صفحات الرأي

كتاب مرجعي للألماني فولكر بيرتس “الاقتصاد السوري تحت حكم الأسد”


دولة “تضامنية” تتصور المجتمع كتلة عضوية وتخترق الحدود الطبقية لمنع منافسة تعددية

تقديم واختيارات: يقظان التقي

“الاقتصاد السياسي في سوريا تحت حكم الأسد” عنوان كتاب مهم للباحث في المعهد الالماني للشؤون الدولية والأمن الدولي والرئيس التنفيذي والمدير في المعهد فولكر بيرتس وذلك عن منشورات “رياض الريس للكتب والنشر”، ترجمة عبدالكريم معوض ومراجعة حازم نهار.

الكتاب يعالج التطور الاقتصادي لسوريا في ظل حكم البعث وفي مرحلة الأسد الاب والعلاقة المتبدلة بين القطاعين العام والخاص، ثم يتطرق الى التبدل السريع في الثمانينات في النسيج الاجتماعي في سوريا انطلاقاً من التحرك الفعلي للطبقات الاجتماعية الناشئة.

ومع ان الكتاب نشر قبل 15 عاماً، ففي متنيه يتناول سوريا اليوم وعبارة عن تحليل علمي لمرحلة التسعينات وتقويم من الكتب المرجعية المحكمة في الاقتصاد السياسي في سوريا.

من الأخطاء اللافتة ان المؤلف لم يكن يتوقع أن يخلف بشار الأسد والده حافظ الأسد في عام 2000. أكثر من ذلك، لم يكن الكاتب ليتوقع ان يدخل الرئيس الشاب غير المنازع على حكم سوريا نادي رجال الدولة القدماء ويخدم فترتين رئاسيتين أكثر من رئيس الولايات المتحدة الأميركية.

الكتاب تاريخي بامتياز، ويسمح باجراء مقارنات عن الذي تغير؟ وما الذي بقي على حاله؟ علماً ان الاقتصاد السوري كان دائماً اقتصاداً سياسياً، ومع الاشارة ان التحرر الاقتصادي كان في بداياته في التسعينات وبالكاد سمح لاحقاً بالاستيراد الخاص للسيارات وانشاء البنوك الخاصة التي ظهرت في الاول من عقد الواحد والعشرين الى ظهور البورصة، وبحيث اصبح القطاع الخاص في الصدارة على خلاف ما بدأ في ظل حكم الأسد الاب، حذراً جداً. وما كان مرضاً في ظل حكم الأسد الاب والمقصود الفساد بفعل الطبقة البرجوازية التجارية أصبح في حكم بشار الأسد الابن سرطاناً! لاسيما مع النقص الشديد في الاصلاحات في القطاع القضائي، إذ لا تزال المحاكم غير مستقلة، ولا يزال “حكم القانون” مفقوداً في سوريا.

السؤال الرئيس الذي يعالجه الكتاب: هل نجح بشار الأسد في ادارة بلاده جيداً؟

واقع الحال ان الرئيس الأسد حاول الدفع بأجندة الاصلاح الاقتصادي وتابع بعض المشاريع الاقتصادية الاصلاحية ولو كانت ضد مقاومة بعض جماعات الضغط المحلية في الوقت الذي تضاءلت فيه موارد سوريا الطبيعية، إذ أصبحت سوريا مستوردة صافية للنفط في العقد الاخير، ومواردها المائية شحيحة وتسلم الأسد سوريا بتعداد سكاني 9 ملايين في العام 2000 وتزايد العدد الى 18 و23 مليوناً راهناً. ثم ان الأسد الاب سعى دائماً للسلام مع اسرائيل للحفاظ على التنمية الاقتصادية ومنع الانحدار اكثر امام دول اخرى مثل شمال افريقيا وجنوب آسيا. وكان رهان الأسد على مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية اذ ما نجح باقناع اسرائيل بالانسحاب من مرتفعات الجولان المحتلة بالطرق الديبلوماسية مقابل التوصل الى انشاء سلام في المنطقة. والأسد كان جاداً في محاولته الاخيرة المفاوضات غير المباشرة مع اسرائيل وبوساطة تركية. أما لماذا لم يجر اصلاح الهياكل السياسية في سوريا فالجواب بسيط، لأن حزب البعث يتمتع بامتيازات استثنائية بموجب الدستور، ولأنه أصبح للأجهزة الامنية تأثير سياسي اكثر من أي وقت مضى على الامور السياسية في البلد والسلطة القضائية غير مستقلة والسلطة الاعلامية تتكلم باسم النظام، ولا توجد معارضة سياسية ولم يسمح لها حتى تلك السلمية ولم يجد نفعاً “التحديث السلطوي”، فلا سوريا تكيفت في بنيتها الخارجية مع العالم، وفي الداخل بقيت سلطوية مع نظام سياسي يخضع لسيطرة محكمة.

والحال في مسألة حقوق الانسان لم تتحسن وسجن عدد كبير من العقول النقدية الذكية والبارزين في جماعات الاصلاح وحقوق الانسان على يد النظام وبعضهم على نحو متكرر لفترات طويلة ولم يكن احد مقتنعاً ان هؤلاء الناشطين سيشكلون خطراً على الدولة، وبعضهم يريد ببساطة المساهمة في تنمية بلاده الثقافية والسياسية وبعضهم من أفضل العقول الاقتصادية في سوريا، وهي خسارة وخطأ كبير ارتكبه الأسد الابن الذي كان بحاجة لهؤلاء لشحن طاقات شعبه لتطوير امكانات بلاده وتحمل الرياح العاتية للعولمة والمنافسة الاقليمية.

في الفصل الرابع من الكتاب دراسة واسعة عن التنمية السياسية والصورة الذهنية عن النظام السوري القائلة بأنه نظام فاشي ذو ميول شديدة لتطوير بنى مؤسساته.

وواقع الحال ان سوريا تطورت منذ تسلم الأسد السلطة الى دولة “سلطية قوية” تماماً في توطيد أركان الهيمنة السياسية والاجتماعية، الامر الذي يبرهن عليه برهاناً قاطعاً الطريقة التي جرت فيها عملية الاصلاح الاقتصادي.

جانب مهم تكشف الدراسة ان استيرادات سوريا من الاسلحة دفع ثمنها حلفاؤها العرب وتحديداً بلدان مجلس التعاون الخليجي وليبيا والاتحاد السوفياتي (على أساس قرض امتياز). وهذه الاستيرادات على العموم لم تشكل عبئاً على ميزانيات سوريا ووضع قطعها الاجنبي الذي هبط الى ارقام قياسية راهناً مع انخفاض سجلته الليرة السورية ازاء الدولار من 43 ليرة للدولار الواحد الى مئة ليرة للدولار الواحد راهناً. ثم ان المعونة العربية الخاصة غطت قسماً من التكاليف المالية التي نجمت عن التدخل العسكري لسورية في لبنان!!. بلدان مجلس التعاون الخليجي الذين يعاديهم بشار الأسد الآن، هي على وجه الخصوص التي كانت تدفع ليس فقط ثمن واردات سوريا من الاسلحة، بل كانت تقدم معونة مالية هامة كانفاقات لتطوير سوريا تطويراً مدنياً أيضاً. ان التمويل العربي لسوريا كان أكبر بكثير مما كان عليه لأي بلد مماثل آخر أقل اهمية استراتيجية من سوريا على اعتبار “انها كانت تمثل العدو الموثوق لإسرائيل” وليس عدواً.

هنا فصل من الكتاب يتناول الشريحة البرجوازية التي استفادت الى اقصى حد من سياسات النظام السوري الاقتصادية. هذا الاقتصاد السوري الذي ينهار اليوم ويتداعى لأنه صغير الحجم ومحدود الامكانيات ومعزول عن العالم الخارجي، فعائدات السياح اختفت تقريباً وتحويلات المغتربين تراجعت إن لم تختفِ. وعائدات النفط توقفت والنظام يستورد مادة المازوت اليوم لجيشه من لبنان، والعملة الصعبة تأثرت بالعقوبات على البنك المركزي السوري والينابيع العراقية والايرانية جفت حتى مساعدة ايران للنظام 5,8 مليارات دولار تبخرت مع انخفاض سعر العملة السورية 100 ليرة سورية للدولار الأميركي الواحد. والكهرباء في سوريا لا تغطي سوى ساعتين في اليوم. والرهان على انهيار النظام بنظر البورجوازية السورية صار حقيقة مع انهيار حجم الاقتصاد السوري 54 مليار دولار الى مستويات ضعيفة جداً وتلك الشرائح البرجوازية باتت تخشى من انهيارها التام مع انهيار النظام.

تقديم واختيارات:

يقظان التقي

بعض الشرائح البورجوازية الجديدة تتجذر عموماً في الطبقات الوسطى

والوسط العسكري ومن أشبال البروليتاريا

[ بنية النظام التسلطية

تحولت سوريا في ظل حكم حافظ الأسد الى دولة قوية لصيانة الامن الوطني، اي ان مبرر وجودها raison deter في مخطط القائمين عليها كان بالأساس خدمة الأمن الوطني وأمن النظام في آن واحد معاً. فالنظام السياسي الذي بني بعد تسنم الأسد السلطة كان مختلفاً عن النظام الليبرالي المتقلقل الموبوء بالانقلابات الذي اقيم في الفترة التي اعقبت الاستقلال، وكان مختلفاً في الوقت نفسه عن النظام الحزبي العسكري الهش الذي اعتمد أسلوب التجربة والخطأ بالشكل الذي كانت تتسم به المرحلة الاولية لحكم البعث من عام 1963 حتى عام 1970. وافضل ما يمكن وسم نظام الأسد به هو انه نظام رئاسي تسلطي بملامح وراثية واضحة. فالنظام تسلطي بمعنى أن السلطة السياسية فيه متمركزة بشكل شديد، ويؤدي العسكريون والبيروقراطيون في هذا النظام دوراً طاغياً، في حين ان مساحة التنافس التعددي والمجتمع المدني محددة تحديداً ضيقاً، علاوة على ان المشاركة السياسية ما هي، في أحسن الأحوال، إلا هبة اصطفائية. وان الدور الذي تؤديه شخصية الرئيس، والتوجه الشديد لتأمين المصالح السياسية، فضلاً عن المصالح الاجتماعية والاقتصادية لشبكات الاستزبان، والأهمية الكبيرة المنوطة بالعلاقات والولاءات الشخصية، التي هي في غالب الأحيان تقليدية أو بدائية، تضفي كلها على النظام وجهه الوراثي.

تتجسد السمة الاساسية لهذا النظام السياسي بذلك المقدار الكبير من التحكم الذي تمارسه الدولة على المجتمع بالوسائل التسلطية والوراثية على حد سواء. فهذا التحكم هو ما وفر بالتأكيد للنظام رسوخه وتعميره بذلك الشكل الاستثنائي الذي طالما أشاد المراقبون به. بيد ان هذا النظام خلق في الوقت نفسه مناخاً من الخنوع والهمود الموسومة بهما كل الأنظمة التسلطية.

لقد أرسيت الاسس لمؤسسات النظام في أوائل سنوات حكم الأسد، بيد ان النظام لم يبق بمنأى عن التغيير الشامل منذ نشأته حتى اليوم، وإنما تعرض للتطور تدريجاً. فإلى الحد الذي كانت النظرة فيه الى ان مشاركة مصالح مختلف شرائح المجتمع أمر ضروري، كانت التطورات تتبع التمثيل الجماعي للدولة التضامنية التسلطية. ولقد اشير سابقاً الى انه في الوقت الذي لم يكن فيه مفهوم الدولة التضامنية corporatism قد دخل الخطاب السياسي العربي، او دخله أخيراً ليس إلا، فإنّ منطق هذا المفهوم، برفضه الصراع الطبقي والتعددية الليبرالية في آن واحد معاً، ليس بالتأكيد شيئاً دخيلاً على الأنظمة في الشرق الأوسط؛ إذ ان الدولة التضامنية التسلطية تتصور المجتمع بأنه كتلة عضوية تنفذ فيها مختلف جماعاتها الوظيفية مهمات معينة تحت قيادة الحكومة. وبناء على هذا النموذج، فإنّ الجماعات الوظيفية التي ينقسم اليها المجتمع كالمنتجين الزراعيين والعمال والتجار والعسكر.. الخ يجب تنظيمها في تجمعات اجبارية، لا تنافسية، متمايزة وظيفياً، هرمية البنية، كي تمثل بالحصر أفراد تلك الجماعة الوظيفية ومصالحهم المشروعة امام الدولة. وإن الدولة قد تكلف هذه التجمعات بمهمات شبه حكومية معينة تخص اعضائها وميدانها الوظيفي، كذلك فإنّها تختار انتقاء بعض عناصر قياداتها لاشراكهم في المؤسسات الحكومية الرسمية. وعلى العموم فإن المساومات على تخصيص الموارد يجب الا تحدث بين هذه الجماعات المختلفة، بل بين كل جماعة على حدة وبين الحكومة وعلى اعتبار ان الحكومة هي “العقل المدبر” للجماعة السياسية وهي الحكم النهائي بين المصالح المتضاربة. فالتضارب لا يمكن ان يتفاقم الى حد الصراع العدواني، وذلك لأن الكتلة البشرية السليمة لا يمكن لها أن تكون في صراع مع نفسها كما ان أية شريحة من شرائحها لا يمكنها ان تتحرك إلا بالاتساق مع كل الشرائح الاخرى مع العلم بأن الاتساق مهمة بالطبع من مهمات الحكومة، وبناء على ذلك، يوجد في الأنظمة التضامنية corporatist systems ميل شديد الى نشدان حلول بإجماع الآراء كتلك الحلول التي تشمل كل الجماعات حيث تتقبل كل جماعة منه، بمقدار ما يتعلق الأمر بها، المصلحة العليا للكل وتتقبل حق القيادة في تحديد هذه المصلحة العليا. فالنظام القائم على الدولة التضامنية corporatism، باعتباره يميل الى تنظيم المجتمع وتأطيره في جماعات وظيفية تخترق الحدود الطبقية وتمنع قيام المنافسة التعددية الليبرالية في ما بين المصالح والأفكار والمطالب المنظمة تنظيماً طوعياً، يمكنه أن يقوم بدور الأداة لضبط واحتواء شرائح المجتمع وطبقاته التي لا تنال نصيبها العادل من الحلوى المعسولة. وكلما اقتضت الضرورة صقل المؤسسات السياسية، من جراء تزايد تعقيد الهياكل الاقتصادية/ الاجتماعية، فإنّ الآليات التضامنية corporatist mechanisms تجيز إشراك المجموعات الأساسية إشراكاً اصطفائياً في عمليات صنع القرار دون أن يفضي ذلك الى صبغ النظام عملياً بالصبغة الديموقراطية.

فالأسد وضباطه لم يشيروا في أية مرحلة الى الدولة التضامنية corporatism ولم يجعلوا من النماذج التضامنية corporatist examples قدوة للنظام السوري. ولكن الأسد كان يشير بين الحين والحين الى الأفكار العامة التضامنية corporatist notions. فذات مرة اقترح الأسد، في مناقشة عن مستقبل الحزب والدولة التي قيل انه استهلها قبل تسنمه السلطة نهائياً في عام 1970، وجوب تنظيم الحزب على شكل قطاعات استناداً الى تصنيفات مهنية لا جغرافية. ولقد لمح أكثر من مرة إلى ان المنظمات الشعبية في سوريا كانت عملياً مسؤولة، أو يجب أن تكون مسؤولة عن المسائل ذات العلاقة بعمل المجموعة التي تمثلها، والى ان المشاركة الشعبية يجب ان تحدث من خلال هذه المنظمات. وفضلاً عن ذلك فقد بيّن بشكل واضح، في خطاب عام 1980، ان كل ما له علاقة بالزراعة وكل ما له علاقة بالعمل والصناعة سيكون تقريره بأيدي اتحاد الفلاحين واتحاد العمال على التوالي. إن المنظمات الشعبية لم تعط بالطبع سلطات تشريعية، ولكن اتحاد العمال واتحاد الفلاحين اضيفا في تلك السنوات نفسها الى الجبهة الوطنية التقدمية التي تظهر رسمياً على انها الهيئة القيادية سياسياً. ووفق البيان الرسمي فإنّ تاسيس الجبهة بحد ذاته كان يستهدف تعميق وحدة الشعب وتلاحمه، وهي الفكرة المتسقة كثيراً مع الرؤية التضامنية corporatist vision، أي دولة على هيئة كتلة خالية من الانقسامات الداخلية.

[ شريحة البورجوازية

إن تلك الشريحة من البورجوازية التي استفادت الى أقصى حد من السياسات الاقتصادية التي انتهجها نظام الأسد، كانت تلك البورجوازية التجارية الجديدة في سوريا، ولاسيما شريحتها العليا المعروفة بالطبقة الجديدة. فالمنبت الاجتماعي للبورجوازية التجارية الجديدة مغاير للمنبت الاجتماعي للطبقة الجديدة التي يحاول افراد منها، بما تيسر لهم من ثراء جديد ومقدار معين من الوجاهة، ان يرفعوا من مقام تاريخ عائلاتهم بعض الشيء، ولكن الحقيقة تشير الى ان القلة منهم تنحدر من الطبقة التجارية القديمة، في حين ان قسماً كبيراً منهم ينحدر من البورجوازية الصغيرة، وآخرين ينحدرون من الطبقات الوسطى المأجورة، فضلاً عن ان بعضهم ينحدر من الوسط العسكري وحتى من أشباه البروليتاريا. وان بروز هذه الطبقة الجديدة وثيق الارتباط بعاملين اثنين، أي بعلاقاتهم الشخصية مع بعض رجالات السلطة، وبارتفاع الانفاق العام، حيث كان العامل الثاني مدراراً للربح الوفير للطبقة التجارية برمتها. فتقريباً كل ما كانت تطلبه الدولة وتشتريه، والقطاع العام سواء أكان سلعاً استهلاكية للتوزيع من خلال شبكات مبيع التجزئة في القطاع العام، أم كان سيارات وآلات ومواد خام لصناعات القطاع العام أم مصانع جاهزة تماماً كان يتيح الفرص أمام التجار والوسطاء واللاهثين خلف العمولة.

ولكن المقصود بهذا القول ليس التلميح الى ان كل الصفقات التي عقدتها السلطات السورية أو القطاع العام كانت تنطوي على ممارسات فاسدة، إذ ان آلاف الأفراد من الطبقة التجارية في سوريا كان بمقدورهم ان يستفيدوا من عقود مع الدولة، حتى دون مضاربات كبيرة. فتلك الطبقة التي من الممكن نعتها نعتاً صائباً بالطبقة الجديدة لا تتألف من أكثر من عدة مئات من الأشخاص الذين كانوا يدأبون، وما فتئوا، على عقد الصفقات الضخمة من خلال علاقاتهم، والذين كانوا يدخلون في أغلب الأحيان في شراكات سرية مع شخصيات مرموقة من الوسط البيروقراطي أو العسكري أو السياسي. وان بعض أنشطتهم كالتهريب والاتجار بالبضائع المهربة أنشطة غير قانونية أو شبه قانونية، إذ ان الأساليب غير القانونية، أو المتسمة بالتحايل على القانون، يمكن بالطبع استخدامها لتسيير كل الأعمال التي لولا أساليبهم تلك لكانت أعمالاً قانونية تماماً، كتمثيل الشركات الأجنبية ذلك التمثيل الذي هو بحد ذاته أمر قانوني تماماً. وفضلاً عن التمثيل والسمسرة فإنّ أفراد هذه الطبقة الجديدة يقومون بأدوار التجار والمتعهدين أيضاً، وقد يعمدون في ظل بعض الظروف المعينة لاستثمار أموالهم في مشاريع بميادين الزراعة أو الصناعة أو الخدمات.

[ بيروقراطية بلا رقابة

ان أفراد الطبقة الجديدة ليسوا بتلك البساطة أكبر من بقية البورجوازية التجارية ولا هم أقل منها تدقيقاً للأمور. فالسمة الاساسية لهم تتمثل باعتمادهم على دولة تتحكم بأجزاء كبيرة من الاقتصاد الوطني دون أن تكون قادرة على تجاهل بعض الخدمات المطلوبة من لدن رجال الاعمال الخصوصيين، علاوة على ان بيروقراطيتها لا تخضع لأية رقابة ديموقراطية. وان كل الأنشطة الأساسية للطبقة الجديدة كانت تمت بصلة الى الدولة بطريقة أو بأخرى، مستغلة طبيعتها الفاشية. فالشيء الذي كان مصدر الشكاوى للمعتهدين الآخرين أي تحكم الدولة بالقطع الأجنبي وبالواردات والصادرات والاسعار، وبكلمات أخرى، وصاية الدولة على مجمل الاقتصاد على الرغم من فوضى أنظمة الاستيراد سمح لرجال اعمال الطبقة الجديدة بجني الارباح التي ما كان بالامكان جنيها في أنظمة حرية السوق. وبالنظر الى علاقاتهم ونفوذهم كان بوسعهم ان يؤمنوا لأنفسهم اعفاءات خاصة واحتكارات وأشباه احتكارات.

فهذه العلاقة التكافلية بين الطبقة الجديدة والدولة وجدت أوضح تعبير قانوني لها في القطاع المشترك، أي في تلك الشركات المساهمة ذات الادارة الخاصة التي كان للحكومة أو للقطاع العام فيها حصة ضئيلة. وبوجود سلسلة من المزايا، كالاعفاء من القطع الأجنبي ومن أنظمة الاستيراد، يكون النجاح مضموناً تقريباً لأية شركة تأسست في ظل ظروف أقلها تحكم الدولة بالاقتصاد جزئياً. وبما ان تأسيس شركات القطاع المشترك يشتمل ضمناً على الأموال العامة، يكون من غير الممكن اقامتها الا بقانون، كالقانون الذي صدر بخصوص القطاع الزراعي المشترك وقانون الاستثمار رقم 10، أو بمرسوم صادر عن رئيس الوزراء. وهكذا فإنّ حظ المنافسة يتقلص الى حد كبير. ومن أشهر تلك الشركات ذات القطاع المشترك، الشركة العربية السورية للمنشآت السياحية وشركة النقل، اللتان كانتا أول شركتين من هذا النوع واصبحتا من ثم شركتين نصف احتكاريتين لقطاع معين من صناعة السياحة، حيث برز المؤسسان والمديران لهما، عثمان العائدي وصائب نحاس، على التوالي، أبرز شخصيتين من رجال اعمال الطبقة الجديدة في سوريا في عقدي السبعينيات والثمانينيات. ان الامتيازات المتعلقة بالقطاع المشترك جعلت منه أداة مثالية للطبقة الجديدة لمتابعة وتغطية طيف عريض من الصفقات التي لم تكن قانونية بالضرورة، أو ان قسطاً من المهام الموكولة أصلاً للشركة المعنية لم يكن بدوره قانونياً بالضرورة ايضاً. وعلاوة على ذلك فإنّ القطاع المشترك عزز الروابط بين تلك الطبقة الجديدة والبيروقراطية وصار بذلك يشكل أداة استقطاب خاصة لكل شرائح البورجوازية السورية التي كانت مهتمة باقامة تعاون وثيق مع الدولة.

[البورجوازية غير متناسقة

ان البورجوازية السورية غير متناسقة لا في مظهرها ولا في موقفها حيال النظام. فالبورجوازية القديمة بما في ذلك جيلها الشاب يمكن أن يقال عنها، على العموم، بأنها محافظة اجتماعياً وسياسياً وتخفي في غالب الأحيان تحفظاتها على نخبة النظام ومنبته الاجتماعي والمذهبي. وان البورجوازية السورية القديمة، والصناعيين منها على وجه التخصيص، وبعض افراد البورجوازية الصناعية الجديدة يميلون الى الظهور بأنهم أكثر معارضة للنظام وأقل رغبة في التعاون معه من الطبقة التجارية. فالكثيرون منهم يتذمرون سراً من أعباء الديكتاتورية والبيروقراطية، وينتقدون ما يعتبرونه انحياز الحكومة لمصلحة المساعي التجارية، كذلك فإنهم يحتجون على فوضى التبديل الدائم، والمتناقض في بعض الأحيان، بخصوص أنظمة التجارة والانتاج والأسعار التي تجعل قرارات الاستثمار من أصعب الأمور. وأما البورجوازية التجارية في سوريا فقد كانت، على النقيض من ذلك، سريعة نسبياً في التخلص من شعور الازدراء الذي كان يكنه العديد من أفرادها مبدئياً للبعثيين، وفي اخفائه تحت ستار المصالح الاقتصادية، في الوقت الذي كانت تبدي فيه ارتياحها للود الواضح الذي كشف عنه نظام الأسد حيال التجار، ولا سيما حيال أعضاء غرفة تجارة دمشق.

فالبورجوازية التجارية الجديدة عموماً، والطبقة الجديدة على وجه التخصيص، كانت من بين المستفيدين الأساسيين من تلك التطورات السياسية والاقتصادية التي حدثت في سوريا منذ مطلع عقد السبعينيات. لقد تحايلوا على الاستفادة من كل من الازدهار في عقد السبعينيات، ومن أزمة عقد الثمانينيات، ولو الى حد ما. فتلك الأزمة سمحت، من ناحية أولى، للعديد منهم بالانخراط في مشاريع تجارية على أمس الارتباط بالأزمة، من مثل المتاجرة بالبضائع المهربة، وساعدت، من ناحية ثانية، في تحويل العقبات السياسية الى تحرير اقتصادي تدريجي. وإن افراد هذه البورجوازية التجارية الجديدة لا يشاطرون شرائح البورجوازية القديمة تلك التحفظات التي تكنها حيال نخبة النظام، لا بل وبدلاً من ذلك صاروا أحد الشركاء الأساسيين للنظام.

[بورجوازية الدولة

إن نمو كل من التجارة الخاصة والصناعة الخاصة كان على ارتباط مباشر، كما أشير سابقاً، بتوسع وظائف الدولة والتوظيف فيها، ولا سيما بنمو الطبقات الوسطى المأجورة وطلبها للسلع الاستهلاكية. فعلى رأس جهاز الدولة برزت تلك الشريحة العليا التي للتو نأت بنفسها بعيداً، من منظور المنزلة الاجتماعية والاقتصادية، عن أولئك الناس الذين كانوا يشكلون الهيكل الرئيسي لذلك الجهاز. وإن هذه المجموعة العليا تتألف من أعلى أنساق الحزب والحكومة، أي، من القيادة القطرية لحزب البعث والمحافظين والوزراء الحكوميين ومعاوني الوزراء وأمناء فروع الحزب في المحافظات، ورؤساء المنظمات الشعبية، وأعلى المراتب في الجيش والشرطة وأجهزة الأمن “المخابرات”، والمديرين العامين في القطاع العام. والعضوية في هذه المجموعة تستلزم في العادة ارتباطاً مباشراً برئيس الجمهورية. وإن عدداً كبيراً من أعضائها احتازوا لأنفسهم مراكز سياسية قوية، كذلك فإن الكثيرين منهم تمكنوا من حيازة تلك الثروة الشخصية جراء استغلال مواقعهم وامتيازاتهم بشكل قانوني أو غير قانوني أو شبه قانوني التي تنوف الى حد كبير على الثروة الشخصية لأحد قدامى البورجوازيين في سوريا. فالكثيرون منهم حصلوا، باستثناءات جديرة بالذكر الى حد ما، على شهادات جامعية أو تخرجوا من الكلية العسكرية، كذلك ان معظمهم يتحدرون من الطبقات الوسطى التي تقيم في الريف وفي البلدات الصغيرة، حتى ان بعضهم ينحدرون من طبقة فلاحية صغيرة، فضلاً عن أن الأسد قد جند بعض أفراد البورجوازية الحضرية ضمن هذه المجموعة أيضاً.

يشار الى هذه المجموعة هنا بأنها رأسمالية الدولة، على الرغم من أن هذا المفهوم موضع أخذ ورد كبيرين. فرأسماليات الدولة، كما أوضح جون واتربري John Waterbury، ما هي إلا طبقات وظيفية، أكثر مما هي تلك الطبقات التي يجب أن تحاول بالضرورة استيلاد نفسها بنفسها واستنساخ نمط الانتاج الذي هي مدينة بوجودها له. وإن بورجوازية الدولة السورية، شأنها بذلك شأن مثيلاتها في بلدان أخرى عاشت تجربة تطور مماثلة، لا تستمد موقعها من الملكية الرسمية لوسائل الانتاج لأنها “لم تولد في السوق بل نضجت ونمت في الدوائر الرسمية والثكنات”. فهي تحتكر السيطرة على القطاع الاقتصادي العام ولذلك صارت، بصرف النظر عن الملكية القانونية، المالكة الفعالة لوسائل الانتاج الأساسية في ذلك البلد، وفي يدها اتخاذ القرار في ما يتعلق بتوزيع الفائض الناتج وتحت سيطرتها قسط هام من سوق العمل. وبما أنها تتربع على قمة هيكل السلطة السياسية، مهيمنة على وسائل الاعلام والادارات الحكومية والأجهزة الأمنية، فإنها قادرة على الإتيان بتأثير عميق على التطورات الاجتماعية وفق مصالحها الخاصة هي.

وهنالك احتمال بسيط في أن تتحول هذه البوجوازية، أو شرائح منها، بالتدريج الى تلك البورجوازية الحقيقية التي تمتلك، علاوة على سيطرتها على القطاع العام أو بدلاً من تلك السيطرة، حقوق ملكية قانونية لوسائل الانتاج جراء استثمارها داخل بلدها، فضلاً عن إنفاقها بتلك البساطة، لقسط من الثروة التي كدستها لها. ولكن هذا الافتراض لا يوحي بوجود أية خطة لدى بورجوازية الدولة للإتيان بالتمويل الذاتي، فضلاً عن التمويل الجماعي نظراً الى أنها لم تطور، هذا إن طورت أي شيء، إلا إدراكاً محدوداً بمصلحتها الاجتماعية المشتركة. وإن أي تغيير يحدث فعلاً يحدث على الأرجح لأن بعض المعنيين من هذه الطبقة لا يجدون بديلاً أفضل لضمان موقعهم الاجتماعي الراهن في مستقبل قد يفقد فيه القطاع العام الشيء الكثير من أهميته، وقد يكون النظام فيه قد أصبح حكاية من حكايات الماضي. فسياسات التقشف المتواصلة التي سوف تزيد في تقليص الفرص أمام تكديس الثروات الخاصة من الموارد المالية العامة وأمام توفير الوظائف المدرارة للكسب الوفير بالنسبة الى الأجيال القادمة، قد تطلق شرارة مثل هذه السيرورة. ولكن رسوخ العلاقات بين بورجوازية الدولة وبورجوازية القطاع الخاص سوف يخفف من تعرّض تلك العلاقات لزرع الألغام فيها جزئياً وتدريجاً. فمثل هذه السيرورة لن تكون فريدة من نوعها تاريخياً إذ تأملوا مثلاً انحدار الكثير من البورجوازية القديمة في سوريا من البيروقراطية العثمانية التي حوّلت سيطرتها على أراضي أملاك الدولة الى حقوق ملكية خاصة ولن تكون استثنائية أيضاً بالمقارنة مع دول أخرى في تلك المنطقة، كمصر على سبيل المثال. وإن العلامات الأولى التي تدل على إمكانية قيام مثل هذا التطور واضحة للعيان، إذ ليس إلا القلة من أبناء وبنات كبار المسؤولين السوريين سوف يباشرون، أو يخطر على بالهم أن يباشروا، مسلكاً وظيفياً مماثلاً لمسلك آبائهم، أي العمل في القطاع العام أو الإدارة أو الجيش. فالكثيرون من كبار الموظفين عند الدولة احتازوا لأنفسهم، كالضباط العسكريين، على أراض وأنشأوا عليها مشروعات زراعية ولو بحجوم متفاوتة بعض الشيء. ومن الجدير بالذكر أن ممثلي بورجوازية الدولة، ممن أبناؤهم أو أقرب أقاربهم يستثمرون جهاراً في سوريا أو في لبنان بمشروعات صناعية أو تجارية أو بمشروعات في ميدان الخدمات، لا يزال بوسع المرء أن يجدهم هناك ضمن أولئك الناس الذين يحتلون أعلى المراكز السياسية، وضمن القادة العسكريين. وإن أفراد هذه المجموعة، على أرجح الظن، لا تساورهم إلا أقل المخاوف من احتمال تجاسر إنسان ما على الاستفسار عن مصدر رساميلهم.

وفي الختام يمكننا أن نفترض أن شريحة كبيرة من بورجوازية الدولة قد استثمرت سراً أجزاء من ثروتها في مشروعات القطاع الخاص.

وعلاوة على ذلك فإن عدد أولئك الناس الذين يحولون ثروتهم الى البلدان الأجنبية استعداداً لتأمين ملاذ آمن في الخارج، إن صار ذلك ضرورياً، ولتوفير عيش رغيد من الاستثمار في آن واحد معاً، عدد لا يستهان به.

[العامل العسكري

إن الإنفاق العسكري كما ورد عنه في تقارير ميزانيات الحكومة كان نحو 35 بالمئة من مجمل الميزانية منذ مطلع السبعينيات حتى عام 1978، وبلغ ذروته حين وصل زهاء 40 بالمئة في تلك السنوات، التي سبقت عام 1987 وحتى هذا العام المذكور، ومن ثم انخفض منذ ذلك التاريخ مرة ثانية الى نحو 30 بالمئة، باستثناء مبلغه في حرب الخليج عام 1991 حين أُنفق ما يزيد على 35 بالمئة من الميزانية على العتاد العسكري. وكقاعدة فإن الانفاق العسكري في الميزانية لا يشتمل على مشتريات الأسلحة. فقد قدرت استيرادات الأسلحة بتقلبات سنوية صارخة بنحو 570 مليون دولار أميركي سنوياً بين عام 1970 وعام 1978. ازدادت زيادة حادة من 900 مليون دولار أميركي في عام 1978. ازدادت زيادة حادة من 900 مليون دولار أميركي في عام 1978 الى ملياري دولار أميركي في عام 1979، عام معاهدة السلم المصرية الاسرائيلية التي أزاحت مصر عملياً من المعادلة الاستراتيجية العربية الاسرائيلية، وتركت سوريا كدولة مواجهة موثوقة وحيدة، وأتاحت لإسرائيل أن تحشد قواتها على حدودها الشمالية والشرقية. ففي النصف الأول من عقد الثمانينيات بقيت استيرادات الأسلحة عالية علواً شاهقاً، إذ بلغ معدلها أكثر من 2,8 مليار دولار أميركي في السنة. وفي النصف الثاني من ذلك العقد انخفضت استيرادات الأسلحة وبلغت ما معدله نصف الرقم المذكور آنفاً. وأما التقارير الحديثة عن شحنات الأسلحة الى سوريا فتوحي بأن مطلع التسعينيات شهد زيادة جديدة، ولو أنها أقل مما كانت عليه في مطلع الثمانينيات. ان ميزانيات الدفاع في سوريا، كنسبة مئوية من الناتج المحلي الاجمالي، بلغت نحو 10 بالمئة حتى أواخر السبعينيات، وازدادت في أعقاب معاهدة السلم المصرية الاسرائيلية في عام 1979، كذلك فإنها زادت على ذلك أيضاً بعد حرب اسرائيل في لبنان عام 1982، ووصلت ذروتها الى حد فاق نسبة 16 بالمئة في عام 1984. ولكن منذ عام 1986 كانت نسبة الدفع في الناتج المحلي الاجمالي قد انخفضت ثانية الى نحو 12 بالمئة.

وعلى الرغم من أن هذه النسب مرتفعة بالمعايير العالمية ولكنها ليست مرتفعة في الواقع بالمقارنة مع النسب الاقليمية إلا أن من الخطأ الافتراض أن انفاقات الدفاع المرتفعة لسوريا كانت على حساب التطور الاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن خطأ الادعاء أن احتفاظ سوريا بجيش كبير هو ما أدى الى الأزمات الاقتصادية. ان الانفاقات العسكرية وُظفت بمنتهى النجاح لتوليد الموارد المالية من الخارج، لا للاستهلاك العسكري المضيع ليس إلا، بل وللاستخدام المدني في الوقت نفسه أيضاً.

ان القسط الأعظم من استيرادات سوريا من الأسلحة دفع ثمنه حلفاؤها العرب و بالأساس بلدان مجلس التعاون الخليجي وليبيا أو موّله المورد الأساسي له، أي الاتحاد السوفياتي، على أساس قرض بامتياز، ولذلك فهذه الاستيرادات، على العموم، لم تكن عبئاً على ميزانيات سوريا أو على وضع قطعها الأجنبي.

وعلاوة على ذلك، فإن معونة عربية خاصة غطت ايضاً قسطاً هاماً من التكاليف المالية التي نجمت عن التدخل العسكري لسوريا في لبنان، على الرغم من افتقارنا الى معطيات كافية لمساندة مقولة أخرى بمزيد من الدقة.

ولما كانت شحنات الأسلحة الى سوريا في لبنان ممولة أو مدفوعة في قسطها الأعظم من الخارج، فإن الميزانية العسكرية الرسمية تستحق الأخذ في الاعتبار بأنها تمثل النفقات العسكرية الداخلية لسوريا. وعلى العموم فإن الانفاقات العسكرية لسوريا، وفق ميزانياتها، تطورت بشكل منسجم مع الدورات الاقتصادية، أي أنها كانت تهبط، في التقديرات الحقيقية، بصحبة هبوط مجمل الميزانية خلال سنوات الانكماش الاقتصادي. فلقد كانت العقبات الاقتصادية هي التي تؤدي، بهذا الخصوص، الى الخفوضات في النفقة العسكرية أكثر مما كانت الانفاقات العسكرية هي المسؤولة عن المشكلات المالية. وهذه الانفاقات بالتأكيد هي انفاقات مرتفعة وتجري تغطيتها من الموارد المحلية. وبمعنى من المعاني فإن بناء سوريا لقوتها العسكرية وجدارتها بالثقة كان استثماراً ضرورياً كي تستفيد، الى الحد الأقصى، من موقعها الاقليمي ومن وضعها الاستراتيجي السياسي في الصراع العربي الاسرائيلي، ولكي تصبح، بعد كامب ديفيد، أهم دولة مواجهة مع اسرائيل. فبلدان التعاون الخليجي، على وجه الخصوص، لم تكن تدفع ثمن واردات سوريا من الأسلحة وحسب، بل كانت تقدم أيضاً معونة مالية هامة كإنفاقات لتطوير سوريا تطويراً مدنياً أيضاً.

ان التمويل العربي لسوريا كان أكبر بكثير مما كان عليه لأي بلد مماثل آخر أقل أهمية استراتيجية من سوريا. وفي حقيقة الأمر فإن قسطاً كبيراً من الدعم المالي العربي لسوريا بغية تطوير مشاريعها الاقتصادية والمدنية ما كان من الممكن دفعه لو لم تكن سوريا تمثل العدو الموثوق لإسرئيل. ولذلك فإن انعدام الصلة المالية بين المعونة العسكرية والمدنية أو بين البناء العسكري واستثمارات التطور المدني لم يكن أمراً موجوداً في الحالة السورية.

[ الموارد والديون الخارجية

تلقت سوريا منذ عام 1973، بالمقارنة مع الستينيات ومطلع السبعينيات تدفقاً هائلاً من المساعدة الاقتصادية المدنية. ولقد جاء معظم هذه المساعدة من مصادر عربية، ومن إيران خلال الحرب الايرانية العراقية. وأما البلدان الغربية والمنظمات الدولية والاتحاد السوفياتي السابق فقد أدت دوراً أقل. ولكن المعطيات المتاحة عن الهبات المدنية والقروض ذوات الامتيازات ليست دقيقة بالضرورة، ومثل هذا القول أكثر دقة حتى عن المعطيات المتعلقة بالمساعدة العسكرية والتحويلات الخاصة التي زادت بدورها أيضاً منذ عام 1973.

إن المعلومات شحيحة جداً عن التحويلات المالية العمالية لأنها لم تكن، في معظمها، تتحول عبر قنوات المصارف الرسمية. فتدفق التحويلات المالية بلغ ذروته في سنوات ارتفاع أسعار النفط ارتفاعاً هائلاً ما بين عامي 1978 و1981 حين راوح ذلك التدفق وفق التقديرات بين 600 مليون دولار أميركي و900 مليون في العام. ولكن في السنوات التالية تناقصت المقادير المالية التي جلبها السوريون الى وطنهم من الخليج، ومع ذلك فمن الممكن الافتراض وجود تدفق دائم لمبلغ يراوح على الأقل بين 350 و400 مليون دولار أميركي في معظم سنوات الثمانينيات ومطلع التسعينيات.

وفي السبعينيات زادت المساعدة من الغرب ومن المنظمات الدولية من أقل من عشرة ملايين دولار أميركي الى نحو مئة مليون سنوياً، وبقيت في ذلك المستوى مع شيء من التقلبات الى أن اتخذت لها اتجاهاً تصاعدياً منذ بداية التسعينيات. وأما المساعدة المدنية من الاتحاد السوفياتي السابق ومن غيره من بلدان أوروبا الشرقية فقد كان تقديرها خمسين مليون دولار أميركي في عقد السبعينيات. وبوسعنا أن نفترض أن هذا المستوى قد جرت المحافظة عليه حتى منتصف الثمانينات، ومن ثم تناقص بعدئذ الى مستوى الصفر تقريباً. فقصارى القول أن المساعدة المدنية لسوريا، من البلدان الغربية والعالمية والأوروبية الشرقية، قلما تجاوزت نسبة 10 15 بالمئة من مجمل المساعدات الرسمية.

لقد جاءت معظم المساعدة المالية لسوريا من مصادر عربية، ولا سيما من الخليج. ولكن المعونة العربية المهمة بدأت تتدفق على سوريا مع حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973؛ اذ بين عامي 1973 و1978 كان متوسط المعونة العربية الرسمية قرابة 600 مليون دولار أميركي في العام. وثمة هبات اضافية معلنة كانت نحو 250 مليون دولار أميركي منحت لسوريا نقداً أو عيناً في أعقاب الحرب مباشرة. وأما مؤتمر القمة العربي في بغداد عام 1978 الذي دعي اليه لمواجهة اتفاق كامب ديفيد المصري الاسرائيلي، فقد تعهد أن يدفع لسوريا 1,8 مليار دولار أميركي على مدى عشر سنوات. ان قسطاً هاماً من هذا الوعد قد تحقق مادياً، على الأقل في السنوات الأولى التالية للمؤتمر. وبعدئذ قفزت المساعدة العربية الصافية الى متوسط سنوي يقارب 1,6 مليار دولار أميركي في الفترة الممتدة من عام 1979 الى عام 1981، وهبطت بعد ذلك الى معدل 670 مليون دولار أميركي في تلك السنوات، وصولاً الى عام 1987، ومن ثم الى مستوى الصفر تقريباً في عامي 1988 و1989. إن تناقص المعونة بعد عام 1981 كان مرده العوامل السياسية بالأساس، أي مساندة سوريا لإيران خلال الحرب العراقية الايرانية. فتناقص التدفقات المالية من المصادر العربية تعوضت الى حد كبير بالهبات الايرانية على شكل شحنات من النفط المجاني وشحنات على شكل امتيازات بما وصلت قيمته الى مليار دولار أميركي في بعض السنوات. وثمة تقدير أكثر تحفظاً، اعتماداً على معطيات الميزانية السورية، يورد نحو ما بين 300 مليون 800 مليون دولار أميركي سنوياً في الفترة الواقعة بين عام 1982 وعام 1986. وبعدئذ، حين فقد الجانب السوري اهتمامه في نفط بأسعار امتيازية وحين تعب الايرانيون من منح النفط المجاني لشريك يشمئز من دفع ديونه، تناقصت المعونة الإيرانية حتى وصلت الى أقل من خمسين مليون دولار أميركي في عام 1990، ومن ثم انقطعت نهائياً.

وهكذا فإن تدفقات المعونة من كل المصادر عملياً تناقصت في نهاية الثمانينيات. وما جعل الأمور تزداد سوءاً أن دفعات مالية كبيرة حان أوان دفعها على القروض المأخوذة من الغرب والمنظمات العالمية ومن الوكالات العربية أيضاً. ففي عام 1989 كانت خدمة الدين السوري تتجاوز عملياً المقادير المالية الوافدة الى سوريا. والجدير بالذكر أن تدفقات المعونة الى سوريا لم ترتفع من جديد الا في أزمة الخليج وحرب 1991/92. فمعونة الخليج العربي وحدها كان تقديرها 1,5 مليار دولار اميركي في فترة عام 1991/92، كذلك فإن مجمل المساعدة المدنية الصافية يمكن افتراض أنها كانت سنوياً بين 600 و700 مليون دولار أميركي تقريباً أو أكثر من ذلك. وإن تدفق معونة بنحو 700 مليون دولار أميركي لا يبدو شيئاً كبيراً بالمقارنة مع الريع السياسي العالي الذي حققته سوريا في أعقاب كامب ديفيد، حين وصل مجمل تدفقات المعونة الى أكثر من 1,7 مليار دولار أميركي في العام، أو حتى الى 600 مليون دولار أميركي في أواسط السبعينيات. وعلينا هنا أن نأخذ في الاعتبار أن الأموال الدولية، وخاصة الأموال العربية، قد تقلصت تقلصاً هائلاً منذ أن تناقص سعر النفط في مطلع الثمانينيات (1980). ففي النصف الأول من التسعينيات، من المحتمل أن تكون سوريا قد نالت قرابة 20 25 بالمئة من مجمل المساعدة المالية العربية. وحتى في ما يتعلق بالتقلبات التي شهدتها سوريا، تبقى تدفقات المعونة عليها أمراً مهماً. فالمساعدة الأجنبية، وقد كانت تعادل في حدها الأعظمي 4 5 بالمئة من الانتاج القومي الاجمالي، تنطوي على أهمية أقل بكثير مما كانت عليه في نهاية السعبينيات وبداية الثمانينيات حين كانت نسبتها تبلغ نحو 10 بالمئة، ومع ذلك فإنها تبقى مرتفعة بالمقارنة مع بلدان أخرى ذات دخل متوسط في المنطقة.

وعلاوة على ذلك، بقيت المعونة بمثابة المصدر الأساسي الذي تتمول منه الاستثمارات العامة. وبما أن المعونة المالية ترتفع الى أكثر من نصف مشاريع التطور المرسومة أو ميزانيات الاستثمار، من الممكن الافتراض أيضاً أن قسم القطع الأجنبي في الاستثمار العام يتغطى تمام التغطية تقريباً من الموارد المالية الخارجية المتجمعة لدى الدولة. فتناقص تدفقات المعونة في النصف الثاني من الثمانينيات لم يفض الى الأزمة الاقتصادية في سوريا، بل انه كشف عن وضع عليل، أي ان الاستثمارات ذات التمويل الخارجي في السبعينيات لم تفض الى الثمرات المرجوة وتقليل الاعتماد على الواردات.

وبما أن معظم الموارد الخارجية لتمويل برامج التطور السورية جاءت على شكل هبات وقروض متساهلة بشروط مواتية نسبياً، فإن سوريا تجنبت، على نقيض العديد من البلدان العربية الأخرى أو البلدان ذات الدخل المتوسط، تجنباً هائلاً الديون الخارجية المدنية المرتفعة. فهذه الديون من الممكن تقديرها بنحو 5 6 بليون دولار أميركي في مطلع التسعينيات. ان مجمل الدين الأجنبي على سوريا في عام 1991، بما في ذلك دينها العسكري تجاه الاتحاد السوفياتي السابق، قيل عنه بأنه 16,8 مليار دولار أميركي، وكان يوازي تقريباً الانتاج القومي الاجمالي سنوياً لذلك البلد. فحتى عام 1992 كانت سوريا تخدم ديونها للاتحاد السوفياتي السابق بحسم قيمة معظم بضائعها المصدرة الى ذلك البلد من حساب ديونه عليها، وبعدئذ، لدى نشوب نزاع على دفعات اضافية، انقطعت مقايضة الدين هذه، ولا سيما أن دمشق رفضت الاقرار بمطلب موسكو في أن تسدد الى روسيا دينها العسكري للاتحاد السوفياتي. فشحنات الأسلحة السوفياتية، كما حاجة الجانب السوري، كانت سياسية أكثر مما كانت مشاريع تجارية ومرتبطة، فلاً عن ذلك، بضمانات الأمن السوفياتي التي أرستها معاهدة الصداقة السورية السوفياتية في عام 1980، والتي فشلت روسيا في الوفاء بالتزامات تلك المعاهدة. ولذلك فالتساؤل عما اذا كانت سوريا تعيش تحت وطأة دين حادة طوال بقية سنوات التسعيينات، كان الى حد كبير جداً مسألة سياسية استناداً الى ما إن كانت روسيا ستلغي مطالبها وإلى أي حد في خاتمة المطاف أو ما يبدو أنه أكثر احتمالاً حتى حينه أن تشطب معظم تلك المطالب. فسوريا بحكم الواقع (De facto) قلما ستكون قادرة على تسديد روسيا مقابل ما كان صناع السياسة فيها يعتبرونه دائماً، وعلى الأرجح صناع السياسة السوفيات أيضاً، بمثابة معونة عسكرية مبعثها سياسي. ولما كانت خدمة الدين تستهلك ما نسبته زهاء 20 25 بالمئة من مجمل عائدات التصدير في سوريا، وهي النسبة التي تعني الثلث أو الثلث ونيفاً من عائدات التصدير لدى القطاع العام، فإن الديون المدنية السورية تشكل وحدها، إن كانت لا تزال سهلة القياد، عبئاً ضخماً.

[سيناريو الحرب الأهلية

ولكن نهاية حقبة الاسد لا تستلزم ان تفضي بالضرورة الى انهيار الدولة والقطاع العام، مثلما يدعي بعض المتشائمين المهتمين بالشؤون السورية، فضلاً عن بعض الموالين للنظام من السوريين. فسيناريو الحرب الأهلية،وتوقع الفوضى، والحرب الطائفية الوحشية الى حد ما، لا بل وحتى احتمال تفكك سوريا في الفترة التالية لرحيل الاسد في خاتمة المطاف، ليس إلا واحداً من تلك السيناريوات المحتملة، بيد انه بالنسبة إليّ ليس اكثرها ترجيحاً. وفي الوقت الذي يفتقر فيه النظام وقيادته بالتأكيد الى الشرعية، فإن شرعية الدولة ليست موضع شك. فلقد تغيرت الاحوال عما كانت عليه في مطلع عقد الستينات.

(…)

وفي الوقت الذي لا يمكن فيه استبعاد انقلاب عسكري، كما ذكرنا، فأي نظام لاحق، سواء أكان مدنياً بمساندة الجيش أم عسكرياً خالصاً، سيكون بالتأكيد تقريباً لاسباب مذكورة اعلاه اقل شخصانية وأقل قسوة، واكثر ميلاً على الارجح لقبول تنافس قوى وأفكار السوق، وقيام الجماعات والاحزاب السياسية ولو الى حد ما. وان بعض الدولة الاقليمية كتونس ومصر يمكن ان تكون مثلاً يحتذى للتطور السياسي في سوريا بعد الاسد. وعلى الرغم من ان ذينك البلدين لا يزالان بعيدين عن الديموقراطية، فإنهما سياسياً أكثر انفتاحاً واقتصادياً اكثر ليبرالية، فضلاً عن انهما يتيحان مقداراً معقولاً من الحرية للصحافة واستقلالاً نسبياً للقضاء ودرجة عالية من الاستقرار القانوني وحكم القانون. فالتحرير الاقتصادي على ما يبدو لا يستدعي بحد ذاته قيام تغييرات سياسية هامة، ولا يفضي اليها حكماً. فالديموقراطية وحقوق الانسان ليست بالضرورة من سمات الاقتصاد المتحرر، وفي بيئة سياسية أكثر انفتاحاً، من المرجح ان تتزايد الطلبات لتحقيقها، بغض النظر عما اذا كانت ستعزز نمو الاقتصاد ومرونته أو لا. فالديموقراطية وحقوق الانسان تشكل خيارات سياسية مستقلة تنطوي على تلك القيمة التي، ان انعدمت تلك الخيارات، طفقت أعداد متزايدة من السوريين تتعلم تقديرها وكيل المديح لها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى