صفحات الرأي

كتاب مهم للكاتب السوري رضوان زيادة: السلطة والاستخبارات السورية

 

                                            يقظان التقي

قبل اندلاع الثورة الشعبية السورية كان الحديث عن السلطة والانتخابات يشكل استمرارية وتقاطعاً، وأي حديث آخر عن فصل آخر في التحليل وتعيين قوة النظام السوري خارج هذه المنظومة الأمنية المخابراتية ونعني بذلك سوريا المجتمع أو المؤسسات الدستورية أو المدنية أو الثقافية أو مؤسسات الرأي، كان خارجاً عن المألوف.

هذه معادلة لا يمكن تحاشيها في علاقة النظام بالأمن والتشابك حيث تحيل الاستثناء السوري المتمثل بالعنف حيزاً هاماً وعلى حدود الدول، منذ زمن الانقلابات العسكرية، والانتقال من زمن الأفكار الحزبية والإيديولوجية والقومية الى الهندسة الوراثية التي انتقلت بالحكم من الأسد الأب الى إبنه بشار الأسد وعلى قاعدة التحكم بالسلطة والعنف المنهجي ضد الآخرين والالتزام بخيار العائلة الحاكمة مما قلب موقع الدولة السورية رأساً على عقب.

حكم سلطوي استخباراتي من خارج التصنيف الكلاسيكي كمسيطر فعّال ووحيد سبب عذابات كبرى للشعب السوري مستفيداً من حالة الحرب مع إسرائيل ومن قانون الطوارئ في هجوم منهجي واسع ضد جموع المدنيين وضد مبدأ السلطة الشرعية. نظام مارس العنف الإرهابي ضد شعبه والجوار بنسب استثنائية مستفيداً من جملة أحداث ومراهناً على هشاشة الموقف الدولي إزاء مشاعر شعبه وهشاشة الاجتماع الداخلي، الذي انفجر في لحظة كاسراً حدود الخوف، مواجهاً سيطرة النظام السياسية والأمنية وسلطة تحشد جيشها وقواها في مواجهة شعبها والتي لا تعرف طبيعته حتى. وفجأة حين يتعلق الأمر بغريزة النظام الأسدي بالبقاء في السلطة وبطريقة غاضبة يخوض حرباً مع شعبه كآلة عسكرية مقفلة مقدماً الحل الأمني على ما عداه.

رضوان زيادة من الذين يعرفون النظام من الداخل، ويعرف جيداً ماذا فعله منذ تولي الأسد الأب السلطة وما قبلها وما بعدها، ومن أولئك الذين عملوا بجهود حثيثة لتفسير الحالة السورية ولديهم التوقع المبكر ما قبل الثورة وتحليلهم الخاص للمناخ الأمني السياسي الذي يحكم سوريا والذي جرت فيه أحداث كثيرة.

زيادة عمل منذ العام 2008 من المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية وواشنطن في مركز مستقل غير حكومي وغير حزبي وبهدف رئيسي تسميع وتعميق الدراسات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية المتعلقة بسوريا خصوصاً ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، وأنجز العديد من الدراسات والأبحاث وصدرت في كتب وآخرها كتاب “السلطة والاستخبارات في سوريا” (منشورات رياض الريس للكتب والنشر).

كتاب يرافق حزب البعث الحاكم منذ وصوله الى الحكم في سوريا العام 1963 وممارساته الاستخباراتية والأمنية بحق كافة شرائح الشعب السوري والأحزاب المعارضة الى التيارات الدينية الى المثقفين والمواطنين العاديين. نظام تسلطي أداة الحزب للاستمرار في الحكم ما يقارب الخمسين عاماً على امتداد عهد الرئيس حافظ الأسد ثم عهد خليفته بشار.

سقطت الشعارات التي غطّت النظام داخلياً وخارجياً وإقليمياً ودولياً ابتداء من حقوق الفلاحين وخبز الشعب، مروراً بـ”محاربة” إسرائيل تحت أسماء الصمود والتصدي، والممانعة وحتى المقاومة وفلسطين والعروبة. وسقطت مقولة بشار الأسد مع بداية اندلاع ثورات الربيع العربي العام 2010 في حديثه لصحيفة “وول ستريت” في 31/1/2010: “سوريا محصّنة وبعيدة عما شهدته دول أخرى في المنطقة مثل تونس ومصر بسبب قرب الحكومة السورية من الشعب ومصالحه”!

هكذا اجتماع الرأسمال الهارب والمثقف والمهاجر، والخصم السياسي والمضطهدون والمقموعون والضحايا وأقرباء الضحايا من اليمين واليسار والمتدينين والعلمانيين والأصوليين والأطفال والكبار متوسلين أجسادهم العارية والإنترنت والفايسبوك للعبور نحو الجمهورية الرابعة تحت شعارات الحرية والعدالة والديموقراطية والكرامة الإنسانية والتعددية.

في كتابه يركّز رضوان زيادة على حكم بشار الأسد الإبن في العقد الأول من عهده وكيف تعامل ويتعامل مع شرائح الثوار وقادتهم بالأسماء والتواريخ مستخدماً وسائل العنف وخرق الحريات المدنية وإنكار حرية التعبير ومضايقة الأكثرية السنية والتلاعب بفكرة الإصلاح ومحاربة الاحتلال الإسرائيلي واحتواء الأزمات الاجتماعية والاقتصادية. والأهم كيف أن النظام أوهم نفسه بسلطة وراثية مطلقة وبفائض من الذكاء والقدرة على ممارسة تخويف العالم بعدم الاستقرار إذا لم يعترف به شريكاً دولياً في محاربة الإرهاب والقدرة على التعقب المخابراتي التجسسي على مستوى مناطق عدة في العالم الى حين اندلاع الثورة فصار النظام كابوساً على شعبه والعالم وعلى مستوى حقوق الإنسان وقتل الناس والمذابح والاعتقال وثقافة العنف نظاماً ديكتاتورياً معلوماً بسلوكياته المروعة.

من الجمهورية الأولى التي هبطت من الانحلال السياسي، الى دولة “الثورة” عام 1963، الوحدة مع مصر، حركة 8 آذار واستلام السلطة بكاملها 1963، انتصار الريف على المدينة العام 1969 وانتصار الأقلية على تجمع هش من الأكثرية والأقليات، الى عملية انتقال السلطة من الأب الى الإبن العام 2000 وفي يوم واحد في 11 حزيران 2000، دليل على عشوائية النظام ومركزيته.. الى الصحوة السياسية عند المثقفين وبيان الـ99 مثقفاً، ثم اغتيال ربيع دمشق أيلول 2001، الى بشار الأسد والسياسة الخارجية، كتابه محاولة لرواية تفاصيل العقد الأول من سلطة بشار الأسد…

دراسة معتبرة جداً لا سيما وأن عدد الدراسات الأكاديمية التخصصية في سوريا قليل نسبياً مقارنة بغيرها من دول الجوار، وهي دردشة مهمة جداً، أو محاولة دراسية لآلية عمل النظام السياسي في سوريا انطلاقاً من قاعدة تقول “إن الأسد هو سوريا، وسوريا هي الأسد”.

هنا مقتطفات من الإصدار تتصدى لمحاولة تعرية النظام وهيكليته السياسية، الاقتصادية والأمنية:

هنا مقتطفات من الكتاب:

[الخوف

إن سوريا حالة مثالية للثورة حيث اجتمع فيها الفشل السياسي مع الإخفاق الاقتصادي، فهي لم تحقق لا الخبز ولا الحرية، على حد تعبير الصحافي البريطاني آلان جورج، فضلاً عن قصص الفساد التي يتداولها السوريون بشأن رامي مخلوف (ماطري سوريا) وغيره من رجال الأعمال محدثي النعمة الذين اعتمدوا بشكل رئيس على التحالف مع الأجهزة الأمنية من أجل بناء ثرواتهم التي تُظهر حجم الهوة بين طبقة تزداد ثراء ومجتمع يزداد فقراً، فهناك 30% من السوريين تحت خط الفقر وفق الإحصاءات الرسمية، مما يجعل العوامل المؤججة للغضب في سوريا شبيهة تماماً بما جرى في تونس.

أخّر في سوريا الثورة بالتحديد خوف من قمع الأجهزة الأمنية التي تتباهى بأنها لا تتردد في استخدام العنف ضد المتظاهرين، وتحفيز ذاكرة الخوف التي ترسخت لدى السوريين بعد أحداث الثمانينيات التي خلفت أكثر من 30 ألف قتيل وما يزيد على 125 ألف معتقل سياسي و17 ألف مفقود لا يعرف ذووهم مصيرهم حتى الآن، فضلاً عن سير التعذيب التي أصبح السوريون يتداولونها باستمرار مما شكل رادعاً نفسياً يلجم أي تحرك مطلبي أو سياسي.

إن نجاح شباب مدينة درعا الجنوبية في كسر حاجز الخوف والخروج بالعشرات في تظاهرات تطالب بالحرية كمطلب وحيد، إضافة إلى استمرارها وتمددها إلى مدن أخرى (كبانياس ودير الزور وحمص وحماه وإدلب ومدن ريف دمشق ثم دمشق وحلب) يدل على تصميم الشباب السوري على استكمال ثورته من أجل تحقيق النجاح، وأنه لا يمكن وأد هذا الأمل على الرغم من توسع حملة الاعتقالات في أكثر من مدينة وسقوط الشهداء في مدن درعا وحمص وإدلب وحماه وغيرها، حتى فاق عدد الشهداء خمسة آلاف شهيد بينهم أطفال، بسبب اللجوء إلى العنف المفرط والرصاص الحي في تفريق المتظاهرين، كما أثبتته أكثر من منظمة حقوقية. وما لبث أن تحول إلى حرب شعواء ضد الشعب الأعزل عبر احتلال المدن واستخدام المدفعية الثقيلة وحتى الطيران والبارجات الحربية لقصف المدنيين الآمنين، وكما بدا واضحاً في ثورات مصر وتونس واليمن وليبيا، فإن القتل بالرصاص الحي في سوريا لا يردع، كما هي العادة، بقدر ما يؤجج ويحرض الآخرين على كسر جدار الخوف والصمت عندما يرون أن مواطنيهم ضحّوا بأرواحهم من أجل نيل حريتهم، فهم لن يكترثوا للاعتقال أو التهديد وغير ذلك.

والغالب أن رد فعل السلطات الأمنية يتجسد بالتعامل مع هذه المطالب والتظاهرات وفق السياسة الأمنية القمعية ذاتها، بأنها من قام بها بأنهم “عصابات مسلحة” كما هو التعبير الرسمي السوري، مما يزيد من غضب الشباب الثائر على السلطة التي لا تحترم دماءه الطاهرة ولا تعير بالاً لعقود من الاحتقان الذي ولّد هذه الإرادة الصلبة التي لا تقهر.

وإذا حلّلنا الشعارات المستخدمة في التظاهرات السورية في بداياتها وفي أكثر من مدينة، نجد قدرة فائقة لدى الشباب السوري على إدراك طبيعة السلطة الحاكمة وإبطال تأثير مفعولها السياسي والإعلامي. فالنظام السوري يفرط في استخدام لغة التخوين ضد كل معارضيه أو المنشقين عنه، عبر وصفهم بالعمالة لإسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية وما إلى ذلك. فكان رد الشباب السوري عبر شعار: “الخاين يلي بيقتل شعبو” باللهجة المحلية، أي “الخائن هو من يقوم بقتل أبناء شعبه”. كما أن الإعلام الرسمي وصف من قاموا بالتظاهرات في دمشق ودرعا وبانياس وغيرها من المدن السورية بأنهم “مندسّون”، فأطلق الشباب السوري مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي (الفايسبوك والتويتر) تقول “أنا مندس/ة” وتعبّر في بيانها “أنا المواطن السوري: () اعترف وأنا بكامل قواي العقلية بأني مندس في المطالب الوطنية للشعب السوري وأني سأدافع عن حقي بالاندساس في جميع قضايا وطني السياسية والاقتصادية”. بالتأكيد فإن مثل هذه التكتيكات التي يستخدمها الشباب السوري من شأنها أن تبطل التأثير الإعلامي والسياسي الرسمي وتدفع مزيداً من الشباب إلى التظاهر والمطالبة بحقوقه السياسية والاقتصادية.

كما لا بد من الإشارة إلى أن انطلاق الاحتجاجات الشعبية من درعا، هذه المحافظة الجنوبية، يحمل أكثر من دلالة، ويعطي مؤشراً أكيداً على صمود الشباب الثائر حتى تتحقق كل مطالبه، فدرعا محافظة تعرضت كغيرها من المحافظات الطرفية لتهميش وإهمال كامل في البنى التحتية، كما تعرّض أبناؤها لتدني مستوى الرعاية الصحية والتعليمية، لذلك يمتلك شبابها كل المقومات التي تدفعهم إلى الثورة وعدم الرضوخ حتى تحقيق كل أهدافهم، إضافة إلى أن المجتمع العشائري في المدينة يولد مزيداً من التضامن بين أبنائها، فالأنظمة الدكتاتورية وعلى مدى عقود في الأغلب تنجح في تدمير معنى التضامن بين أبناء الوطن الواحد وتستبدله بزرع الشكوك والخوف المتبادل. غير أننا لاحظنا مع اعتقال الأطفال من عشيرة الأبازيد تضامناً من كل العشائر الأخرى وقد خرجت جميعها في موقف واحد، وبسرعة تضامن معها مثقفوها ومشايخها وعلماؤها وكل الطبقات الاجتماعية تقريباً، مما أفزع النظام السوري وجعله يدرك أن القمع المتزايد وسقوط الضحايا سيولد المزيد من الاحتجاجات ويدفع مزيداً من الشباب إلى الانضمام. إن الشعارات التي رفعت منذ اليوم الأول تدل على أن هذه الثور هي ثورة الكرامة وعلى رأسها الحرية. فالمتظاهرون رددوا “بعد اليوم ما في خوف” و”حوران هلّت البشاير”، في إدراك رائع منهم أنهم إنما يبدأون ويقودون في الوقت نفسه معركة الثورة السورية التي افتتح بشائرها أبناؤها وعمّدوها بدمائهم. وما يعزز فرضية تصاعد الاحتجاجات وعدم قدرة النظام السوري على التصدي لها هو عدم إمكانية عزل المحافظة أمنياً وسياسياً، فلو ابتدأت الاحتجاجات في محافظات القامشلي أو الحسكة (وهي محافظات التواجد الكردي الكثيف) لكان سهلاً على النظام السوري عزلها أمنياً وسياسياً عبر اتهام الأكراد بأنهم يريدون الانفصال، والأمر نفسه ينطبق على حماه بالقول إن الإخوان المسلمين (الذين يحكم بالإعدام على كل منتسب إليهم وفقاً للقانون 49 الصادر عام 1980) هم وراءها. ومن الصعب أيضاً أن تبدأ الاحتجاجات والتظاهرات من دمشق أو حلب بسبب التواجد الأمني الكثيف فيهما، بالتالي فإن الثورة قد ابتدأت في المكان المثالي الذي كان عليها أن تبدأ فيه، ومسألة استمرارها مرتبطة بقدرة الشباب السوري وتصميمه في المحافظات الأخرى.

لن يستطيع النظام السوري أن يكرر في المدن السورية ما جرى في حماه عام 1982 (وهو ما يخشاه الكثير من السوريين ويرددونه باستمرار)، بسبب العامل الدولي بشكل رئيس، وتزايد الضغوط على الأسد من أجل الاستقالة والتنحي، كما ينبغي لنا عدم تجاهل أننا نعيش اليوم في عالم حيث يلعب الإعلام دوراً محورياً في التواصل وكشف المعلومات، بحيث لا يمكن إخفاء الجرائم أو التستر عليها، وأن رد الفعل الدولي في ليبيا كان درساً حاسماً لأي نظام يُحلُّ لنفسه ارتكاب الفظائع والجرائم بحق شعبه.

كل ذلك يدفعني إلى القول مطمئناً إلى أن الثورة السورية ستنتصر في النهاية على الرغم من الثمن الباهظ الذي يدفعه السوريون يومياً، كما أن كل يوم يمضي سنسمع فيه بالمزيد من المدن التي ستشهد تظاهرات واحتجاجات عبر أشكالها المتنوعة تطالب بالحرية والحرية فقط، وهو مشهد لم تعتده سوريا على مدى أربعة عقود.

إن الشباب السوري يخوض اليوم معركة مزدوجة: فمن جهة عليه العمل لاستعادة الجمهورية، تلك التي تحولت تماماً إلى مملكة يتوارثها الأبناء. ومن جهة أخرى، العمل لاستعادة الديموقراطية. وفي كلتا الحالتين، فإن السوريين جميعهم بكل أطيافهم وانتماءاتهم العرقية والدينية والأثنية لا يختلفون أبداً على أولوية النجاح، فسوريا أرض حضارات عريقة متعاقبة، فيها ظهر فجر الحضارة الإسلامية، واستمرت على مرّ التاريخ منبعاً ومنارة للأفكار الخلاّقة والمبدعة، وكان للسوريين الدور الريادي في نشر الفكر العروبي على امتداد العالم العربي. الآن عليهم قيادة معركة الحريات ونشرها في العالم العربي، فدمقرطة الأنظمة العربية هو السبيل الوحيد لوضع أولويات ومصالح الشعوب على حساب مصالح الأنظمة، وهو ما يفسح المجال لبناء فضاء جيوسياسي واقتصادي عربي قادر على تحقيق الرفاهية لجميع شعوب المنطقة.

[بنية الثورة السورية:

مع تزايد الاحتجاجات والتظاهرات وتصاعدها في أكثر من مدينة سورية، برز السؤال ساطعاً: من يقف وراء الاحتجاجات في سوريا؟ وما هو دور المعارضة السورية؟ وهل تلعب المعارضة في المستقبل دوراً في توجيه مسار الأمور في سوريا فيما لو سقط النظام السوري الحاضر كنتيجة لتصاعد الاحتجاجات واتساعها؟

لا بد من القول في البداية إن الانتفاضة السورية هي انتفاضة شعبية غير منظّمة ومن بدون قيادة محددة، ولا تدين بأي أيديولوجيا. إنها شبيهة تماماً بالحالة التونسية أكثر منها بالمصرية حيث لعبت الحركات الشبابية مثل “حركة 6 نيسان/أبريل” أو “مجموعة كلنا خالد سعيد” دوراً محورياً في تحديد يوم الخروج للتظاهر ضد نظام الرئيس مبارك، يوم عيد الشرطة في 25 كانون الثاني/يناير. لكن في الحالة السورية وبحكم شدة القبضة الأمنية كان من المستحيل تماماً وجود حالات منظمة أو شبه منظمة لحركات شعبية حتى لو نشطت في السر، ولذلك وجدنا عشوائية عارمة في مناطق خروج التظاهرات في كل المدن السورية تقريباً ومن دون تنظيم مسبق، وعشوائية أخرى في طريقة رفع الشعارات رغم تركيزها الكبير على الحرية والكرامة التي هي بالتأكيد العنوان الرئيس للثورة السورية كردّ على احتقار الدولة الأمنية السورية في تعاملها مع مواطنيها.

لكن، ومع تطور الاحتجاجات، كانت التظاهرات تزداد حجماً من أسبوع إلى آخر، كما أن المطالب والشعارات أصبحت أكثر جرأة في الوقت عينه حتى توحدت بشكل ما تحت شعار: “الشعب يريد إسقاط النظام”. هذا الشعار الشهير الذي بدأ من تونس وتردد في مصر ونجح في إسقاط نظامين من أشدّ الأنظمة القمعية في المنطقة العربية.

كان من الطبيعي بعد ذلك أن يخرج قادة ميدانيون قادرون في كل مدينة على تنظيم التظاهرات وحركتها ومحتوى الشعارات التي يجب أن ترفع. وقد لعب هؤلاء القادة الميدانيون دوراً محورياً في تصاعد هذه الاحتجاجات، وعلى الرغم من أنهم ما زالوا حتى هذه المرحلة أشبه بالقادة المحليين ولم يرتقوا بعد كي يصبحوا قادة على المستوى الوطني (فهذا الأمر يحتاج إلى بعض الوقت) فإن طريقة تنظيم التظاهرات تعكس أن هناك تنسيقاً ما بدأ يؤتي ثماره في تنظيم التظاهرات على المستوى الوطني.

لقد لعب المسجد بكل تأكيد دوراً محورياً، خاصة في مراكز المدن الرئيسية، في استخدامه كنقطة انطلاق للتظاهرات أكثر من كونه موجهاً لها، فتطبيق قانون الطوارئ في سوريا لمدة تزيد على 47 سنة ليس فقط أنه قد عمل على حظر التظاهرات والتجمعات وإنما قضى على التقاليد الضرورية لتمرين الشباب على الخروج والتظاهر من أجل المطالبة بحقوقهم، وهي الحالة التي وجدناها تماماً في أميركا اللاتينية حيث لعبت الكنيسة دوراً رئيساً في قيادة الاحتجاجات ضد الأنظمة العسكرية، ولذلك أُطلق عليها ما سُمّي “لاهوت التحرير”.

في الحقيقة أن أياً من هؤلاء القادة الميدانيين لا ينتمي إلى أي من الأحزاب السياسية الأيديولوجية التقليدية، بل ربما يحاذرون الانتساب إليها أو حتى فتح حوار مع قادتها حول أفكارها التي لم تعد جاذبة لهم ولحركتهم.

وعليه، يمكن تقسيم المعارضة السورية اليوم إلى ثلاثة أنواع رئيسة ممن يلعب دوراً في تصاعد الاحتجاجات الراهنة في سوريا:

– النوع الأول: المعارضة التقليدية: وهي تشمل أحزاب المعارضة التقليدية التي أُبعدت أو رفضت الدخول في “الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة” التي تشكلت عام 1972، ثم انتظمت في ما يسمى “التجمع الوطني الديموقراطي”، عام 1983، وهي تشمل “حزب الاتحاد الاشتراكي”، و”حزب الشعب الديموقراطي”، و”حزب العمال الثوري”، و”حزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي”.

كما نلحظ يغلب التوجه القومي واليساري على توجهات كل الأحزاب المنخرطة في هذا التجمع. وهناك أيضاً الاخوان المسلمون الذين خاضوا صراعاً مسلحاً مع السلطات السورية في ثمانينيات القرن الماضي خلّف عشرات الآلاف من القتلى، فاعتقلت الأجهزة الأمنية السورية أكثر من مئة ألف شخص خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات من أجل قمع الاحتجاجات، وإلى الآن يوجد أكثر من 17 ألف مفقود لا تعلم عائلاتهم مصيرهم، وقد أصدرت السلطات السورية القانون رقم 49 الذي يحكم بالاعدام على كل منتسب إلى الاخوان المسلمين. لذلك انعدم تواجدهم على الأرض تماماً مع بقاء بعض التعاطف تجاههم كونهم عانوا الكثير من القمع والاضطهاد، لكن في الوقت نفسه، هناك من السوريين من يحمّلهم المسؤولية عن حملهم السلاح، ويلقي باللائمة عليهم على الرغم من أنه يدرك تماماً أن المسؤولية الكاملة إنما تقع على عاتق الدولة، لذلك فتأثيرهم في هذه الأحداث ضعيف تماماً حتى بعد أن اتخذوا قرارهم في دعم الاحتجاجات في سوريا.

وقد استطاعت المعارضة السورية على وجه التحديد بعد عام 2005 أن ترتقي خطوة أخرى باتجاه تجميع جهودها تحت مظلة ما يسمى “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي”، الذي انضوى تحت لوائه بالإضافة إلى “التجمع” شخصيات مستقلة، كما أعلن الاخوان المسلمون السوريون الموجودون خارج سوريا تأييدهم لهذا الإعلان والانضمام إليه.

لقد لعب كل هؤلاء دوراً ثانوياً في قيادة التظاهرات أو حتى التحريض على الانخراط فيها، بل لم تُظهر أحزاب المعارضة التقليدية تلك القيادة الضرورية لتوجيه التظاهرات وممارسة ضغط أكبر على النظام من أجل رحيله، والتحول باتجاه نظام ديموقراطي كما تطالب كل وثائقها السياسية التي صدرت خلال العقود الماضية. لكن لا بد من الإشارة إلى أن بعض هذه القيادات لعب دوراً محلياً في توجيه التظاهرات وقيادتها إنما في مرحلة متأخرة.

ولا بد من القول هنا إنه نظراً إلى خبرة أعضائها السياسية الطويلة، فإن هذه المعارضة التقليدية تتمتع بالخبرة السياسية الضرورية في التفاوض، ربما من أجل إدارة المرحلة الانتقالية القادمة، وربما لهذا السبب قامت الأجهزة الأمنية السورية باعتقال كل قياداتها على الرغم من أنها تدرك تماماً دورهم المحدود في إخراج التظاهرات، لكنها رغبت في منع هؤلاء القادة من تطوير البديل المناسب والضروري، بحيث يبقى النظام السوري ممسكاً بكل خيوط اللعبة ومهدداً في الوقت نفسه بأن الفوضى هي البديل الوحيد عنه.

– النوع الثاني: من المعارضة هم القادة الميدانيون: لقد برز خلال هذه التظاهرات نوع جديد من القادة كنا أشرنا إليهم بأنهم قادة ميدانيون يتمتعون بالاحترام داخل مدنهم المحلية وأثبتوا قدرة على القيادة وتنظيم التظاهرات وتوجيهها، وفي الوقت عينه امتلكوا القدرة على أداء خطاب صلب مناهض للنظام بالرغم من الظروف الصعبة التي يعيشونها، مما شجع الكثيرين منهم على الخروج والتظاهر، وهم ينتمون جميعاً إلى الطبقة الوسطى ذات التحصيل العلمي العالي. إن كل هؤلاء القادة الميدانيين إما معتقلون أو يعيشون متخفين خوف الاعتقال، مما يجعل مهمتهم صعبة. لكن، وكما ذكرنا آنفاً، بما أن هذه الانتفاضة لا تمتلك قيادة خاصة بها يتعذّر على النظام قمعها عبر اعتقال قياداتها، لأنه في كل يوم تقريباً تتولد قيادات جديدة تقود التظاهرات وتحرض عليها.

– النوع الثالث: من المعارضة التي برزت خلال هذه الانتفاضة هم النشطاء الحقوقيون ونشطاء الانترنت الذين أبدوا قدرة رائعة ونادرة على كشف انتهاكات حقوق الإنسان وفضحها، وإيصال هذه المعلومات إلى المنظمات الحقوقية الدولية، مما ساعد على كشف مقدار الجرائم المرتكبة من قبل قوات الأمن السورية، وزاد من حجم انتقادات المنظمات الدولية والمجتمع الدولي، الأمر الذي أُضيف إلى الضغوط الدولية التي كان أبرزها صدور قرار من “مجلس حقوق الإنسان” التابع لـ”الأمم المتحدة” بإرسال لجنة تحقيق دولية إلى سوريا للتحقيق في كل انتهاكات حقوق الإنسان التي جرت خلال الأشهر الماضية. ويجدر بالذكر دور المعارضة السورية في الخارج، فتصاعد الانتفاضة قرّبها كثيراً من الداخل، بحيث إنها تلعب الآن الدور المحوري والأساسي في إيصال صوت السوريين إلى الخارج عبر الإعلام، نظراً إلى منع تواجد الإعلام والصحافة في كل المدن السورية، ولقد أتاحت اللقاءات السياسية أيضاً لهذه المعارضة تصاعد الضغوط الدولية على النظام السوري، كما أنها تمكنت من شرح وجهة نظر المعارضة في الداخل بسبب اعتقال معظم قياداتها أو منعهم من السفر.

[“الجمهورية الثالثة” ونظرية “بناء الهرم”

قد تكون معرفة آلية صنع القرار في سوريا من أعقد الأمور وأصعبها، ولا يعود الأمر في ذلك إلى تعقيدها مثلاً، أو تشابك العوامل المؤثر واختلاط مصالحها في عملية صنع القرار، بقدر ما يعود إلغازها إلى سريتها وأحياناً تخبطها وعدم وضوحها أو استقرارها على صيغة قانونية معينة. في نهاية الأمر، تبدو المسألة خاضعة لاجتهادات بحثية مختلفة منطلقة من وجهات نظر متباينة.

وإذا قدّرنا أن عدد الدراسات الأكاديمية والمتخصصة في سوريا ضئيل نسبياً مقارنة بغيرها من دول الجوار كلبنان والأردن مثلاً، فإن هذه الدراسات تصدّت لموضوعات محددة دون محاولة دراسة آلية عمل النظام السياسي في سوريا، ربما انطلاقاً من قناعة تقول إن “الأسد هو سوريا، وسوريا هي الأسد”، كما وردت هذه العبارة لدى كل من باتريك سيل الذي كتب السيرة الشخصية للرئيس حافظ الأسد، ولوسيان بيترلان الذي كان أكثر إعجاباً بسياسة الأسد الخارجية، وتبقى دراسات أخرى حاولت مقارنة عمل النظام السوري بأنظمة سلطوية شبيهة كما في دراسات هينبوش وهايدمان وبطاطو. أما فولكر بيرتس الذي درس السياسة الاقتصادية تحت حكم الأسد فربما كان من أوائل من تطرق إلى تحليل صنع القرار السياسي والاقتصادي في سوريا، ثم خصص إيال زيسر كتاباً لدراسة “صنع القرار في سوريا الأسد”.

رغم جدية هذه الدراسات المتخصصة واستمرار صلاحيتها البحثية حتى في دراسة صنع القرار في عهد الرئيس بشار الأسد، فإنها بدت متمسكة بالمدرسة السلوكية في تفسير سياسة صنع القرار في سوريا، فتحليل سلوك الأسد وصفاته الشخصية وحده القادر على تفسير، أو على الأقل تقديم إجابات للمعضلات السياسية والاقتصادية التي واجهها الأسد.

يقر الدستور السوري الدائم الذي صدر عام 1973 في عهد الرئيس حافظ الأسد وما زال معمولاً به إلى اليوم بأن رئيس الجمهورية يتولى السياسة الخارجية، أما رئيس الوزراء فلا يمارس أي نشاط ملحوظ في مجال السياسة الخارجية رغم مسؤوليته عنها، إذ يحدد الدستور في المادة (94) أن رئيس الجمهورية يقوم بوضع السياسة الخارجية للدولة ويشرف على تنفيذها بالتشاور مع مجلس الوزراء، بينما لا تتعدى مهمة السلطة التشريعية حسب (المادة 71) من الدستور مناقشة سياسة الوزراء وإقرار المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تتعلق بسلامة الدولة.

يعطي الدستور السوري صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية الذي هو فضلاً عن ذلك الأمين العام لـ”حزب البعث”، الذي يعطيه الدستوري السوري في مادته الثامنة الحق في قيادة الدولة والمجتمع، كما أنه يجمع إلى ذلك منصب القائد العام للجيش والقوات المسلحة وفق (المادة 103) من الدستوري، وهو رئيس القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية. أما صلاحياته فتتجاوز الصلاحيات التنفيذية إلى التشريعية، ذلك أنه يملك حل مجلس الشعب (المادة 107)، والتشريع في غير دورات انعقاده (م111)، وردّ القوانين (م108 من النظام الداخلي لمجلس الشعب)، وله الحق في تعيين نائب له أو أكثر، ويحدد اختصاصاتهم ويعفيهم من مناصبهم، كما له الحق في تعيين رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء وإعفائهم من مناصبهم (95)، وإعلان حالة الحرب (م100)، وإعلان حالة الطوارئ وإلغائها (م101).

إن صلاحيات رئيس الدولة في الدستور السوري تعكس مدى هيمنته “دستورياً” على مؤسسات الدولة الأخرى؛ وقد لعب نمط تطور الدولة وهياكلها المؤسسة على أساس النظام الرئاسي الهرمي على تمركز الصلاحيات دستورياً وقانونياً وفعلياً بيد رئيس الدولة.

إن إحدى السمات الرئيسة التي وسمت النظام السوري مع ولادة “الجمهورية الثالثة” كانت في تمركز السلطة السياسية في أيدي نخبة ذات أصول عسكرية ريفية، ثم استطاع الرئيس حافظ الأسد على مدى سنوات طويلة، مَرْكزة هذه السلطة بشكل هرمي حاد تلعب فيه البيروقراطية دوراً حاسماً في إلغاء الدور التنافسي التعددي الذي تمثله مؤسسات الدولة المختلفة التشريعية والقضائية والتنفيذية، وأضفت بُعداً حاسماً الى شخصية الرئيس ورغباته وتوجهاته، وهو ما بنى شبكات ومصالح اجتماعية واقتصادية وعسكرية على هامش مؤسسات الدولة أو حتى خارجها، تقوم على مبدأ العلاقات والولاءات الشخصية.

ينبع ذلك من القدرة الكبيرة على التحكم التسلطي الذي تمارسه الدولة على المجتمع في كافة مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والمدنية وحتى الخيرية، عبر نظام الموافقات الأمنية المسبقة التي تُربط بها وزارات الدولة المختلفة والمواطنون أيضاً أينما كانوا، مما خلق مناخاً من البيروقراطية الموسومة بالخوف ذاته الذي تتبجّح به كل الأنظمة التسلطية في العالم.

إن ازدياد نسبة التعليم في الأرياف وما يرتبط به من حاجة الى تحسين موقع الناس الاجتماعي عبر هجرتهم الى المدن الرئيسة، دفعهم الى الذهاب الى مؤسسات الدولة المختلفة وعلى الأخص الجيش الذي يتطلب مؤهلات تعليمية وعملية أقل، في الوقت نفسه سيطرت الأفكار العقائدية الأيديولوجية، وخاصة الاشتراكية منها على معظم هذه النخب الريفية لا سيما أبناء الأقليات منهم العلوية والدرزية؛ إذ وجدت فيها مدخلاً لإعادة توزيع الثروة والسلطة، فبدأ ما يُسمى إعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي السوري على أسس جديدة مع الجمهورية الثالثة. إن ترييف المدينة أدى تدريجاً الى ترييف السلطة وهو ما قاد في النهاية الى تحطيم التقاليد القانونية التي أرستها النخبة المدينية التي استلمت السلطة ما بعد الاستقلال؛ لكن هذا لا يعفي هذه النخب من الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها في طريقة إدارتها للدولة ومؤسساتها؛ إلا أنها حافظت على الأطر الدستورية وآمنت بها رغم اختراقها إياها وتجاوزها في بعض الأحيان. ومع التطور الاجتماعي والتغير الديموغرافي العميق الذي مرّت به سوريا كان من الطبيعي أن تفرز نخبة سياسية جديدة تنتمي الى أصول اجتماعية مختلفة لعبت الخلفية العسكرية فيها دوراً حاسماً.

فمع تسلّم “حزب البعث” السلطة في سوريا عام 1963 كان واضحاً صعود “اللجنة العسكرية” داخل جهاز “حزب البعث” التي أصبح لها فيما بعد دور الحسم في مَن يتسلم السلطة ويتحكم بها؛ لذلك فإن دور المؤسسة العسكرية نما بشكل عاق تطور المؤسسات المدنية وأحياناً شلّ عملها كما حصل مع الانقلابات العسكرية المتتالية التي حدثت خلال التاريخ السوري منذ عام 1949 وحتى عام 1970.

لقد اتكأ حافظ الأسد خلال حكمه وبشكل رئيس على رفاق دربه في النضال العسكري. ولذلك تحدد تطور إطار الدولة في عاملين رئيسين: عامل الولاء وهو المحدد الحاسم، والخلفية العسكرية التي شكّلت الجزء غير الظاهر في نمط الدولة المدنية التي حاول الأسد بناءها؛ ذلك أن الأسد ومنذ استلامه السلطة حاول إعادة هيكلة النظام السياسي على أسس جديدة مختلفة في بنائها عما ساد منذ استلام البعث السلطة عام 1963؛ إذ أنشأ البرلمان (مجلس الشعب) عام 1971، وعيّن جميع أعضائه تعييناً، وأسس الجبهة الوطنية التقدمية عام 1972 التي اعتُبرت صيغة من صيغ تشريع التعددية السياسية التي ضمّت جميع الأحزاب السياسية المتحالفة مع البعث واعترفت بميثاق الجبهة الذي أقرّ بقيادة البعث الدائمة لها، ثم أعلن دستوراً جديداً عام 1973 عدّل بموجبه الدستور الموقت لعام 1969، الذي كان يربط السلطات التشريعية بالوزارة، فجرى تعديله لكي يصبح النظام رئاسياً.

كان الخلاف الرئيس الذي قامت من أجله “الحركة التصحيحية” التي قادها الرئيس حافظ الأسد عام 1970، يدور حول التوجهات العامة للسلطة واستراتيجيتها السياسية وبرنامجها الاقتصادي، الأمر الذي أدى في النهاية الى تغلب التيار الانفتاحي على التيار الأيديولوجي الذي كان راغبا ًفي تسيير الشؤون السياسية والاقتصادية وفق برنامج بعثي عقائدي متين، وهذا ما عمق الأزمة الداخلية لـ”حزب البعث” وأصبحت الخلافات الداخلية تتصاعد وتتواتر وتظهر على السطح مع ظهور مستجدات جديدة على الساحة الداخلية والإقليمية.

بدا الأسد ومن خلفه “حزب البعث” راغباً في الدخول في علاقة جديدة مع المجتمع والقوى السياسية، وكان مدخل ذلك تشكيل حكومة ائتلافية تحت مظلة “الجبهة الوطنية التقدمية” ضمت ممثلين عن خمسة أحزاب بمعدل وزيرين لكل حزب من أحزاب الجبهة، ما عدا “حزب البعث” الذي ضمن لنفسه الأكثرية.

وقد حاولت في البدء الخروج من أسر الشعارات البعثية اليسارية؛ إذ كان مصدر الخلاف الحقيقي بين جناحَي “البعث”: الجناح الحزبي الذي يتزعمه صلاح جديد، والجناح العسكري الذي يقوده حافظ الأسد؛ فقد تلخص برنامج الأسد في أن المرحلة التي تمرّ بها سوريا هي مرحلة “تحرر وطني” لاسترجاع الأراضي العربية المحتلة، ويتحدد تناقضها الأساسي في النزاع ما بين “الأمة العربية” و”إسرائيل”، ومن هنا تغدو جميع التناقضات الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية الأخرى ثانوية، ويتطلب ذلك تحقيق “تضامن عربي فعّال” وضرورة تجاوز الخلافات العقائدية والسياسية مع العراق والأردن. كما يتطلب على المستوى الداخلي في سوريا توجيه التنمية والتحرر من الطابع اليساري المغلق للحزب، وإعلان دستور يضمن المشاركة الشعبية في السلطة ويؤطرها بانتخاب مجلس شعب وتشكيل جبهة وطنية تقدمية تعزز الوحدة الوطنية. أما جناح جديد فجدّد شرح “نظريته” اليسراوية في أن “للعدوان الخارجي هدفاً داخلياً هو الإطاحة بالنظام التقدمي والثوري في سوريا ومصر، وأن البرنامج الذي يقترحه الأسد ليس سوى التنفيذ العملي للشق الداخلي من العدوان”.

يمكن اعتبار نموذج الجبهة الذي رغب فيه الأسد بأنه أشبه بنموذج الكتلة الوطنية التي تضم الأحزاب من مختلف التلوينات الأيديولوجية للانخراط في عملية النهوض والبناء الوطني. تشكلت لجنة ميثاق الجبهة في 22 أيار (مايو) 1971؛ وقد نص الميثاق على اعتبار الجبهة قيادة سياسية عليا تقرر بمسائل السلم والحرب والخطط الخمسية، وترسخ أسس النظام الديموقراطي الشعبي، وتقود التوجيه السياسي العام. كما نص على قيادة البعث لها من خلال تمثيله للأكثرية فيها (النصف+1)، واحتكار العمل السياسي في قطاعَي الطلاب والجيش، وأن يكون “منهاج الحزب ومقررات مؤتمراته موجّهاً أساسياً لها في رسم سياستها العامة وتنفيذ خططها”.

حاول الأسد من خلال ذلك توسيع قاعدة المساندة السياسية والشعبية لنظامه القائم، وفي الوقت نفسه إضفاء الصفة الشرعية عليه عبر إكسائه رداء المؤسسات المدنية.

لكنه، وبالتوازي مع ذلك، بنى هياكل مؤسسية هدفها ترسيخ النظام، تمتلك السلطة الفعلية خلف واجهة المؤسسات المدنية؛ وفي الوقت نفسه، كان لا بد من إعادة بناء المنظمات الشعبية مثل اتحاد العمال والفلاحين والنقابات وغيرها و”حزب البعث” على أسس تضمن الولاء الكامل، وذلك عبر توسيع الإدارة الحكومية والجيش والأجهزة الأمنية، مترافقاً مع تزايد القدرة المالية للدولة من جراء المعونات العربية الهائلة التي قدمت الى سوريا بعد حرب 1973، ثم العائدات النفطية السورية التي اكتُشفت فيما بعد؛ وهو ما سمح للأسد ببناء الكوادر البيروقراطية التي ملأت المؤسسات السورية المختلفة التي أنشأها بشكل هرمي يكون فيه رئيس الدولة رأس الهرم، أما أضلاعه الثلاثة التي تنتهي إليه بشكل تام فهي: الإدارة الحكومية والجيش وأجهزة الأمن (الاستخبارات) وثالثاً الحزب.

هذه الأجهزة الثلاثة عبارة عن هياكل هرمية متمركزة تنحدر كلها من قيادة النظام، نزولاً الى المدينة ثم القرية فالحيّ، بدرجات متفاوتة ومتوازية خطياً بعضها مع بعض(…).

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى