مراجعات كتب

سيرة وطن في سيرة رجل

 

 

مراجعة: ضحى الخطيب

[ الكتاب: من الانتداب الى الانقلاب، سوريا زمان نجيب الريس

[ الكاتب: سعاد جرّوس

[ الناشر: دار رياض الريس للنشر بيروت 2015

«أما دمشق التي ضربت بيوتها في عهد صبحي بركات فإن أطلالها الصامتة هي التي تبرق بالعزاء كما تبرق الثواكل الى قتلة أولادهن. إن الأطلال المحترقة في دمشق وتلك القبور المنتشرة في الغوطة وحدها التي تمثل دمشق وأفضل من في دمشق، وإن حفنة من تراب الميدان والغوطة ذلك التراب الذي امتزج بدم الشباب الغالي لن تسمح أن تطأها قدم ابن بركات رئيساً للجمهورية… وهيهات أن تنشف دموعكن أيتها الأمهات في دمشق والغوطة».

جاء ذلك في مقالة كتبها الصحافي نجيب الريس وذلك في افتتاحية في جريدته (القبس) العدد الصادر في 20/1/1932، تلك الفترة التي شهدت سوريا تصاعداً في حدّة المواجهات، وتوضحت حدّة الانقسام في المشهد السياسي بين وطنيين (بوصفهم ديموقراطيين) يسعون الى إقامة دولة ديموقراطية، وبين كبار الموظفين في الدولة والحكومة من المتعاونين مع سلطة الانتداب، بوصفهم (رجعيين).. المشهد حاضر في الأذهان وما أشبه اليوم بالأمس.. قدرك سوريا..

وبالعودة.. فإن سوريا زمان نجيب الريس يعيدك الى زمانه لتعرف أن سوريا الملكية في عهد فيصل كانت جنين دولة مدنية بهوية عربية اسلامية أجهضها الانتداب، وفي عهد الحكم الوطني كانت جمهورية ديموقراطية ناهضة، وتعدّ بين الدول الغنية المتقدمة في المنطقة، تعرف هذا تفاصيله وأنت تعيش تفاصيل انحدار سوريا في يومنا هذا الى درك الدول الفاشلة، إذ يعيد التاريخ نفسه، ويعود السوريون القهقرى الى ما قبل الاستقلال الأول على نحو يقتل الحاضر.. وأما المستقبل فضبابية قاتمة تلفه.

حلّ نجيب الريس في دمشق في سنّ مبكرة فتياً ترافقه الأحلام ببعث أمجاد العرب، وكانت فتية أيضاً. استحوذت الصحافة على اهتماماته وأخذته من عالم الأدب الى عالم السياسة، لدى انخراطه في النضال ضد الانتداب ملتحقاً بحزب (الشعب) الذي أسسه الزعيم عبد الرحمن الشهبندر في الربع الأول من عقد العشرينيات ليغدو (الصحافي الثائر) مع انطلاقة شرارة الثورة وانتشارها في كل مناطق البلاد مدفوعاً بعبرة السوريين الكبرى، فاجعة ميسلون تموز 1920، فشكل يوم ميسلون نقطة انطلاق مسيرة نجيب الريس النضالية القاسية في ميدان الصحافة السياسية، فأهدى الى ذلك اليوم «ما كتب وما يكتب وما سوف يُكتب»، مكللاً بدايته المهنية في ظل الانتداب بالاعتقال مع عبد الرحمن الشهبندر، ولفيف من الشباب السوريين المناهضين للانتداب. وبين جدران سجن أرواد نظم نشيده.. يا ظلام السجن خيّم اننا نهوى الظلاما» ليغدو نشيد الشباب العربي في وجه الانتداب الأوروبي، حفظه التلاميذ في سوريا ولبنان والعراق بعد أن لحّنه الموسيقار محمد عبد الوهاب، وانتشر انتشاراً لم يحظ به نشيد آخر.

وهكذا تتابع الباحثة الصحافية سعاد جرّوس مسيرة نجيب الريس الصحفية، وتأخذ القارئ في رحلة استكشافية في ردهات الصحافة السورية في أوج عطائها فيعيش معها بهجة الاستقلال الأول وانكسار ميسلون، وبطولات الثورة السورية، وبطش الانتداب، انتصار الدستور الأول وخزي الحركات الانفصالية، أفراح الاستقلال الثاني وفخر رفرفة العلم الوطني في مهرجان الجلاء، ذل الخيبة في فلسطين، ومأساة فقدان البوصلة في يمّ الصراعات الدولية، ملهاة وعنجهية العسكر ومراهقة السياسيين. تقلب صفحات جديدة القبس ليبرز نجيب الريس بدوره المهم والفاعل في أكثر مرحلة من مرحلة سوريا السياسية والوطنية والواقعة بين الانتداب والانقلاب، والذي تم تجاهله عن عمد وإلى هذا فإن الباحث وفي محاولة رصده لسيرة حياة هذا الصحافي الوطني الثائر ليجد صعوبة في فصل سيرته عن سيرة سوريا في تلك الفترة الممتدة من العام 1918 الى لعام 1953. لذا جاء هذا الكتاب بمثابة مرجع تاريخي سياسي في إطار تجربة صحفية عكست الدور الذي مرت به الصحافة السورية والذي شهدت فيه ازدهاراً وتألقاً بالرغم مما شابها من ضغوط ومحاولات لمصادرة آرائها.. الا أن نجيب الريس كان صحفي هذه الفترة بجدارة، كان الأكثر تأثيراً.. كاتب أقوى الافتتاحيات في عصره، التي روت ما طمس من تاريخ سوريا الدامي.. فتى جاء من حماه وهو في الثامنة عشرة من عمره بالقنباز الحموي، ليصبح أشهر صحافيي بلاده، وليصير نائباً عن دمشق التي تنتخب لأول مرة رجلاً من غير أبنائها ليمثلها في البرلمان. فهذه الفترة، (الخمسين سنة) هي تاريخ نصف قرن سوري، من الانتداب الى الانقلاب، كما عاشها نجيب الريس وعاصرها وكتب عنها. ويمكن القول، بأنه، ولأول مرة تُروى سيرة وطن عن طريق سيرة شخص؛ فتتيح تفاصيلها رؤية المشاهد السياسية ناطقة… في نقاشات النواب الساخنة في البرلمان.. وما جرى عند صياغة الدستور ودور الاقطاعية وممارساتها والمسائل التي جرى صراع كبير حولها؛ من تحديد للملكية الى التأميم.. الى تعيين دين الدولة والموقف من المعسكرين الشرقي والغربي.

ولندع المشاهد والوقائع تتكلم وتتحدث عن نجيب الريس في موقفين لها من الأبعاد والتأثيرات ما لها في تاريخ العرب عموماً، وفي تاريخ سوريا على وجه الخصوص. الحدثان هما: 1 اختيار دين الدولة. 2 النكبة الفلسطينية.

كان تحديد دين الدولة في نص الدستور السوري من أعقد المشكلات التي واجهتها حكومة خالد العظم، ومن ثم ناظم القدسي لدى صياغة الدستور الجديد، لما أثاره من جدل واسع في الاوساط الدينية والشعبية المسيحية والاسلامية والحزبية. ففي جلسة صاخبة عقدتها المجالس التأسيسية في 29/4/1950 لإيجاد مخرج للأزمة تم تشكيل لجنة من ثمانية أشخاص يمثلون جميع الكتل البرلمانية، نصفهم مسلمون والنصف الآخر مسيحيون، مهمتها دراسة مادة دين الدولة وإيجاد الحل المناسب. وجاء ذلك بعد أن خرج الجدل الى الصحافة وبات موضوع الساعة الذي شغل الشارع السوري.

إذ راح بعض رجال الدين يوزعون عرائض على الناس للتوقيع عليها تطالب بتعيين دين الدولة الاسلام. أما نجيب الريس فقد كتب في افتتاحيته في جريدة (القبس) معبراً عن رأيه بالقول: «لو كانت هذه البلاد للمسلمين وحدهم، لكانوا أحراراً في فرض دينهم على أنفسهم وعلى حكوماتهم وحكامهم، ولكن البلاد ليست لنا وحدنا، بل هي لنا ولغيرنا، وخصوصاً النصارى الذين كانت لهم قبلنا والذين دخلنا عليهم وهم فيها أصحاب دولة وملك ودين». أما موقفه الثاني فتجلى عند هزيمة العرب وحصول إسرائيل على أراض فلسطينية أكثر بكثير مما حدده قرار التقسيم. كتب وبعد توقيع مصر الهدنة الدائمة مع اسرائيل في 26/2/1949، معتبراً ذلك «هزيمة أخلاقية» للحكومات العربية قائلاً: «لو أن هذه الحكومات انهزمت حربياً وعسكرياً ومالياً لما كان لنا أن نعتب أو ننتقم. فالشعوب والأمم طالما انهزمت حربياً وعسكرياً ومالياً في المعارك.. اذا كانت أخلاق المنهزمين سالمة وإيمانهم قوياً.. ولكن الذي يؤلم ويخبل هو أن الدول العربية كلها لم تنهزم حربياً ولا عسكرياً ولا مالياً، غير أن المسؤولين عن هذه الدول قد انهزموا أخلاقيا..».

عرى وفضح ممارسات رجال البلاد (السياسات) وسياسييهم في التلاعب بأقدار أمة عربية بأكملها.. فسجن كثيراً وعذّب كثيراً. ولم تكن عزيمته عن الجهر بكلمة الحق عبر افتتاحياته لم يهادن..

كتب نجيب الريس ودفع مع جريدته ثمن مواقفه السياسية والوطنية اعتقالاً وتعطيلاً، تعطيلاً لاحقاً طوال حياتها…

لم يقف الريس عند معالجاته للأوضاع السياسية والوطنية، فقد عالج والى جانب ذلك، مختلف مناحي الحياة.. كتب في شؤون الدولة، المال والتجارة والزراعة والتعليم والفن والدفاع.

وتهاوى صقر الصحافة فجر السبت في التاسع من شباط 1952. ونعت سوريا للبلاد العربية «سيد الصحافيين العرب»، «صقر الصحافة».. «الثائر المتطرف»، وأسد الصحافة «المخيف».. «القبس المضيء«، «معلم الوفاء».. «مدرس الوطنية والجهاد»، «فقيه الأدب والقومية والوطنية».. كاتب أبلغ الافتتاحيات في الجرائد العربية، ونعت إذاعة دمشق أحد أهم مناضلي الكلمة الحرة، والشعلة التي أضاءت الصحافة السورية ثلاثة وثلاثين عاماً؛ كانت زهرة شبابه وعنفوان رجولته في حياة لم تعرف المهادنة. ودّعته دمشق بشيبها وشبابها، وبجميع أطيافها وتياراتها ودعته محمولاً على الأكتاف ملفوفاً بعلم وطن نذر له نفسه وكلمته.

 

 

 

نجيب الريس والتاريخ السوري المفقود/ صبر درويش

أفرجت الثورة السورية عن تاريخ السوريين، أو على الأقل عن أجزاء منه، بعد أن عمل نظام الأسد عبر العقود الماضية، على طمسه حيناً، والتلاعب به في كثير من الأحيان، حتى كاد التاريخ السوري أن يكون فقط تاريخ حزب البعث الحاكم منذ انقلابه حتى اليوم.

يعيد السوريون تلمّس تاريخهم الوطني، ويسعون الى فتح ملفات كادت تندثر من كثرة ما جهدت السلطة الحاكمة في إخفائها وحتى تزويرها.

وتسعى الصحافية السورية سعاد جروس، عبر كتابها «من الانتداب الى الانقلاب، سوريا زمان نجيب الريس»، الى إلقاء الضوء على جانب من هذا التاريخ، الذي اختارت زاوية منه هي زاوية العمل الصحافي، والتي امتازت بتاريخ عريق امتدّ حوالى الخمسين عاماً قبل حكم البعث السيئ الصيت.

الكتاب الصادر عن دار رياض الريس، والذي قدّمه رياض الريس، ابن نجيب الريس ذاته، مشيداً بجهود الكاتبة في عمل استغرق حوالى العقد، يعود بنا إلى البدايات. فقد نشط نجيب الريس وباقي أقرانه في عهد حكومة الأمير فيصل، ونشطت الصحافة في مناخ من الحريات كان مفقوداً في عهد الاحتلال العثماني. وبين 1918 و1920، تدفقت الجرائد والمجلات حتى وصل عددها الى 42 جريدة و13 مجلة. ومع معركة ميسلون، ودخول جيوش الاستعمار الفرنسي، ستُطوى هذه المرحلة من الحريات وبناء الدولة الوطنية وستبدأ مرحلة جديدة من النضالات الشعبية.

في 1922، اعتُقل الريس وعمره لا يتجاوز منتصف العشرينات، وفي سجن جزيرة «أرواد» بالقرب من مدينة طرطوس حيث كان معتقلاً عام 1925، سيكتب الريس أهم أناشيده التي سيردّدها الشباب السوري حتى يومنا هذا، والتي تبدأ بـ «يا ظلام السجن خيم، إننا نهوى الظلاما»، وهو النشيد الذي لحّنه الموسيقار محمد عبدالوهاب عام 1933، ليصبح واحداً من أهم الأناشيد التي صدحت بها حناجر المتظاهرين السوريين في تظاهراتهم المناوئة للاستعمار الفرنسي.

لقد شهدت المرحلة تلك، صراعات متصاعدة بين السوريين، وعكست حدّة الانقسام في المشهد السياسي بين وطنيين «ديموقراطيين» يسعون الى إقامة دولة ديموقراطية، وبين كبار الموظفين في الدولة والحكومة المتعاونين مع سلطة الانتداب. وبصفته الصحافية، وقف الريس كواحد من أشرس الوطنيين الذين سلّطوا أقلامهم لنقد وتعقّب الفئات المنحازة الى سلطة الانتداب.

كذلك، أصدر الريس جريدة «القبس» التي توقفت عن الصدور غير مرة، وأعيد إصدارها، كما واجهت العديد من الدعاوى التي رفعتها الحكومة ضدّها، ولم ينجُ الريس نفسه من هذه الدعاوى، إذ أحيل الى محكمة بداية الجزاء بدمشق في سبع دعاوى بتهم القدح والذم، وبُرئ من جميع هذه التهم لاحقاً.

وفي المرحلة التي سبقت استقلال سورية، والسنوات القليلة التي تلت الاستقلال، ترشّح الريس للنيابة العامة على قائمة شكري القوتلي، ليكون أول سياسي غير دمشقي تنتخبه العاصمة السورية، حيث ظلّ نائباً حتى 1946.

ودافع الريس عن عروبة لبنان في مواجهة التيار الماروني المتشدّد والممثَّل بالرئيس إميل إده، الذي «حوّل لبنان خلال خمسة وعشرين عاماً إلى أكبر عدوّ للعرب والإسلام، مع أن لبنان أكثر بلد عربي خدم اللغة العربية والآداب الإسلامية أيام كانت مهدّدة بالفناء»، كما يقول الكتاب.

وبدورها، تلقي جروس الضوء على الموجات السياسية التي شهدتها سورية عقب الاستقلال، وتسرد سلسلة الصراعات التي نشبت بين القوى السياسية، حيث شهدت السنوات الأربع بعد الجلاء «نشوء جمهوريتين ودولة، وثلاثة برلمانات ودستورين: واحد معطل وآخر لم يصدر بعد، وثلاثة انقلابات عسكرية، وانقلاباً سياسياً رابعاً هو الانفصال الجمركي الاقتصادي بين سوريا ولبنان».

كثيرة هي التفاصيل التي يسردها الكتاب، ويبقى القول إن من الصعب الإحاطة بكل ما جاء في المرحلة الممتدة بين الانتداب الفرنسي والانقلاب الأسدي، إلا أنه لا بد من التأكيد على أهمية هذا الكتاب لما يعرضه من أحداث وتفاصيل تخصّ تاريخ السوريين، الذي يكاد يكون مجهولاً من الأجيال التي وُلدت في ظلّ حكم عائلة الأسد. فالأخيرة، تمكّنت من إقصاء هذا التاريخ والتعتيم على شخصياته الوطنية، بحيث صحّ ما يؤكّده من أن للسوريين تاريخين، واحد كتبه نظام الأسد وأعمل فيه الكثير من الشطب والتزوير، وآخر يسعى السوريون إلى استعادته واستعادة روايته وكتابته مجدداً.

* كاتب سوريٍ

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى