صفحات الحوار

كانت تهمتي أنني من عائلة« أبا زيد»


سمر يزبك

أجريت هذا الحوار مع شاب من عائلة «أبا زيد» من مدينة درعا. كان من المقرر أن أعاود الحوار معه لأتابع ما حدث في درعا، لكن ذلك كان صعباً، مثل قصة الشاب الذي روى لي كيف بدأت حركة الاحتجاجات في بانياس، ومن ثم اختفى أيضاً، عرفت منذ يومين أنه معتقل. لا أعرف إن كان الشاب من آل «أبا زيد» قد اعتقل، لكنه اختفى أيضاً.

يقول الشاب وهو في بداية العشرين: «كانت تهمتي هي العائلة، يهينونني ويضربونني ويقولون: «أبا زيد» يا كلب. كنا دخلنا أنا وأخي التوأم إلى السجن في فرع الاستخبارات العسكرية».

أطلب منه أن يروي بداية الأحداث مسلسلة، كنت أريد الوقوف عند بدء حركة الاحتجاجات كما حصل في بانياس تماماً. قال الشاب، وكان حزيناً بطريقة لا تغتفر، وصوته على رغم كلامه المؤثر، كان هادئاً ومبحوحاً:

«في 18/3/2011 عندما ذهب الأهالي إلى عاطف نجيب، بعد أن اعتقل أطفالهم وعذبهم في السجن، طلبوا إطلاق سراح الأطفال. قال لهم عاطف نجيب: «انسوا أولادكم»، وأضاف كلمات بذيئة تناولت النساء.

خرجت الناس من عنده غاضبة. وعرف أهالي درعا بما حصل، واتفقوا في 18 /3 أن يخرجوا للتظاهر من الجامع العمري وجامع آخر. خرجوا من باب الجامع وصرخوا: «حرية حرية والشعب السوري ما بينهان»، وخرجنا كلنا معهم، حينها نزلت 16 طائرة مروحية في الملعب البلدي الجديد «مدينة الأسد الجديدة».

كانت التظاهرة تسير في الوادي، وتم رشهم بالماء عبر سيارات الإطفاء وحصل إطلاق نار وقتل أربعة، منهم محمود جوابرة وحسام عياش.

انتهت هذه الجمعة بلا اعتقالات وبأربعة موتى، والأمن بقي موجوداً بكثافة.

في اليوم الثاني 19/3 وعند الساعة السادسة صباحاً صاح الناس بأسماء القتلى في الجوامع وتجمعت الناس من أجل الجنازة. خرجنا كما يخرجون بجنازة شهيد ورفعنا التابوت على الأكتاف وخرجت أعداد هائلة باتجاه المقبرة ودفنّاهم، وكان الشيخ أحمد الصياصنة الذي أمسك الميكروفون ودعا إلى التهدئة وقال إنهم خلال 48 ساعة سيفرجون عن الأطفال، فصاح شاب: «دم الشهيد برقابكم». فقام الناس وصاحوا بإسقاط عاطف نجيب والمحافظ «ويا عاطف ويا نجيب بدنا نسّيك الحليب»… وخرج الشباب باتجاه الجامع العمري وعند الوادي كان بانتظارنا فيلق من عناصر الأمن ومكافحة الإرهاب وحفظ النظام وبلطجية ورجال أمن. كانت المسافة بيننا 100 متر، والشيخ محمد «أبا زيد» يحاول تهدئتنا. لم نستجب له، بقينا طويلاً واقفين وجاء واحد من أغنياء درعا وأزلام النظام «أيمن الزعبي» فضربه الشباب وبدأ إطلاق القنابل علينا مثل المطر، القنابل المسيلة للدموع، وصار هناك إطلاق رصاص وكان عاطف نجيب والمحافظ موجودين وهربا على دراجة هوائية، نحن انسحبنا باتجاه البلدة (حي الكرك) فأطلقوا علينا القنابل، فأشعلنا الدواليب. كنا مصممين على البقاء، وبقينا حتى الثامنة مساء وصار هناك إطلاق نار كثيف علينا وتفرقنا.

في 20/3 خرج أهل درعا البلد وعاتبوا أهل درعا المدينة لأنهم لم يخرجوا معهم. يومها طلع أهل البلد معنا، أيضاً كانت هناك قنابل وإطلاق رصاص والأمن يحيط بنا من جهتين، وضربنا الأمن بحجارة فانسحب، والناس كسرت مركز لـ «سيريتل»، لم يحرقوا البناء، أحرقوا فقط ممتلكات رامي مخلوف، أخرجوا الأجهزة وأحرقوها، وأصيب اثنان بجراح، كنا نضرب بالحجارة على القصر العدلي، والأمن هو من قام بحرق القصر العدلي، ولم تأت ولا سيارة إطفاء. لقد تعمدوا إحراق المباني، وتجمع عناصر الأمن عند بيت المحافظ وكانت درعا مثل حالة حرب. كان هناك الكثير من الجرحى، احتلوا المستشفى، وأي جريح يدخل يقومون باعتقاله أو إطلاق النار عليه، وكان التبرع بالدم ممنوعاً، هناك شاب اسمه وسام الغول، قام بالتبرع للجرحى فقتله رجال الأمن وهو فلسطيني.

الاثنين 21/ 3 استيقظنا وكانت السرايا محروقة، وفوجئنا بالحواجز العسكرية والمتاريس الرملية، كنا نتحرك في كل مكان حول عناصر الأمن، من كل مكان كنا نخرج وصار هناك اعتصام أمام الجامع العمري، وبنوا الخيام وطالبوا بإطلاق سراح المعتقلين والأطفال وإلغاء المادة الثامنة من الدستور وإطلاق سراح المعتقلات ومحاسبة القتلة. وفي 23/3 كانت المجزرة وكان يوم أربعاء، ولكن قبل ذلك في 22/3 كان الناس يعتصمون وكانت الأمور بخير. ومر نهار التظاهر على خير ولكن بين الثانية عشرة والنصف والواحدة ليلاً 23/3 بدأ إطلاق النار في شكل عنيف وحصل اقتحام الجامع العمري وأطلقوا النار على الناس في الجامع وسقط سبعة شهداء، وقاموا بضرب الخيام، ومزقوا صور الشهداء وكان الشيخ ينادي للمساعدة، ولكن أي إنسان يتحرك كان يتم قتله. اجتمع الشباب فجاء الأمن وأطلق النار علينا، كانوا يطلقون النار ويدوسون على الرقاب، حتى لا يتجرأ أي إنسان ويفتح باب بيته فيطلقون النار عليه مباشرة.

أهل القرى المجاورة سمعوا بما حدث فقرروا إغاثة أهل درعا، وجاء أهل القرى ودخلوا من القرى الشرقية ومن غرب درعا، وعندما اجتمعوا في المحطة قرب دوار البريد القريب من فرع حزب البعث سمحوا لهم بالدخول بسهولة بلا توقف، وبدأ إطلاق النار، قيل إن هناك 70 قتيلاً، لكن المؤكد أن هناك 200 وهناك جثث لم يتم التعرف إليها. بقينا نذهب هناك لأسابيع ونرى الأحذية الفارغة ونرى الدماء. لقد حصلت باختصار مذبحة».

الشاب من عائلة «أبا زيد» الذي لم يتوقف عن الكلام وكأن قيحاً يخرج من قلبه، توقف قليلاً لدقائق. كان صمته قاسياً، وأنا جعلت رأسي مدفوناً في دفتري حتى لا أنظر إليه، همهمت، فتابع: «الخميس 24/ 3 كانت الناس تحصي الشهداء وتلملم جراحها، وكان الجامع محتلاً والكل في حالة صدمة وذهول. جاء من «الحراك» حوالى 100 ألف من البشر العاريي الصدور والحفاة فأطلق رجال الأمن والجيش عليهم النار، وهرب المتظاهرون إلى البيوت ففتح الناس البيوت وخبّأوا الناس، واكتشفنا أن هناك أعدداً كبيرة من المفقودين، وحتى الآن لم نعرف إن كانوا ميتين أو معتقلين. الأهالي على رغم الموت والاعتقالات كانوا شجعاناً، أبي قال: «أنا بقدمكون كلكم شهداء».

كان الظلم لا يحتمل. الناس التي قتلت لم تكن أغلى منا، كانوا يعيشون بيننا.

خطبت بثينة شعبان، واستبشرت الناس خيراً، وجاء رجال وحمّلوا الناس صور الرئيس تأييداً له، وكان هؤلاء من الأمن والبعثيين الحزبيين الذين قدموا في باصات ليظهروا أنهم يقومون بتأييد الرئيس. ازداد استفزاز الناس الذين يشيّعون أولادهم عبر هذه الأعراس التي قاموا بها إلى جانب الجنازات.

في الجامع عندما انسحب الأمن، كان كل شيء مخرّباً وكانت هناك كتابات فارسية، أنا رأيت عناصر أمن كانت لهم لحى مشذبة وغريبة عن رجال الأمن الذين نعرفهم. قيل في ما بعد إن أحد القناصة من الذين قبض عليهم لم يكن يتكلم العربية. في ذلك اليوم في 24 /3 قالت الناس للمرة الأولى: الشعب يريد إسقاط النظام.

25/ 3 تجمعت الناس عند الجامع العمري بأعداد هائلة وكان هناك دفن للشهداء. كانت هناك حشود هائلة، أكثر من مئتي ألف نسمة. وصمم الناس على الخروج والتجمع في ساحة المحافظ، وكان لدينا تعهد ألا يتعرض لنا أحد من الأمن أو الجيش، وبثينة شعبان قالت إنه لن يتم إطلاق نار على المتظاهرين، فتجمعت الناس بكثافة وهتفت بصوت واحد: «الشعب يريد إسقاط النظام». وعندها ونحن نتظاهر وصلنا خبر مجزرة الصنمين حيث سقط أكثر من 20 قتيلاً، وعندما تأكدنا من الخبر، جنّ جنون الناس، فقفزت الناس على صور الرئيس ومزقتها وهجمت على تمثال الرئيس وضربت التمثال وهزّته بعنف، فصار هناك إطلاق نار كثيف من بيت المحافظ. كان هناك قناصة وكانت النساء حينها تقف إلى جانب الرجال، ومع إطلاق النار الكثيف لم يتحركوا، بقوا حتى أسقطوا التمثال ومن ثم أحرقوه. وبقي إطلاق النار ساعتين، وهجم الناس على بيت المحافظ لإنزال القناصة الذين يقتلون المتظاهرين، ومن ثم أحرقوا بيت المحافظ، وبقي يحترق لساعات. بعد أن انتهى كل ذلك عرف الناس أن العقاب سيكون قاسياً، ولكن على رغم ذلك بقوا هناك وأحرقوا إطارات أمام بيت المحافظ.

31/ 3 يوم الخميس: تحدثت القيادة في النظام مع أهل درعا ليلتقوا بالرئيس وخرج 25 شخصاً من أجل هذه المهمة، وكان من اختارهم «هشام بخيتار» خمسة عشر شخصاً، والناس اختارت عشرة. وقبل أن يخرجوا للقاء الرئيس قالت النسوة للعشرة الذين اختاروهم: «برقبتكم دم وأنتم تمثلونا». من بين المطالب التي وضعها الرجال الخمسة عشر المتعاونون مع الأمن كان طلب إعادة المنقبات، أهل درعا لم يطلبوا ذلك، ولاحقاً أُزيح هذا المطلب. قابلوا الرئيس ورجعوا في العصر، سمعنا أن العشرة الذين اختارهم الناس دخلوا على الرئيس بكرامة والدكتور هشام محاميد وهو أخو شهيد قتل في الأحداث اسمه علي المحاميد، عندما دخل الرئيس، دق على صدره وقال له: نحن من مزقنا صورك وأسقطنا التمثال وأنتم قتلتم أخي. الرئيس، كما عرفنا، كان ديبلوماسياً ومتحدثاً لبقاً ومتعاطفاً وقال لهم: أي شيء تريدونه نحن جاهزون، أخذوا معهم الصور والـ «سي دي» والأفلام وجعلوه يرى كل شيء، فقال لهم إنه لم يكن يعرف بأي شيء، ووعد الرئيس بانسحاب الأمن والجيش وقال إنه سيعمل ما يريدونه. وفعلاً انسحب الجيش وخرج المعتقلون وخرج الأطفال أيضاً.

شعرنا أن هذا انتصار. في 1/4 جاء كل أهالي القرى إلى درعا وجاء الناس من دمشق، وخرجنا من البلد باتجاه المحطة ولا يوجد رجل أمن واحد. كنا سبعمئة ألف إنسان تقريباً، أعداد هائلة، وكان النهار حاراً، ومع ذلك بقي الناس في الساحات، في ثلاث ساحات والكل يردد: «الشعب يريد إسقاط النظام»، والناس بدأت تحمي المنشآت الحكومية حتى لا يحدث تخريب. لم يكن هناك حتى شرطة مرور، كانت الناس تلم الأوساخ وتنظف الطرق، وتحمي البلدة. وأعلن العصيان المدني، بقينا أسبوعين نتظاهر ولا يوجد عناصر أمن، بعد ذلك وكانت «جمعة الصمود»، خرج الناس من الجامع العمري باتجاه المحطة، وحصل إطلاق نار، ومات الكثير من الناس، هناك قصة لموسى جمال «أبا زيد»، الذي أصيب برجله وأسعفه الناس إلى الجامع العمري حيث صنع الناس مستشفى هناك، الناس كلها كانت تساعد بعضها بعضاً، جمال أصيب برصاصة في رجله لكنه رفض ترك التظاهرات وكان يبدو أنه استنشق غازات مسيلة للدموع وأظن أنها كانت سامة، فأسعف مرة ثانية إلى مستشفى الجامع، عاتبه الأطباء لأن وضعه لم يعد يحتمل، لكنه رفض البقاء بعيداً من الناس، وفي التظاهرة أطلق قناص الرصاص على رقبته فمات.

قتل 20 شخصاً، وكان الأمن طوال الوقت يقتل الناس أثناء مرورهم في الطرق والشوارع. أحد أصدقائي قتل على أيديهم وهم يطلقون النار عشوائياً، كانوا متوحشين، هناك قصة محمد أحمد الراضي وهو طالب جامعي يدرس في قسم المكتبات من مواليد 1986، كان في بيت خطيبته، نزل من البيت، وكان بيتهم عند «بنك الدم» وهو الشارع الذي شهد المجزرة، رأى الناس المصابة في الشارع ونزل بهدف الإسعاف والتصوير، كان في يده حجر للدفاع عن نفسه، أصيب برصاصة في بطنه، وسقط ولم يستطع الناس إنقاذه فوراً، سبقهم الأمن إليه، ومثّلوا بجثته، كان دمه مفصولاً عن رأسه. عندما انفضّ الأمن عنه، جاء الناس ليسحبوه ويسعفوه لكن الأوان كان قد فات، وقع دماغه من رأسه أمامهم.

في 25/4 دخلوا درعا، بداية الاجتياح في الليل، كانت الناس استشعرت الخطر، وكانت لدينا إشاعات تقول إن الأمن سيدخل، والناس كانت تقوم بإنشاء الحواجز وتنظم لجاناً لحماية المدينة، لم نكن نعرف أنهم سيدخلون إلى درعا بالدبابات، لكن الدبابات دخلت وجه الصبح، كانت هناك 8 دبابات، وتم قطع الكهرباء وخطوط الهاتف الأرضي والنقال، وبدأ إطلاق النار في شكل كثيف لمدة 17 ساعة، وتم تخريب مراكز ضخ المياه التي تأتي من مزاريب، وضربت خزانات المياه بالرصاص وكذلك الخزانات الكبيرة أيضاً، ثم دخلت الدبابات الحارات، كان في درعا حينها 75 ألف عسكري من أصل 200 ألف عسكري وهو عدد أفراد الجيش السوري، قاموا باقتحام درعا برفقة مخبرين من درعا عرفنا في ما بعد أسماء بعضهم. كان هذا في درعا المحطة، ودرعا البلد لم يكونوا قد دخلوها بعد، فتشوا واقتحموا البيوت واعتقلوا الشباب كلهم بين 15 والـ 40 سنة، وكل أصحاب البيوت الذين رفضوا وضع قناصة على أسطح منازلهم قاموا باعتقالهم، اعتقلوا كثيرين، ربما حوالى عشرة آلاف وكان هناك المزيد من الأسماء المطلوبة وصارت القائمة تتزايد، والتهمة كانت التظاهر والهتافات.

بيوت درعا خُرقت بالرصاص، وغالبية البيوت رشت بالداخل والخارج بالرصاص، ثم خربوها في شكل وحشي فظيع. بعد 8 أيام من دخول البلد، وهناك مناطق رحل أهلها عنها وكان القناصة ينتشرون على أسطح البيوت ويطلقون النار على أي كائن يتحرك، وأثناء هذا الحصار صار من الصعب انتشال الجثث، فتحللت… كان هناك براد في المنشية، وفي ساحة النبابنتة برادان مملوءان بالجثث، قام الأهل بتخبئة البرادين والجثث من رجال الأمن، لكن الأمن كان يسرق الجثث ولا يعود بها، والأهل – حتى لا يسرق الأمن الجثث – حملوا سلاحاً وحموا البرادين، لكنهم لم يطلقوا النار أبداً، لقد حموا قتلاهم فقط. انسحب الأمن، وبعد 4 ساعات رجعت الدبابات وبدأوا بقصف البيوت وأطلقوا النار على البيوت المحيطة بالبرادات».

يتوقف هنا حديث الشاب. يخرج مع أصدقائه بسبب طارئ أمني، على أمل أن ألتقيه مرة أخرى، ليروي لي ما حصل بعد حصار المدينة وكيف عاش الناس الحصار. لكن الشاب لم يعد، أسأل عنه، فأعرف أنه مريض، وأنه منذ خروجه يعاني التهابات نتيجة التعذيب الذي تعرض له أثناء اعتقاله.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى