صفحات سورية

الثورة السورية والعالم: من استعصاء لآخر


محمد برهان

وَسَمَ التوجس تعامل العالم مع الثورة السورية من أول يوم لها، ففي الشهرين الأولين بقي هذا العالم يتساءل في سره: هل حقا ثار السوريون أما انها مجرد انفعالات شعبية وتقليد غير متقن لموجة الثورات العربية لن يلبث ان يزول كما أكد الأسد في خطابه الاول حول الأزمة؟ .. حتى أن وسائل الإعلام العربية والعالمية نقلت ما يجري في المحافظات السورية في الأسابيع الاولى بكثير من التحفظ والريبة..

عندما اتضحت معالم الثورة أكثر وفرضت نفسها في الشارع بقوة عبر خروج مئات الألاف في حمص وحماه ودرعا انقلب السؤال من (هل هناك حقا ثورة في سوريا؟) إلى (ما هي هوية هذه الثورة ؟) ومرة أخرى استطاع النظام أن يلعب لعبته التي دأب عليها منذ اكثر من أربعين عاما فعمل ما في وسعه لصبغ الثورة بلبوس طائفي مستفيدا من حقيقة لا يمكن تجنبها وهي أن غالبية من خرج للشارع هم من طائفة معينة. الأمر الذي لم يكن يرتبط عى الإطلاق بهوية الثورة بحد ذاتها ولكن بتركيبة الشعب السوري الديمغرافية والتي تشكل الطائفة السنية الاغلبية فيها.

ورغم أن بحث العالم عن أجوبته كان يكلف السوريين كل يوم مزيدا من القتل والمأساة إلا ان المجتمع الدولي كان يتحرك ببطء شديد نحو بناء قناعاته متعللا بسببين أساسيين باتا كالشماعة التي يعلق عليهما -لا أقول عجزه ولكن – عدم رغبته في حسم المشكلة السورية..

اولهما الموقف الروسي الذي لم يكن يوما مشكلة في طريق اتخاذ خطوات فعالة في مواجهة أزمات العالم وثانيهما ما اصطلح على تسميته ‘بتوحيد المعارضة السورية’.. وهو مصطلح بحد ذاته بعيد عن أدبيات السياسية لأنه يناقض مبادئ الديمقراطية التي تنشدها كل أطياف المعارضة السورية والتي لا نجد في أي من أجنحتها من يشير إلى نقاط خلاف جوهرية حول ضرورة إسقاط النظام وبناء مجتمع سوري ديمقراطي منفتح.

إنّ تمهّلَ المجتمع الدولي وفتوره المبطن تجاه الثورة السورية في مقابل إصرار واندفاع الشعب السوري لاكمال ثورته جعل النظام يرمي بورقته الثقيلة التالية وهي المذابح الهادفة إلى إيقاد الحريق الطائفي.الأمر الذي أيقظ العالم أخيرا على حقيقة تباطؤه وعلى النتائج الوخيمة لتردده في مساعدة الشعب السوري وذلك عندما صدمته صور الأطفال والنساء المذبوحين في الحولة فهرع يحث الخطى أكثر نحو بلورة موقف أكثر وضوحا حول ما يجري.

البعض يتساءل هنا ولكن ما مصلحة النظام السوري إذاً في ارتكاب كل هذه المذابح الجماعية .. أليست تساهم في تأليب الرأي العام العالمي ضده وتزيد قناعة العالم بضرورة رحيله؟..

هذا صحيح، لكن النظام لم يعد ينظر اليوم إلى تأييد العالم كحاجة حقيقية لبقائه فهو يدرك انه خسر هذه الورقة تماما..إنه يتطلع اليوم إلى استجلاب الخوف مما قد يحدث بعد رحيله ليؤخر قدر الإمكان أية خطوة دولية ناجعة في هذا الإتجاه.

هذه المذابح إنما تكرس اليوم خوف العالم على أكثر من مليوني علوي يعيشون في سوريا أخذهم النظام كرهينة في معركته مع الثورة السورية وبات يهدد المجتمع الدولي بهم وبمصيرهم .. إن ما يؤخر العالم عن اتخاذ خطوات حقيقية وفعالة لإسقاط الأسد ونظامه ليست فقط روسيا او الصين ولكن إدارك المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة أن الطائفة العلوية في سوريا والتي تصل إلى 15′ من تعداد سكان البلاد باتت في خطر..وان هذا الخطر الذي يهدد الطائفة سيتحول بالضرورة إلى نزاع أقليمي عنيف سيغرق المنطقة من لبنان إلى العراق بالدماء وستطال شرارته المحيطين التركي والإيراني.. نعم لقد تأخر العالم كثيرا حتى وصل نصل السكين إلى الرقبة.

ولكن هل من سبيل للخروج من هذا الاستعصاء دون الدخول في استعصاء آخر كما تعود العالم أن يفعل في تعامله مع الثورة السورية وهل خطة عنان هي حقا كما يروج الآن الحل الأمثل لتجاوز هذا الاستعصاء؟.

ما من شك في المجتمع الدولي لا يخاتل ولا يناور عندما يقول ان خطة عنان هي الحل الوحيد الموجود على الطاولة حتى اللحظة. وأنها المبادرة الدولية الوحيدة التي لم تختلف الرؤى بشأنها حتى الساعة..

ولكن ما الذي يعيق هذه الخطة ويجعل العالم غير قادر على فرضها بحزم على النظام السوري؟

إن أكبر مشكلة تعانيها الخطة هي في بنيتها وأولوية نقاطها؟ إذ كيف لمباردة هدفها النهائي وقف العنف وتحقيق المطالب المشروعة للشعب السوري أن تبدأ بطلب وقف العنف والعمل على تحقيق المطالب الشعبية غاضة الطرف عن مبدأ أساسي في علم المنطق والسياسة وحتى المجتمع يؤكد ان حل المشكل يبدأ من معالجة أسبابها فلو كان وقف العنف وتحقيق المطالب منوط بطلبٍ وبطالب لكان النظام استجاب لذلك من النداءات والإشارات المتكررة التي تلقاها من المجتمع الدولي على مدار شهور.. إن الحل الجاد هو في معالجة الاسباب والبدء من أصل المشكلة فالعنف لن يتوقف قبل تحقيق المقاربة السياسية لأسبابه والعمل على إلغاء هذه الأسباب بصورة ناجزة..

إذاً وبدل البدء من النتائج ومحاولة التغلب عليها كان على عنان توفير الجهد في تلافي الأسباب والتركيز على عملية سياسية شاملة وصادقة تحظى بدعم دولي معلن وتقود إلى إحداث التحول السلمي المطلوب .. الامر الذي كان سيقود بالضرورة إلى الحد من العنف واستثمار الوقت بما هو مفيد.

لقد وافق النظام السوري على المبادرة منذ البداية لإدراكه ان هذا الخطأ البنيوي سيقتلها وسيمنحه مزيدا من الوقت على الأرض لتنفيذ مخططاته الطائفية اللازمة للانتقال إلى مرحلة أخذ الرهينة..

لكن ما فاجأه حقا هو أن ورقته الأخيرة جوبهت بوعي عالِ من مختلف أطياف الشعب السوري وبالرغم من أن مشهد المذابح رفع مستوى النقمة والحقد في قلوب السوريين الثائرين إلا أنه لم يَقُد بعد إلى الطامة الكبرى ..غير أن التأخر في إيجاد المخرج سيقود إليها دون شك.

‘ كاتب وإعلامي من سوريا

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى