأمر الواقع الذي نعيشه في أيامنا هذه أيقنت أننا نعيش بين حالين بلا رؤية واضحة لما سيؤول إليه الأمر أو التقسيم في منطقتنا العربية.

هناك من الوضوح في تردّي الحال الذي تعيشه المنطقة ما يخيف الرائي والكاتب على حد سواء، فحالة التشويه للإنسان والإنسانيّة في أيامنا هذه تشابه حالة التردي التي كانت تعيشها القارة الأوروبية في العصور الوسطى حينما كانت ترضخ للاستبداد الدّيني والسّياسي مجتمعين للسيطرة على الشعوب بإحكام قبضة الحاكم من خلال المباركة الدّينية التي تمنح له على أنه وريث الله على الأرض بل هو المخوّل بتنفيذ وتدبير أمر البلاد والعباد.

ذاك الحال بينهم كان بالأمس البعيد، أما اليوم فقد انتقلت عدوى الظلم والاستبداد إلى بلادنا العربية لتشمل كرامة الإنسان ووطنيته واحتياجاته فتغلبه تارة وطنيته ليستميت في الدفاع عن الأرض والعرض وتغلبه تارة احتياجاته اليومية فها هو الجوع والخوف والمرض أعداء الفكر والحرية للإنسان يسيطرون في المنطقة العربية التي ترضخ تحت ذلّ الحاجة والضعف لا لأمر إلا لسيطرة الغرب على منابع القوة واستغلالها أسوأ استغلال لتحقيق كافة المكتسبات السّياسية لإعادة توزيع القوى ورسم حدود جديدة تتيح إزالة دول وبناء دويلات وتثبيت كيانات تم خلقها في زمان غادر، لتحقيق السيطرة على القوى الاقتصادية في المنطقة العربية يساعدها بذلك خلق أطماع ومكتسبات لبعض الدول الشقيقة على حساب شقيقاتها الأضعف.

ولأننا نعيش بين حالين نجد أنفسنا مقيدين بزاوية محدودية النظرة إذ كيف للإنسان فينا أن يلمّ بالأمر كله ليخلص إلى نتيجة ترضيه أو هدف يسعى إليه.

كل هذه الثورات والدّماء التي تستباح لا تترك للكاتب إلا همًا أكبر ووجعًا ومسؤولية أشمل إذ عليه أولًا أن يحرر ذاته من قمقم الخوف الذي يقبع في داخله إمّا لمصلحة وهمية أو خوفًا من سلطة آنية. وحده القلم الحر من الحاجة أو الأطماع هو القلم القادر على إعادة تدوير وتنوير وإحداث الفرق بين الصفوف وفي الأفكار. نعم لقد تردى الوضع إلى الأسوأ وبات الأمر موجعًا حد الخديعة، حتى نحتمل لا بد أن نوهم أنفسنا بحلول قادمة ولو بعد حين.

كاتبة من فلسطين

كنت سأنتحر/ أحلام بشارات

شباب موهوبين يحاولون الهرب مثلي، لكنّ صوت الموت العالق في آذانهم، يوتّرهم، فسرعان ما ينكشفون أمامي، وسرعان ما أنكشف أمامهم.

أجد نجاتي في كتابات كتّاب عاشوا حروبًا سابقة

تحوّلني الحروب إلى شخص ينقّب، مثل واحد ينبش في الردم، وبين صراخ الفاقدين، وخوفهم، ولحظة المفاجأة، أحاول أن أجد شيئًا. أولًا أبدأ في داخلي فأبحث فيه، وفي قصائد أصدقائي؛ فأبحث في عواطفهم، وفي بيت العائلة؛ في الجوارير، وأرجع إلى الدفاتر القديمة، الخسارات: ربما نجت خسارة واحدة فأجددها.

أفتح أيضًا نافذة في جدار غرفتي: ربما يطلّ على منظر لم تسرق الحرب منه شيئًا ولا أحدًا. لا أترك شيئا دون أن أختبره؛ هذا ما يحدث لإنسان يريد أن ينجو! هذا البحث يحوّلني من كاتبة إلى قارئة؛ فتبدأ رحلة البحث عن كاتب، وحتى لا أنسى ما قرّرته، أسجّل على ورقة صغيرة بلون أصغر، وأعلّقها بجانب المرآة التي أطمئن، بزجاجها، على ملامحي: أقرأ كي أنجو.

أريد أن أقرأ لـ – وأسميه: الساحر، فعلت ذلك كثيرًا، تقريبًا كل حرب، أجد نجاتي في كتابات كتّاب عاشوا حروبًا سابقة، وماتوا، ومضت سنوات على موتهم وعلى هروبهم من حروبهم، وكتابتهم عن هروبهم من حروبهم.

أقرأ لكتّاب غير مشهورين، شباب موهوبين يحاولون الهرب مثلي، لكنّ صوت الموت العالق في آذانهم، يوتّرهم، فسرعان ما ينكشفون أمامي، وسرعان ما أنكشف أمامهم: مجموعة من الفارّين، نقف على طرف نربّت على أكتاف بعض، أو نشتم بعضا!

أريد أن أكتب، يبدو ذلك قرارًا أكيدًا ونهائيًا وجريئًا، للتوّ فعلت ذلك، الآن.. الآن، يبدو طوق نجاة بالفعل، أكتب لأنجو ولينجو معي قارئ بعيد، لقد وضعت خطة محكمة: سأكتب، وسيصل كتابي إلى قارئ ما يائس، يعيش على سطح هذه الأرض، سيرسل لي قارئي رسالة يقول فيها: إنّ إحدى رواياتك القصيرة أنقذتني من اليأس، كنت سأنتحر قبل القراءة بقليل، وها أنذا لم أفعل، ولولا ذلك ما كتبت لك ولما وصلتكِ رسالتي! لن يشم رائحة هروبي، ما يعني أنّي نجحت في إخفاء رائحة الخوف: تلك حرفتي؛ الكتابة، كتبت بلغة فرحة، ساخرة وناجية. مثل ذلك الخبر سيكون كفيلًا بإنقاذي؛ من البداية كنت أخطط لذلك: أن أكتب ما يحلو لي في أيّ وقت في هذه الحياة.

كاتبة من فلسطين

دمٌ أغرق الخيال/ نعمة خالد

إن على الرّوائيّ أن يمتح من الواقع دون لعب فيه، وهذا الواقع فيه من الغنى الرّوائيّ ما يفوق الوصف، على أن يثير الأسئلة المحقة ببعدها الإنساني المحض، دون أدلجة.

حنظلة القرن الحادي والعشرين

السؤال الذي انطلق منه الملف موجع، ومربك في آن. لعمري وقفت حائرة، ما الذي يمكنني أن أتجاوز به ما يحدث في سوريا أو العراق أو ليبيا أو اليمن أو مصر، أو فلسطين.

ربما لا أبالغ إن قلت إن خيالًا روائيًا لم يصل إلى ما وصل إليه الواقع المعيش. ولأنني ابنة مخيم اليرموك، حيث فدح الجرح هناك، إذ قضى فيه ما ينيف عن المئة والسعبين جوعًا، رحت أفكّر، وأسئلة كثيرة تعاندني: كيف يموت المرء جوعًا في القرن الحادي والعشرين، أنا التي صدّع أبي رأسي بأمثاله حين كان يقول “الكلاب السارحة في الشوارع شبعانة”.

ذواكرنا ملأى بالموت والدّم، وأيوب مات. كل الدروب إلى الكتابة دم، أعرفهم كلهم أعرفهم، أولئك الذين نالوا ترف أن يتحولوا إلى ملصق.

أسير في شارع لوبية، أسمع أصواتهم حين هتفوا لفلسطين ذات يوم. هل كانت مخيلتي ستصل إلى أن يكون غسان الشهابي أو خالد بكراوي أو حسان حسان أو أيمن جودة أبطالًا لروايتي حيث هم شهداء الحرب القاتلة لكل ما هو جميل في الحياة؟

سأكون كاذبة لو قلت نعم، فحسان كانت لديه أحلام غزيرة بمسرح جديد، وكم كان يحلم أن يكون الممثل الذي لا يتكرر.

غسان كانت لديّ معه مشاريع عن الذاكرة الفلسطينية وما يمكن لدار الشجرة أن تنجزه لخدمة هذا المشروع.

هل كان خيال أيّ روائي سيصل إلى ما حدث لفاطمة التي أسكتوا قلبها بطلقة قناص وهي في طريقها إلى المشفى لتضع مولودتها الجديدة؟

أعتقد لا، حجم الدّم أغرق خيالاتنا، وبتنا عاجزين أمام فداحة الجرح.

نعم لا أقولها بصرامة، لأن روائيًا لن يخطر بباله ما كان يهذي به محمد ابن السنوات السبع الذي فقد أهله بفعل قصف، كان يسير مطلوسًا بالغبار، ولسانه يلهج بتهديد واضح “طيب والله بس أشوف الله لأحكي له كل شيء”.

آن الأوان أن نرمي بالرقيب السياسي أو الديني في مزبلة الحياة، وصار لزاما على الكاتب أن يضع إصبعه في الجرح النازف أصلا آن الأوان أن تطلق الأسئلة على عواهنها، دون رتوش

وحنظلة القرن الحادي والعشرين، تلك الصورة التي انتشرت كثيرًا على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث ابن السنوات الثلاث الشهيد غريقًا في البحر، والذي قذفته الأمواج على الشاطئ، كان وجهه للأرض وحذاؤه في قدميه الصغيرتين في وجه العالم أجمع، ترى أيّ كلام أو أيّ سرد روائي سوف يليق بهكذا صورة؟

بعد كل ما قد كتبت، وبعد إعلان عجز الخيال أمام ما حدث ويحدث، أقول وبكل جرأة: إن على الرّوائيّ أن يمتح من الواقع دون لعب فيه، وهذا الواقع فيه من الغنى الرّوائيّ ما يفوق الوصف، على أن يثير الأسئلة المحقة ببعدها الإنساني المحض، دون أدلجة، لأن الصورة التي يمكن للسرد الرّوائيّ أن يطلقها كفيلة بواقعيتها أن تؤدلج إنسانيّة المتلقي.

فلا قيم في السّياسة، ولا قيم في الدين، الحاكمية لله وحده، هي ليست للسلطان السّياسي أو الدّيني.

آن الأوان أن نرمي بالرقيب السّياسي أو الدّيني في مزبلة الحياة، وصار لزامًا على الكاتب أن يضع إصبعه في الجرح النازف أصلًا. آن الأوان أن تطلق الأسئلة على عواهنها، دون رتوش.

هذا أنا أكتب ما تيسر من الرد على السؤال المطروح، وفي أذني صوت أبي علاء جاري، يتلو على جثة ابنه ما تيسر من سورة ياسين، وفي “جديدة” أسمع عجوزا تصرخ ملء جرحها: يا أهل النخوة واروه.

العجوز كانت ترجو المارة أن يدفنوا وحيدها بعد مجزرة هناك، وكان ابنها بلا رأس. طبعًا أحد لم يستجب لها، ليس لأن نخوة مفقودة عند سامعيها، فقط هو الخوف من أن يصبح صاحب النخوة هدف لطلقة قناص.

كاتبة من فلسطين

كتابة الصرخة/ رشيدة الشارني

واقعنا بلغ درجة عالية من الفانتازيا وفاقت بشاعته قدراتنا الخلاقة على التخييل وبتنا نشعر أننا نعيش عراة في عهد بدائي.

عذابات الشعوب نكّل بها الجهل بالدين

ما يحدث من مآس وفتن في سوريا والعديد من البلدان العربية الأخرى يصيبني بالهلع كمثقفة، ما كنت أظنّ أننا ننام منذ قرون طويلة على هذا الكمّ الهائل من الحقد السّياسي والجهل والغطرسة والجنون، ولست أدري إن كان من حسن حظنا كمبدعين أن نعايش كلّ هذا العبث ونكون شهودًا عليه، فمن المؤكّد أن ما يحدث يشكّل مادّة خصبة وحيوية لنصوصنا التي أرجو ألا تحيد في زخمها عن شرطها الإبداعي، ففي لحظة الدّم والدّمع والخراب والتشرّد والغرق هذه أحاول أن ألتقط أنفاسي وأنا ألاحق عذابات الشعوب التي نكّل بها العهر السّياسي والجهل بالدين، فمنذ سقيفة بني ساعدة والمسلمون يقتتلون وكلّما خمدت حروبهم عادت لتندلع بشكل أعنف، لقد آن الأوان لكي نضع حدّا نهائيًا للاستبداد باسم الدين أو باسم شرعية سياسية أثبت الواقع فشلها، لم يعد بإمكاننا أن نخسر أكثر ممّا خسرنا ودورنا كمثقفين كبير جدًّا في هذه المرحلة، علينا أن نجرؤ على مساءلة التاريخ أوّلًا ونفهم على نحو جيّد الواقع الحالي حتى يمكننا الكتابة للمستقبل ونبني بعيدًا عن هذا الخراب قيمًا إنسانيّة متطورة تقوم على إحياء الفطرة والضمير واحترام الحريّات وتقيّد رجل السياسة بقوانين صارمة، فالرّوائيّ قادر أكثر من غيره على صناعة وعي جماعي مغاير وتشكيل أفق جديد يزاحم الواقع ويستنهض إنسانيّة الإنسان.

من هذا المنظور أستمرّ في كتابة روايتي التي تتناول الظاهرة الدّينية المتطرفة الإسلامية والمسيحية وأحاول من خلال أحداثها التي تدور بين كلّ من باريس وتونس أن أناقش بعض المسلّمات وأتجاوز العتبات، وتعود أحداث الرّواية إلى ما قبل العام 2011 ممّا يؤكّد أن لهذا التطرف الأرعن جذورًا في الماضي وهو ليس وليد “الثورات العربية”.

وكما هو الشأن لدى كثير من الأدباء أترك الرّواية لفترات حتى تنضج وأمارس الكتابة القصصية التي هي من أحبّ الفنون إلى نفسي، هناك لحظات سريعة ومكثّفة في الحياة لا يمكن سوى لفن القصّة القصيرة أن يحيط بها ويختزلها، لقد بلغ واقعنا درجة عالية من الفانتازيا وفاقت بشاعته قدراتنا الخلاقة على التخييل وبتنا نشعر أننا نعيش عراة في عهد بدائي، الكتابة الآن أشبه بصرخة موجعة، الإشكال الأكبر هو كم مواطنًا عربيًا يقرأ الآن؟ كم مثقفًا عربيًا ينتبه إلى نصّ جادّ ويعرّف به بعيدًا عن الحسابات الشخصية الضيّقة؟ كم تجارب سطحية توّجت وكم رواية جادّة همّشت، في عالم الرّواية هناك أيضًا إرهاب واستبداد ومغالطات كبرى.

كاتبة من تونس

استرداد عقول الشباب/ آمال مختار

الثقافة العربية الآن في حيرة وارتباك بفنونها وآدابها وأفكارها أما السياسة العربية فهي في فوضى عارمة!

عملية غسل الأدمغة وتسريب فتيل الفتنة الدّينية تمّت عن طريق الإنترنت

ماذا يمكن للكاتب المثقف العربي أن يكتب في زمن العبث هذا حيث بات سيناريو الواقع يفوق في غرائبيته سيناريو الخيال الأدبي؟!

الثقافة العربية الآن في حيرة وارتباك بفنونها وآدابها وأفكارها أمّا السياسة العربية فهي في فوضى عارمة!

تلك حقيقة الوضع العربي الراهن سياسيًا وثقافيًا – للأسف – دون مجاملة أو تزيف!

يعاني الفعل الثقافي الآن من الوهن بسبب التهميش الذي تعرض ويتعرض له من قبل السلطة السّياسية في أغلب البلدان العربية إن لم يكن كلّها. وبدل أن يكون الثقافي هو كشّاف الطريق ومستشرف محطاتها متقدّمًا أمام السّياسي وفاتحًا له سبل السير في طرق معبدة فكريًا ومعرفيًا سيطر السّياسي بسلطانه على الثقافي فحوّله مع الزمن إلى مجرد بوق دعاية إلى هذا النظام أو ذاك، أو إلى مجرّد تابع له بلا حول ولا قوّة ولا موقف ولا إرادة.

هنا تحديدًا اختلّت موازين القوى فسقط ميزان الثقافي إلى الحضيض واستفرد ميزان السياسة بالكيل لصالحه.

ومن هنا تحديدًا تسلّلت الكارثة إلى هذا الوطن العربي الذي ازداد تشتتًا وفرقانًا بعد عودة السلطة الدّينية إلى الحياة وفي أقصى تمظهراتها تطرفًا.

لم يكن ذلك صدفة أو هو قدر محتوم بل هو أمر دُبّر بليل حالك وهدفه الوحيد هو نهب خيرات العرب وثرواتهم بأسلوب استعماري ناعم بعيد عن الاستعمار الكلاسيكي من خلال الجيوش والآلات الحربية، ولعل تجربة احتلال العراق جعلت القوى العالمية تراجع أسلوبها الاستعماري المباشر وتستبدله بآخر مناسب لتطورات العصر من خلال الثورة الرقمية الكبرى التي جعلت إمكانيات التواصل وتبليغ المعلومة والفكرة لتقويض بلد ما أسهل بكثير من الهجوم بأساطيل من الدبابات أو أسراب من الطائرات المقاتلات.

عملية غسل الأدمغة وتسريب فتيل الفتنة الدّينية بين العرب المسلمين تمّت عن طريق الإنترنت والقنوات التلفزيونية المأجورة التي تكفلت خلال السنوات الأخيرة بمهمة تشويه الدين وتحفيز الجهلة به للدفاع عنه في مواجهة الشق المقابل الرافض لهذا الجهل، كذلك زرعت بذور الإرهاب هنا وهناك في البلاد العربية المسلمة ليولد غول الدولة الاسلامية الداعشية بعد أن انتهى دور القاعدة التي تكفلت بالجزء الأول من مسلسل الإرهاب الذي انتهى تلك النهاية المأسوية والمتمثلة في تفجيرات 11 سبتمبر 2001.

غير أن المؤسف أن القوى العالمية، التي صنعت القاعدة التي تغوّلت إثر ذلك وأكلت صانعها، لم تتعظ من الدرس وها هي تعيد الكرة انطلاقًا من كذبة “الربيع العربي” وصولًا إلى داعش وكل ذلك من أجل مصالحها المادية فحسب، وهنا لا وجود البتة لشعارات الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية فتلك أشياء تليق بهم ولا تليق بنا.

في مقابل ذلك تصمت النخبة العربية المفكرة والمثقفة، بما في ذلك الأديب، وتغرق في فنجان حيرتها فلا تخطط لاقتلاع موقع الريادة وقيادة السّياسي إلى الطريق التي تخرج هذه الشعوب العربية المسلمة والمستسلمة من مستنقعات الجهل والتطرف الدّيني الغبيّ، ولا تسعى من موقعها المعرفي والثقافي إلى استنباط أساليب مقاومة ناعمة هي الأخرى، ومن خلال الوسائل التكنولوجية ذاتها لاسترداد عقول الشباب. ولعل أولى الخطوات تتمثل في الإخلاص في العمل -مهما كان هذا العمل- وأول المخلصين لا بد أن يكون المعلّم الذي يشكّل عقلية الطفل وهو تلميذ صغير ومعه الأمّ التي وجبت عليها التضحية لتثقيف نفسها بشتى الوسائل لأن البداية تكون منها.

مهما كانت الإمكانيات قليلة، والإرادة السّياسية منعدمة، فإنّه بإمكان النخبة العربية المثقفة أن تواجه الإرهاب بمحاربة العقليات بالعلم والثقافة والمعرفة والفن وتوعية المرأة.

وأول الخطوات بالتأكيد هو الاتحاد بين مختلف النخب المثقفة في كلّ البلاد العربية لأن في الاتحاد قوة ثم تأتي بعد ذلك البرامج التي يجب أن تعتمد على تمويلها الذاتي من خلال توظيف المهارات الفنية واليدوية بعيدًا عن التمويلات الحكومية التي ستعود بالموضوع إلى النقطة الصفر حيث تكون كل حلقة مرتبطة بالأخرى بلا فكاك، ليواصل الإرهاب مهمته في تدمير الإنسانيّة وقيمها ولتواصل القوى العالمية العيش في منظومة الغاب رغم مظاهر الحداثة الزائفة حيث البقاء للأقوى.

أما الكاتب فليس أمامه الآن إلاّ أن يساهم من موقعه في توعية هذا الشباب المراهق وزرع الأمل في مخياله حتى يستعيد إمكانية الحلم والطموح الكفيلة وحدها بالتحريض على إنجاز فعل الحياة التي نستحق أن نعيشها حتى الثمالة.

كاتبة من تونس

الرسالة الإنسانية

على الكاتب الرّوائيّ ألاّ يحصر قدرته الإبداعية في صوغ فكرته المتحيّزة نحو توجه ما، بل هي رسالة إنسانيّة شاملة.

الأدباء هجروا واحات خيالهم

كان الأدب العربي وما زال منذ زمن الوقوف على الطلل، يشكل سجل العرب. سجل أحداثهم بحلوها ومرّها، وقائعهم بهزائمهم وانتصاراتهم، مشاعرهم بأحزانها وأفراحها، العربي بكبريائه وعنفوانه، وبغض النظر عن جنس الأدب الذي سطر به الأديب تضاريس واقعه كون العمل الرّوائيّ ظهر حديثًا إلا أنه أصبح الأبرزِ وفق اللحظة وعشق القارئ.

ومع الأحداث الدامية التي تشهدها الساحة العربية في ظل استبداد أنظمة سياسية قمعية ومؤسسات دينية منغلقة، نجد أن أدب الرّواية ليس بمنأى عن هذه الصراعات، حيث أصبحت الرّواية عبارة عن تقرير ورصد للواقع بعد أن استمدّ الكاتب مادته وشخوصه ولغته من واقعه بتفاعل كبير لا يمكن أن ينفصل عنه ممّا يجعله عرضة للاضطهاد والملاحقة وربما التصفية الجسدية من قبل المؤسسات الدّينية والسّياسية إذا تعدى الخطوط الحمراء غير المسموح بتجاوزها.

لقد هجر الأدباء واحات خيالهم وجداول بوحهم بعد أن تصدعت قلوبهم حزنًا وقطرت أقلامهم وجعًا.

الرّواية التي كان هدفها المتعة القائمة على الفائدة والقيمة الفنية والجمالية للعمل الإبداعي، حين كان يسطّرها الكاتب بمتعة الكتابة ولذّتها صارت تكتب بعمق الألم وقسوته لإحساس الكاتب بمعاناة هذه الشعوب في ظلّ حروب وإرهاب دمويّ، وانتهاك يومي لحقوق الإنسان العربي، لقد تلاشت هذه المتعة المنشودة والكاتب يوغل في أوصاف الخراب والقتل والدّم والألم رغمًا عنه.

إن الرّوائيّ وهو يشهد مأساة الإنسان العربي في زمن النزاعات المسلّحة كما هو الحال في سوريا الحبيبة وغيرها من الدول التي تعاني إبادةً وخرابًا شاملًا، وتشردًا لأبنائها وتفكيكًا لنسيجها الاجتماعي، لا يسعه إلا أن يسطر ملامح هذه المعاناة وقسوة أحداثها كتخليد للحظة بريشة فنان يحترق ألمًا، وطمعًا في توجيه الرأي العام نحو احترام قيمة الإنسان وكذلك نقل هذه المآسي للأجيال القادمة بنزاهة قلم وحسّ أديب مرهف.

لربما كانت إبداعات أدب الرّواية تجد لها طريقًا في تغيير سلوك الإنسان واحترامه لإنسانيّة غيره بدرجة لم تحصل عليه طرق البشر الأخرى في التوجيه.

وبرغم قسوة وعنف الأحداث التي يشهدها الوطن العربي يجب أن تبقى رسالة الأديب قائمة على غرس الأمل في مستقبل أفضل وتنوير الأجيال بقيمة الإنسان الذي هو أسمى من أيّ قيمة أخرى، عليه بثّ روح المحبة بين فئات المجتمع بكل طوائفه التي خلقتها مؤسساته الدّينية المغرقة في التشظي والاختلاف، الكتابة الأدبية رسالة إنسانيّة سامية تقوم بتخليد الأحداث بحيادية للتاريخ بقالب القصة الشيّق الذي لا يملّ.

على الكاتب الرّوائيّ ألاّ يحصر قدرته الإبداعية في صوغ فكرته المتحيّزة نحو توجه ما، بل هي رسالة إنسانيّة شاملة.

كاتبة من اليمن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى