حسين جموصفحات المستقبل

كارثة الحرب الروسية العثمانية 1877 والبادشاه المستبد: قطعة الأرض الصغيرة التي أطاحت الإمبراطورية/ حسين جمو

  بسبب امتداد زمن الإمبراطورية العثمانية، واتساعها المترامي الأطراف على ثلاث قارات، كان من العسير دراسة تاريخ هذه الدولة، وبخاصة في الأزمات الكبرى، إلا من خلال العناوين العامة المسيّسة، التي لا تخدم التراكم السردي لمرحلة السلطان عبد الحميد الثاني على سبيل المثال. في هذه العناوين، فإن السلطان «مستبد». لا شيء أكثر. وكأن عبد الحميد لم يقضِ سنة وخمسة أشهر من حكمه في ظل «المشروطية» الأولى (الديموقراطية المتوّجة) التي أعلنها في 1876. في العام ذاته كان السلطان عبدالعزيز قد قتل في انقلاب مركّب وغريب، أدى إلى إختلال التوازن العقلي لابن أخيه، مراد الخامس. الذي أصبح سلطاناً لمدة 93 يوماً،

في التفاصيل، لو كان السلطان عبد الحميد قد تسلم الحكم بعد وفاة الصدر الأعظم عالي باشا (أحد آخر الصدور المخلصين للعثمانية) لكان عبد الحميد- على الأرجح- من مؤسسي نظام شبه ديموقراطي للحكم. وتميز عن غيره من السلاطين بأنه كان مولعاً بالموسيقى الغربية، وله ألحان عدة فيها، وعزف البيانو والكمان. متصوف على الطريقة الشاذلية ثم القادرية، ومن السلاطين النادرين الذين لم ينتسبوا للمولوية.

كل الإرث الاستبداي، الذي يوصف به حكم عبد الحميد، مصدره الخراب الذي أحدثه الصدور العظام في حقبة انتكاسة السلطان عزيز، ومن اخطرهم كان مدحت باشا، الذي رهن قرارات الدولة وفق مصالح الإنكليز. مدحت باشا الذي نفاه السلطان إلى خارج الدولة، وفق قانون سنّه الباشا نفسه، هو ذاته الذي كان وراء قرار السماح لخديوي مصر اسماعيل باشا بالاقتراض المفتوح من الخارج (مقابل عطايا سخية). وبالتالي، إتمام سيطرة انكلترا على مصر، إلا أن له معرفة واسعة في سن الدساتير، نتيجة دراسته النظم السياسية في أوروبا. وله لقب عرف به لاحقاً (خالع السلاطين)، وهو عنوان كتاب لمؤلفه قدري قلعجي عن مدحت باشا.

كان قيصر روسيا نيقولاي الثاني قد طلب من البادشاه عبدالحميد مساعدته في التخلص من ضغوط الرابطة السلافية الداعية للحرب، واقترح تنازل الدولة العثمانية عن قضاء صغير في الهرسك، يسكنه المسيحيون في الجبل الأسود. لكن الرابطة الموازية التي تقوم بتمثيل السلافية على نحو معاكس (عثماني)، في استانبول، رفضت ذلك بشدّة. نظم مدحت باشا تظاهرات مدفوعة الأجر لطلاب مدارس دينية، في سبيل دفع عبدالحميد إلى إعلان الحرب. وهكذا ابتدأت حرب كانت بمثابة نزيف شرياني بطيء للإمبراطورية العثمانية حتى انهيارها.

اندلعت الحرب في 24 نيسان 1877، وعرفت في التاريخ بحرب 93 نسبة إلى السنة الرومية 1293، ودامت 9 أشهر. وهي أكبر حرب عالمية جرت خلال تلك الفترة ما بين الحرب الألمانية الفرنسية عام 1870، والحرب الروسية اليابانية عام 1904. أصدر «شيخ الإسلام» حسن أفندي فتوى بالجهاد، وأخرى بمنح البادشاه لقب «الغازي» لتكتمل الأركان الشرعية والسلطانية للحرب.

من وقائع المراسلات الدولية والوساطات المعقودة في ذلك الوقت، ومناشدة عبد الحميد في نهاية الأمر الملكة فكتوريا لعقد الهدنة، وقبول القيصر بذلك، فإن كلا الطرفين كان راغباً بإيقاف الحرب، بل تمنّى عدم اندلاعها من الأساس، عبر صفقة الإنقاذ المذهلة، التي لم تتم بفعل لوبييْ الحرب عند السلافيين الطرفين. كانت المعادلة تقول: ربح صغير (للقيصر) مقابل خسارة صغيرة (للبادشاه) لتجنب الكارثة.

هذه الحرب، التي قتل فيها نحو 100 ألف جندي عثماني، سميت بـ»حرب 93»، وتسببت بانهيار الجيش الهمايوني (السلطاني) في البلقان على نحو سحقت معها كل الحاميات، وكان لها دور أساسي في كل الكوارث الكبيرة التي تلتها دولياً، بما فيها شرارة الحرب العالمية الأولى (التنافس النمسوي الروسي على التِركة العثمانية المفاجئة والضخمة)، وتهجير مليون مسلم من البلقان إلى تركيا الآسيوية في مطلع 1877، وفقدان قبرص لصالح الإنكليز، وخسارة ثلاث ولايات في شرق الإمبراطورية عثمانية (قارص- آرتوين- باطوم) لصالح الروس الذين احتلوا كذلك الجزء الحالي الأوروبي من تركيا، وتتوجت كل ذلك بالمذابح الأرمنية، وقبلها اندلعت ثورات كردية، بسبب طول الحرب في الجبهة الشرقية وقلة موارد الجيش الذي لجأ إلى نهب السكان، وهو تفصيل أسهب في شرح تداعياته السابقة واللاحقة الباحث ماجد محمد زاخويي. وكان من أخطر القرارات التي أدت إليها الحرب هو تعطيل البادشاه الغازي مجلس النواب، الذي تشكل قبل 13 شهراً. أيّد المستشار الألماني فون بسمارك هذه الخطوة، وقال فيها قولته الشهيرة التي وفّرت لمهزومين عثمانيين المقدمة التبريرية للقيام بالمذابح الأرمنية، وتتبع مسلك المفهوم الألماني للقومية: «إن لم يكن قوام الدولة شعباً واحداً، فإن ضرر مجلسها يكون أكبر من نفعه».

استمر هذا التعطيل مدة 30 سنة، هي فترة «الاستبداد الحميدي»، الذي بفضله كانت شعوب ما تبقى من الدولة العثمانية تدافع في عام 1920 عن قونيا وسيواس وليس عن استانبول وإزمير، بحسب «يلماز أوزتونا» في موسوعة الامبراطورية العثمانية.

يأتي زمن على الدول لا يكون فيه أي من الأشخاص في القيادة صالحين لأي مسؤولية عامة. والسبب ربما يكون فقط تسلل شخصية واحدة مثل مدحت باشا في البداية، ثم تتبعه الخلايا النائمة العميلة. كان هذا هو الزمن الذي كافح فيه السلطان «المستبد» عبدالحميد الثاني، فسحب سلطة القرار من مؤسسة الباب العالي المترهلة في الفساد. ويعود الفضل للشكوك الأمنية المريبة للسلطان في ترك كنز من الأرشيف الإداري بين أيدي الباحثين اليوم، حيث يورد أكمل الدين إحسان أوغلو في كتابه «الدولة العثمانية» أن السلطان عبدالحميد حرص على أن يتعرف بواسطة الصور الفوتوغرافية على كل ركن في البلاد، ويطلب بين الحين والآخر صوراً للأمراء والضباط، للتعرف بهذه الطريقة على موظفي الدولة. ثم تطور الأمر إلى تأسيس «لجنة سجل الأحوال» الذي يضم 196 مجلداً ضخماً.

كان لدينا إذا، فساد منظّم داخل إدارات الدولة، وتبعية مسؤولين كبار بشكل مباشر للدول الأجنبية. هناك حالات نادرة لمقارنتها مع وضع السلطان عبدالحميد. ومن خلال تتبع وقائع يوردها يلماز أوزتونا يمكن الجزم بأن عبدالحميد لم يكن يرى شخصاً صالحاً في الامبراطورية، والأسماء التي يوردها المؤلف مع الوقائع الموثقة، تؤيد وجهة نظر البادشاه عبدالحميد. خلال فترة «المشروطية»، كان السلطان يتجول في الأسواق ويقيم الصلاة في المساجد بين الناس، ويخطب في موظفي الدولة. كان في الشهور الأولى من حكمه يتصرف كحاكم ديموقراطي. لكن، حتى فيما بعد هذه الفترة القصيرة، يمكن على الأقل «تفسير» استبداده.. وليس تبريره. كان عبد الحميد يميل إلى التنازل عن قطعة الأرض الصغيرة لروسيا القيصرية، مقابل بناء تحالفات جديدة. لكن المؤامرات المختبئة خلف الشعبوية حالت دون ذلك. بالنسبة للطرفين الروسي والعثماني.

قد لا يكون للأمرين صلة، إلا أن هذا لا يمنع من تركيب حدثيْن من حيث المضمون: فالأمر ذاته، منطق رفض الهزيمة الصغيرة والانتصار الصغير، يكاد ينطبق على كل من النظام والمعارضة في سوريا، بالرغم من أن الطرفين يكافحان بصعوبة للابتعاد عن مصير الامبراطوريتين الروسية والعثمانية.

ماذا إذاً؟ لا يوجد إنكليز في الحرب السورية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى