رستم محمودصفحات سورية

كتاب “التربية الوطنية”

رستم محمود

 كيف سيسرد مثلاً كتاب “التربية الوطنية” السوري مستقبلاً؟ سيرة الأعوام المريرة الراهنة، من تاريخ البلاد؟

لا يمكن للمرء أن يتخيل ذلك الكتاب، إلا وأنه يسلك المسار التقليدي في أنواع الأدبيات المشابهة، تلك التي تتقصّد عبر المؤسسة التعليمية التربوية الوطنية، تأسيس فضاءات من “الألفة الوطنية”.

سيسرد الكتاب المتخيل، حكاية شعب قاوم استبداداً مكيناً، ولم يبخل في البطولات وأشكال الفداء، وهو ما لا خلاف عليه. لكن الكتاب نفسه، سيمتلئ بنماذج وسرديات وصور عن “الوحدة الوطنية” العميقة التي لفت عموم البلاد. ولن يبخل في تصوير عموم السوريين، باختلاف طبقاتهم وإثنياتهم وأديانهم وطوائفهم ومناطقهم وأمزجتهم وخياراتهم وفسادهم وصلاحهم وولاءاتهم، ككتلة واحدة متآلفة على قلب رجل واحد. ولن يأتي أبداً، على ذكر تلك “الكائنات الفضائية” التي قتلت عشرات الآلاف من أمة المواطنين السوريين، وطبعاً لن تنبت بكلمة واحدة عن اختلاف مستويات وأشكال وأسباب ووقائع اندلاع الثورة السورية، في الطبقات والبيئات والحساسيات السورية المختلفة، ففي ذلك مسّ حقيقي للشخصية الوطنية والعيش المشترك، وإن كانت متطابقة مع روح المنطق وإن كان ما حدث صحيحاً.

إذ سيغدو ذلك الكتاب، شكلاً حديثاً لمرويات “التربية الوطنية” عن المرحلة الاستعمارية، والتي كانت تختصر تاريخ تلك الحقبة بجمل قصيرة: مستعمرون قساة وحشيون، طامعون ونهابون لثرواتنا الوطنية، مقابل شعب نبيل يسأل عن حريته بوحدته ووعيه الوطني العميق… الخ . حيث خلت تلك المرويات، من أي ذكر لتفاوت وتباين الحساسيات المناطقية والمذهبية والدينية الوطنية تجاه ذلك المستعمر، ولا على تفاصيل ودوافع اندلاع الثورات الوطنية والهبات المحلية المناهضة له، ولماذا اندلعت في أزمنة متفاوتة ومناطق مختلفة وبمستويات غير متساوية، فكل ذلك لا يخدم “الوحدة الوطنية” المبتغاة فيما بعد . ولم تأت تلك المرويات، على أي ذكر لأثر المستعمر وأدواره التأسيسية في البنية التحتية العمرانية والتنموية والثقافية والتنظيمية في الكيان السوري وقتئذ، فهذا أيضاً قد يخلخل الذهن الجمعي المرغوب في تشكيله. وإن كان كل ذلك، يخالف إلى حد معقول، جوهر ما حدث وأبعاده.

الجوهري الدائم في تلك السرديات هو: تثبيت للتراص والتشابه والاجتماع الذاتي البيني الداخلي، الابتعاد عن التفاصيل وتعويم المجريات، تجريد الأحداث ونبذ التعين.. الخ. فهذه الشروط تشكل منبت حفظ الكيانية “الوطنية” وأس وجودها. وكل ما هو غيرها، يبتغي التفتيت والبعثرة.

بتلك الشروط المؤسسة، ولرهبة تلك “الوحدة الكيانية” المبطنة، تبلور هذا النمط الخادع من السرديات “الوطنية”، والتي تغاضت عن كثير القواعد البسيطة في علم الاجتماع السياسي لمنطقتنا، تلك التي يمكن البناء عليها ببساطة في كتب “التربية الوطنية” في مستقبل بلادنا: “نحن نحيا في كيانات اصطناعية، حيث لا تنطبق حدود الهويات الإثنية والدينية والمذهبية واللغوية فيها، مع حدودها الجغرافية السياسية؛ لكن لا داعي لبعثرة هذه الكيانات، فكل الكيانات والدول اصطناعية، وإن بدرجات متفاوتة. فالحدود الجغرافية السياسية لا تعني وتبتغي سلب حق أحد من أبناء هذه الهويات المتنوعة الواقعة ضمن حدود هذه الجغرافية، فهذه الحدود شكل من الإدارة والتنظيم فحسب، تبتغي تشكيل التآلف الوطني، الذي يجب أن يسلك طريق الاعتراف المتبادل، لا الصهر والمغالبة، بالضبط كما حدث مع كثير من الكيانات في عالمنا المعاصر.

من جهة أخرى، فإن تاريخ هذه الجماعات التي تؤلف مجتمعنا الوطني هذا، لم يكن تاريخ وئام وتراص وتطابق، بل كان ثمة عبر مراحل مختلفة، الكثير من الحساسية والتنابذ والصراع والتصادم. لكن هذا لا يعني ديمومة تلك الأشكال العلاقات بين جماعاتنا الوطنية، لأن جوهر ذلك الصدام، كان غياب قيم التساوي الفردي والجمعي في ما بينها وقتئذ، وغياب قيم القانون والمجال العام المجرد ومتساوي المسافة من أفراد هذه الجماعة الذين يشكلون مجتمِعين أمة المواطنين الحديثة، وتحدد القيم الديموقراطية أشكال علاقة بعضهم ببعض وبالكيان الجامع بينهم… الدولة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى