صفحات الثقافة

كتّاب لبنانيون ضد “لغة الأبد”


عقل العويط

أصدر كتّاب لبنانيون وثيقة يعلنون فيها الانتساب الشرفي الى رابطة الكتّاب السوريين المستقلين. فماذا يعني لي شخصياً هذا الانتساب؟

يعني أولاً أنه يغبطني أن كتّاباً سوريين أعلنوا للمرة الأولى انشقاقهم العلني الحرّ عن السلطة الثقافية الاستبدادية، الملحقة بالنظام البعثي الجائر، وتشكيلهم هيئة كتابية حرّة، تحيا معنوياً ومادياً بمعزل عن “اتحاد الكتّاب العرب” المقيت، الذي لطالما اضطلع بأدوار توتاليتارية سوداء في امتهان كرامة الكاتب الشخصية والوطنية على السواء.

يعني ثانياً أن الفكر الشمولي السوري، المعبَّر عنه بالبنى الثقافية الشمولية، قد انتهى رمزياً في القبر الى غير  رجوع.

يعني ثالثاً أني أقرّر بنفسي ما أريده لنفسي ككاتب لبناني. وأن الكاتب السوري يقرر بنفسه ما يريده لنفسه ككاتب سوري. وأن هذين الكاتبين يجدان أرضاً مشتركة، قوامها المواطن الفرد المدني، والكاتب الانشقاقي، واللغة الانشقاقية، والاختيار والحرية والكرامة والسؤال والانزياح والنقد، وهي أرض يلتقيان عليها للتفكير والتعبير والرفض والخلق، مع هيئات المجتمع المدني وقواه الخلاّقة، بدون مكبوتات تاريخية وجغرافية وعقلية وثقافية.

هذه الخطوة، على دلالتها الثقافية الرمزية، تساهم بتواضع، ولكنْ بكبرياء وفروسية، في شدّ أزر الانشقاق الثوري الكبير عن البنية “الأبدية” التي تمعن منذ أربعين عاماً في مصادرة الشعب السوري وقتله جسدياً وروحياً، بالاستتباع والإسكات والترهيب والقهر والرعب والتجويع والإفقار، كما تمعن في منع سوريا من أن تكون بلداً يستحق الحياة والحرية والديموقراطية، بذريعة الممانعة القوموية والتصدي للعدو الصهيوني والإمبريالية العالمية.

لا أريد أن أحمّل هذه الخطوة أكثر مما تحمل، فإن هي سوى خطوة رمزية، لكنها تفتح أفقاً لطالما تقنا إليه، وهو من الآن يشقّ الطريق الأطول والأصعب والأخطر و… الأحلى في اتجاه تأسيس مكوّنات المجتمع المدني، البديل النوعي الوحيد من المجتمع الشمولي الكريه.

كثرٌ هم الكتّاب والمثقفون والفنّانون، اللبنانيون والسوريون والعرب، الذين لا يزالون يتماهون مع النظام الاستبدادي، ويضعون على وجوههم أقنعة شتى، أو يختبئون وراء أصابعهم، أو يطمرون رؤوسهم في الرمال. هؤلاء أحرار في أن يفعلوا ما يشاؤون. وهم أحرار في استخدام اللغة الشمولية البائدة، واجترارها، بألفاظها ومعانيها الخشبية. وهم أحرار في خبط رؤوسهم بجدران اللغة المسدودة، ومعاودة الكرّة إلى ما لا نهاية. وإذا كنتُ لا أنصّب نفسي حاكماً لأحد، فإن هؤلاء لن يستطيعوا أن ينأوا “الى الأبد” بأنفسهم عن حكم التاريخ، الذي يضع المنطقة العربية وشعوبها أمام استحقاقات اللغة الجديدة.

اللغة الضدية الانشقاقية، هي التي ننتمي إليها. ليس الآن فحسب. بل مذ كانت اللغة. كل تأخر عن الانضمام الى هذا الانزياح الابداعي الثوري، يمكّن الاستبداد من أن يواصل تأبيد ذبح، لا الشعب السوري فحسب، بل شعوبنا جميعاً، وفي مقدمها شعوب لبنان وفلسطين ومصر والعراق.

إنها لغتنا، ونريدها لا “لغة الأبد”، بل ضدّها. وضدّه!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى