صفحات العالم

كل عام وأنتم بخير: في ذكرى حركة التصحيح في سورية…


د. يحيى مصطفى كامل

  بينما كنت أقلب القنوات الفضائية في شرود، استقريت، بالصدفة البحتة والله، على الفضائية السورية… فوجدت مذيعيها يهنئون أطرافاً عديدة في حبورٍ طافح بالذكرى السنوية لحركة التصحيح مسلطين الأضواء على الفعاليات الشعبية النشطة المخصصة للاحتفال بها… مغالباً شعوري العميق بالتقصير في أداء واجبي حيث لم أرتد ثياب العيد ولم أرسل برقيات التهاني والمعايدة في هذه المناسبة المقدسة وللتكفيرعن ذنبي إذ نسيت قرب حلول الذكرى فقد عكفت على استحضار الحدث التاريخي العظيم بكل جلاله الذي دشن هذه المسيرة الطويلة الملتوية من عمر الكابوس الممتد الذي أوصل الشعب السوري إلى هذا القاع من الجحيم….

لعل أول ما أدهشني هو هذا الانفصام عن الواقع… كأن البلد لا تجتاحه ثورة ولا يعاني من أية مشاكل وكأن ‘حركة التصحيح’ تلك خارج التاريخ كونها إحدى الحقائق المقدسة المنزلة من السماء..

وبعد طول تفكر تأكد لدي أن للحدث دلالته العميقة والكاشفة فهو يشكل ظاهرةً مهمة في التاريخ العربي الحديث.. فذلك الانقلاب العسكري الذي يشبه للوهلة الأولى غيره من الانقلابات الكثيرة في سورية كان ناطقاً بكل المكونات الرئيسية والمميزة التي صبغت النظام الناتج عنه: الإقصاء والفرز الطائفي وسيطرة الأمن المتغلغل في شتى مناحي الحياة وأدقها والمعتمد في كوادره على وحدة الطائفة فالعشيرة فالأسرة، والعنف ثم العنف ثم العنف… بطريقةٍ ما شكلت الممارسات الإقصائية للأسد استمراراً للخط الذي بدأ بوصول البعث إلى السلطة وربما بالانفصال، إلا أنه تميز بمقدرةٍ فائقة لا مثيل لها على التآمر الصموت والقسوة الدموية مع التركيز على المنحى الطائفي/العشائري… لقد استهل عهده المبارك بالتخلص من رفاق الأمس إعداماً وسجناً ونفياً بصورةٍ منهجية، وبذا فقد ولد نظام آل الأسد من الدم والعنف وعُمد بالدم والتصفيات… ثم استعاض عن تصلب ودوجماتيكية سابقيه وعن سلطة حزب البعث المفترضة وهيكله ببراجماتية سياسية ومرونة تهدف وتتمكن من البقاء مع النجاح المدهش في التظاهر بالحرص على المبادئ، وقد تزامن ذلك مع إفراغ الحزب من أية فعالية حقيقية إثر عملية إحلال وإبدال ضخمة جندت أهل الثقة وملأت بهم الصفوف، وهو نفس ما حدث في منظومة الأمن البشعة التي بات قوامها من المنتمين إلى طائفةٍ أو عشيرة أو منطقةٍ جغرافيةٍ بعينها يذلون الناس ويشيعون الرعب حتى لم يعد في سورية نظامٌ يعتمد على الأمن وإنما أمنٌ ينتج نظاماً ويصيغ سياساته وأولوياته ويرتبط ارتباطاً عضوياً أسرياً مع أسرة الرئيس…

بيد أن أهم سمات ومنجزات النظام، في رأيي هو الملف الخارجي، ذلك الذي تعامل معه الأسد الأب مولف النظام ببراعة؛ لم يكن لدى الرجل ونظامه سوى ثابتٍ أساسي ألا وهو البقاء لنظامه بما يسبغه من سلطةٍ ونفوذ عليه وعلى أسرته والدائرة الضيقة من الملتفين حوله (الذين لا يأتي انتماؤهم إلى نفس العشيرة والطائفة من قبيل الصدفة…) وعلى استمرار التركيبة الاجتماعية الغير طبيعية التي كرسها بالعنف والأمن/الاستخبار… وفي سبيل ذلك كان على أتم استعداد للعب بأقصى درجات المرونة والتحالف مع أي طرف، مع الشيطان نفسه إذا اقتضــــى الامــــر… وإبان خروج مصر من معادلة الصراع وفي زمن الجزر الثوري وانتكاس مشروع النهضة والتنمية والتحرر العربي مما يقتضي الإنصاف عدم تحميل نظام الأسد المسؤولية عنه وحده، في هذه الملابسات تقدم الأسد لملأ فراغ القوة الأقليمي مزايداً على القضايا الوطنية المصيرية ومتدثراً برطانة البعث التي ورثها… في حقيقة الأمر وجوهره لم يختلف كثيراً عن بقية الطوائف اللبنانية بتحالفاتها الهادفة للبقـــــاء في محيطٍ ضيقٍ مشتعل يغص بالفرقاء؛ الاختلاف أنه جيش وراء بقائه بلداً وشعباً بأكمله لم يكن يرى نفسه من خلال الطائفة على عكس الحال في لبنان وأن الطــــرف الأقوى الذي كان يصارعه على مناطق النفوذ كان إسرائيل وفق لعبة معقدة خلت تماما من شبهة وهم القضاء عليها…وزاد على ذلك بأن اصطنع شبكةً إقليميةً وعلاقات عالمية تدعم موقفه وتردفه في الأزمات…لقد نجح ذلك النظام بتفوق في البقاء وفي أن يكون مزعجاً بما فيه الكفاية…ولكنه كان يعرف حدوده التي لا يتخطاها….

أما داخلياً فإن النظام الذي استن توريث السلطة الرئاسية يواجه فشلاً اقتصادياً وتفتتاً وركوداً اجتماعياً في وجه فساد الجهاز الحكومي البشع وترهله واستئثار العشيرة بدايةً ومن ثم الاسرة الرئاسية الذهبية وأقرب الاقرباء بمصادر الثروة كلها تقريباً ضانين بالفتات الذي كان يُلقى به إلى الطبقات الوسطى الأنشط اقتصادياً في المدينتين الأكبر دمشق وحلب… لذا، فحين غشي الموج الثوري سورية وفاض الكيل بالشعب لم يبق سوى التطويق الأمني الكثيف للمدينتين (وربما رواسب من أطياف وآمال المصالح المتبادلة مع النظام؟..) يحول بينهما والانضمام إلى الغالبية الساحقة من الجمهور في الأطراف المطالب بسقوط النظام ومحاكمة رأسه ومنظومته الأمنية المتغولة، وإن كان ذلك النمط آخذٌ في الانكسار الآن…إن النظام/ الأسرة الذي استولى بجشعٍ غبيٍ جهول على الاقتصاد لم يدرك أنه يقلص تحت قدميه تلك القاعدة من التحالفات الدقيقة مع فئات وطبقات من بورجوازية المدن التي ضُمنت مصالحها مما وفر توافقاً ما كفل للنظام الاستمرار عبر سنوات ٍ طويلة وغطاءً إلى منظومة الأمن الأساسية يدعمها إعلامٌ موجه في الداخل وتابع ٌ في بعض العواصم العربية تنشر المزايدات على القضايا المصيرية أمام جمهورٍ انطلت على بعض قطاعاته هذه الأكاذيب…

لقد عرت الثورة النظام من ادعاءات المبادئ ولم تعد تجدي المزايدات و’الكليشيهات’ المعتادة عن المقاومة والممانعة إلخ…عرته تماماً حتى بان على حقيقته: عصبةٌ أمنيةٌ شرسة ونظامٌ منحطٌ وفاسد حتى النخاع نجح في إلصاق مسميات وسُتر الدولة الحديثة على تصوراتٍ وبنى حاكمة هي مزيج من العشائرية والطائفية الإقصائية الفاشستية المنحدرة من مخلفات العصور الوسطى… عرته الثورة أمام شعبه وأمام أولئك المخدوعين فيه ولم تبق سوى تلك الشبكة التي ذكرنا من التحالفات تدعمه وتؤخر سقوطه حفظاً لمصالحها على حساب الشعب السوري، وليس مما يدهش أن النظام الذي كرس الطائفية واعتمدها أسلوباً وزاداً يحاول الآن في يأسٍ متسرع أن يصطنع له قاعدةً داخليةً تدعمه من الأقليات لاعباً على وتر التخويف من مستقبلٍ تُضطهد فيه ليعوض تلك القاعدة الأخرى من التحالفات الطبقية القائمة على المصالح التي ذكرنا والتي استغرق بناؤها سنواتٍ عديدة… هذا بالإضافة طبعاً إلى منظومة الأمن وفرقٍ عسكرية بعينها تم انتقاؤها وفقاً للولاءات الطائفية والعشائرية فهي ترى بقاءها من بقاء النظام…

إن النظام الذي بدأ بالترحيب بالربيع العربي قبل أن يصل إلى سورية ثم حين داهمته الثورة انهمك في قتل شعبه بينما يحتفل بذكرى حركة التصحيح نظامٌ فاسدٌ منفصمٌ عن الواقع من الأساس…فهو لا يرى سبباً وجيهاً في خضم كل ما يحدث يدعوه إلى نقد الذات أو مراجعة الماضي من عمر النظام/ الظاهرة أو حتى قليلاً من التواضع وتخفيف الرطن…هو يزعم أو يرى أنه يستطيع التعامل مع الأزمة وأنه ليست لديه إشكاليات عميقة، وعليه ما كل ذلك الحديث عن الإصلاح والحوار سوى محض هراء وشراء للوقت بما يتيح للمنظومة الأمنية بالسيطرة على الموقف، أي قتل من تستطيع وإرهاب الباقين..

ولكن هيهات… لقد وصل الصراع في سورية إلى مرحلةٍ لم يعد للتوافق فيها من مجال ولن تجدي المسكنات… والمعادلة بسيطة، إما أن يرحل الشعب أو يرحل النظام…

عقلي البسيط يخبرني بأن المنطق والتاريخ يؤكدان رحيل النظام إن عاجلاً أو آجلاً.

‘ كاتب مصري يقيم في بريطانيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى