رستم محمودصفحات مميزة

كسل الثقافة في إدراك ظاهرة الجلاّد/ رستم محمود

تغرق الثقافة السورية، بمجمل مؤسساتها وفاعليها وسلوكياتها، تغرق في تشكيل صورة بالغة المباشرة والسطحية والسذاجة حول ممارسي العنف السوريين، “جلادو البلاد”. من أعضاء ورؤساء الأجهزة الأمنية والعسكرية، من أفراد وقادة الجماعات المسلحة. فهي تعتبر هؤلاء كائنات “شريرة” بالفطرة، تمارس العنف لذاته، تملك خصاما جوهريا مع المجتمع وقيم “الخير”، لا يحدها ولا يؤثر بها أي معطى ثقافي أو أيديولوجي أو نفسي أو روحي. تنهمك الثقافة السورية في هذا الشأن بما هو أقرب لسلوك السياسي منه لرؤية المثقف، فهي لا تقدم ما هو أعمق من الموقف المباشر، ولا تبذل أكثر من التعين القيمي “الذاتي”، ولا تكترث سوى بالإنفعال والغضب. لا تنشغل الثقافة السورية بالتفسير والتفكيك والتحليل والمعرفة واستخدام العلوم الإنسانية لكشف عوالم هذه الظاهرة بخاصياتها وتكوينها، وأبعادها السورية.

ثمة ما هو حقيقي من الأسئلة التي لا تشغل لها الثقافة السورية بالا، في هذا السياق: هل يتسق الجلاد السوري نفسيا وعقليا وروحيا مع ممارسته العنفية التي يمارسها؟! هل حقا هو كائن منفصم عن جوهره التكويني البشري! هل يعرف الجلاد السوري ويدرك طعم عذابات ضحاياه، وما صورة هؤلاء الضحايا في ذهنه ومخياله، هل يشعر بعقدة تفوق أم مركب نقص تجاه هؤلاء الضحايا وما يمثلونه من هويات وإنتماءات؟! ما موقع الطائفية والمذهبية والمناطقية والطبقية في تشكيل وتبرير أفعالهم هذه؟! من أي مستويات اقتصادية ومواقع اجتماعية ينحدر هؤلاء بأغلبيتهم الغالبة، وما سمات وتأثيرات تلك الذاكرة المجتمعية على أدوارهم ومقاصدهم؟! ما هي خصائصهم وسلوكياتهم خارج مؤسساتهم وأدوارهم، في حياتهم الخاصة وممارساتهم اليومية؟! ويبقى السؤالان الأكثر إلحاحا وحقيقية: ماذا يحمل هؤلاء الجلادون من صورة عن ذواتهم، أي تقييم ذاتي باطني يحملونه عن أنفسهم، وما مستوى الرضا الشخصي عن الذات، الذي يملؤهم حقيقة؟! وأخير، هل حقا هؤلاء الجلادون كائنات سعيدة؟!

ليس للثقافة السورية أن تقدم أجابات سريعة ومباشرة ومعينة عن كل ذلك، كما فعلت الرواية السورية في أكثر من مناسبة خلال العقد الماضي. وليس لها أن تحول الجلاد إلى كائن خارجي معزول ومجرد وغير مدرك، كما فعلت “كوميديا” دريد لحام لعقود وعقود. ليس للثقافة السورية أيضا أن تُغرق الجلاد في صوره وأنماطه التاريخية، لتحوله من معين سياسي واجتماعي إلى بنية محض ثقافية وتاريخية، بالضبط كما سعى المسرح السوري طوال عقود الكبت. على الثقافة السورية أن تثير النقاش حول هذا الدور وهذه الشخصية المحورية في الاجتماع السوري، والتي يمكن عبرها سبر وفهم الكثير من مناطق وطبقات المجتمع السوري. فالجلاد السوري وعوالمه هو ما أوصل البلاد لما هي عليه، والأكيد أنه سيبقى يلعب دورا وحضورا في شأن البلاد كلها مستقبلا. على الثقافة أن تقدم أجوبة مستبطنة وعميقة وذات بُعد ودلالة.

على مؤسسات الثقافة السورية والفاعلين فيها، في المسرح والرواية والشعر والنحت والموسيقى والرقص والسينما والترجمات والإعلام..الخ، عليها في الآن الذي تنشغل به في البحث والتقصي عن تلك العوالم، عليها أن تدرك مدى قصور دورها الذي كان، والذي كان مدخلا مهمّاً لتسعير دور الجلاد وحدّة فعله في حياة البلاد الراهنة. على الثقافة أن تنفذ الى عوالم الجلاد لتفهم المؤسسات التي أنشأت الجلاد وهيئته، عضوية تلك المؤسسات في المجتمع السوري وتشابكاتها مع المؤسسات والتنظيمات الأخرى، سلوكها وقوانينها الداخلية وقيمها ومصادر قوتها وضعفها.

يروي القاضي السوري المنشق خالد الشبيب، أنه عثر ضمن ملف الضابط المعتقل بشير النجار، الذي كان رئيسا لشعبة المخابرات العامة الفظيعة “أمن الدولة”، حيث أُعتقل وأودع في زنزانة منفردة بسجن ذلك المبنى فيما بعد، يروي أنه عثر على ورقة ضمن الملف بخط يد هذا الضابط، وقد كتب بها “أعرف أنني أعتقلت الآلاف ضمن هذه المنفردات، وأمرت بقتل المئات منهم ضمنها، لكني لم أكن أدرك يوما بأنها بكل هذه القسوة!”.

ليس لأحد، سوى الثقافة السورية، من أن تقدم تفسيرات وشروح وفهم إنسانوي لعموم ظاهرة الجلاد، حسب الخصائص المحلية للبيئة السورية. أجابات متجاوزة لاستقطابات السياسة والطوائف والمناطق والجماعات، اجابات لا ترى هذه الممارسات والأفعال جوهرا لأية جماعة أو ثقافة أو جهة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى