صفحات العالم

كم أخشى على النظام السوري من الحقد والحسد

 


د. يحيى مصطفى كامل

أراقب عن كثبٍِ وباهتمامٍ فائضٍ أحداث سورية، لذا تجدني مهموماً، حزيناً تعتصرني الشجون ويجفو النوم عينيَّ لما يتعرض له النظام السوري من هجماتٍ..

أي إجحافٍ هذا؟

كنت أعتقد أن نظاماً مبهرا كهذا ينبغي علينا أن ننادي بنشر تجربته في جميع ربوع العالم الفسيح مطالبين بتعميمها. إن أبسط تمحيصٍ واستعراضٍ لطبيعة هذا النظام ومفرداته يؤكد لنا أنه لم يستمر من فراغ، وإنما لقدرته الفائقة في التعامل مع التناقضات وتخطيها.. لنتأمل قليلاً.. لم يبدع هذا النظام في أي منحىً قدر إبداعه في مجال إعادة تشكيل الخريطة السياسية والاجتماعية السورية، ترشده وتهديه في تلك الطريق الوعرة معرفة عميقة وثاقبة بهذا الشعب وبتلافيف السياسة الإقليمية والعالمية وثقافة واطلاع واسعان… لقد بدأ كأي محنكٍ بتحديد أعدائه بدقة، وهم للحقيقة قلة…الشيوعيون والقوميون والقوميون السوريون والناصريون والمنشقون على البعث وبعثيو العراق ومؤسسو البعث (لردتهم وميولهم الانفصالية والوحدوية والرجعية واليسارية المريضة) والرجعيون والانهزاميون والإقليميون والمتدينون والمتأسلمون والإخوان المسلمون والمسلمون بصفةٍ عامة والطائفيون والمتبرئون من طوائفهم المحتقرون لها والملحدون والشعوبيون ومعادو العروبة وغلاتها أيضاً وساكنو المدن الواقفون في طريق التطور، والآن الريفيون والجبليون (الذين لم يراعوا جميل النظام الذي قام عليهم وجعلهم سادة بعد أن كانوا ينظر إلى كثيرٍ منهم من علٍ) والأتراك والفلسطينيون بغالبية فصائلهم على حسب المرحلة إلا من رحم ربي، وقبل كل هؤلاء، العدو الأكبر والأعظم كيداً والأكثر عناداًَ وإصراراً على التحدي، الشعب السوري! ذلك المتآمر المندس على النظام الذي لا يعجبه العجب ولا يقدر النعمة الإلهية التي يعيش في ظلها وفي كنفها.. لقد أدرك النظام بعد مرير التجربة أن هذا الشعب السوري يقف عثرةً وعائقاً في طريق تقدم الشعب ويحول دون وصوله إلى آفاق العزة والمجد التي يصبو إليها النظام، ولذا فلا محيص عن حمله على طريق التحرر والتطور الخ حملاً وضرباً بالعنف الثوري التقدمي الوحدوي العروبي. في سبيل ذلك، وفي وجه كل أولئك الأعداء لم يكن امام النظام الشهيد المصلوب أبداً من مفرٍ سوى أن يجتبي فئةً من الناس يدينون له بالولاء ويرتفعون فوق هذا الشعب المندس، فقام بأكبر عملية إحلالٍ لطائفةٍ بعينها متحالفةً مع بقية الأقليات الدينية في أجهزة الدولة والحزب الحاكم، وفي كل المفاصل المهمة في القوات المسلحة ‘العقائدية’، بل واضُطر هذا النظام المسكين إلى إنشاء ستة عشرأو سبعة عشر جهازاً أمنياً يحمي ثورة الشعب ومكتسباته من الشعب.. وحرصاً منه على سلامة عقيدة مواطنيه الثورية العروبية مما قد يتسرب إليها من نوازع التمرد والانفلات فقد خص كل مواطنٍ تقريباً بدركيٍ أو عنصر أمنٍ يقيه شر نفسه. ولئن كان الله في سمائه قد منح الناس الحرية للاختيار بين الفضيلة والخطيئة فليس كذلك النظام السوري الذي يحدب على مواطنيه الأعداء عاصماً لهم من التجديف والتهريف بمعارضة النظام… وقد نتج عن كل ذلك ثورة في العلاقات الاجتماعية، أي والله ثورة لا أقل.. إذ لكل ما سبق بات الناس يحسبون كل كلمة يقولونها ويزنونها جيداً مدركين الفارق بين حرية النظام والوطن، وحرية التعبير المقيتة التي تبث الفرقة والتذبذب واعين أن الأولى فرض تجب الثانية كونها نافلة النوافل؛ ليس ذلك وحسب وإنما بات كلٌ ينظر بعين الريبة إلى جاره عله يكون ذلك المخبر القديس فاعل الخير الذي يفني عمره حفاظاً عليه وحمايةً له من السقوط في براثن خطيئة الرأي الحر والتفكير المستقل.. وكما كانت للنظام تجربة رائدة في إعادة رسم وهندسة البنية الطبقية للمجتمع فقد أبدع حين أنتج الشبيحة معيداً بذلك تدوير وتوظيف حثالة المدن ممن يطلق عليهم البروليتاريا الرثة في الأدبيات الاشتراكية (طبعاً نقصد هنا الأدبيات الجاهلة والأحط ثقافياً لماركس ولينين ومن نحا نحوهم من الجهلة التافهين) ووظفهم في خدمة النظام أعضاء فاعلين مكافحين معاضدين لإخوانهم من عناصرالأمن والمخابرات في تقويم وتهذيب الشعب- العدو بالتي هي أوجع.. ولعل شعاراً كـ’حركة التصحيح تنتج الشبيح’ لا بد أن يضاف إلى معلقات ومذهبات الحزب.. حتى إذا تطورت الأمور وبلغ التمرد والرجعية مداهما، كما يحدث الآن، وكما حدث في حماة من قبل عام 1982 تحتم على النظام تقويم الناس بالسلاح قاتلاً عشرات الآلاف، تماماً كالأم الرؤوم التي تقسو ليزدجر الأبناء… وهو تماماً نفس الأسلوب الاسرائيلي الذي يعتمد العنف والعنف فالمزيد من العنف، فيما يعتبر أبلغ ردٍ على أولئك المندسين المرجفين الذين يزعمون أن النظام لا يتعلم من تجارب الآخرين، مع فارقٍ بسيطٍ وتافهٍ طبعاً أن إسرائيل تستعمله لمصلحة الفلسطينيين والنظام السوري لمصلحة شعبه!

ولما حاك البعث دستوراً مانحاً الصدارة والكلمة الأولى والأخيرة لنفسه، فإنه نزولاً على قواعد الكرم العربي منح أعداءه التقليديين من الحزب الشيوعي وأمثاله مقاعد في تلك الجبهة التقدمية الفكاهية خفيفة الظل، هذا مع احتفاظه طبعاً بالأغلبية.. بل وفاق ذلك كرماً مع كل من انشق عن هذه الأحزاب شاجباً هذا التحالف وهذه الجبهة، حين أغدق عليهم عقوداً طويلة في هدوء السجون الظليل ليتدبروا أخطاءهم.

وهناك أيضاً مجلس نيابي، أي والله، حفاظاً على الشكل.. يختاره طبعاً النظام الأعلم بمصلحة الناس وبما يناسبهم وبما يعلم أنهم يريدون قوله ويطالبون به؛ ويراعي في اختيار أعضائه العصبيات والطوائف والبيوتات الكبيرة أحياناً.. ويجتمع الناس في هذا المجلس ويرتدون أزياء مختلفة وهو للحق مسل أحياناً موافقٌ على اقتراحات الحكومة دائماً.

غير أن النظام لم يضن على شعبه بالمزيد، فهو يضيف إلى كل ذلك مسحةً جمالية إذ يوزع ببذخ صور وتماثيل الرئيس المفدى وأبيه في كل مكان، بين كل صورةٍ وصورةٍ تمثال مما يذكر المواطنين لا بالمراقبة، وإنما بالنعيم ويضفي على الجو خفةً وصفاءً.

أما في المجال الاقتصادي فحدث بإسهابٍ عن تجليات العبقرية.. إذ بعد تمحيصٍ مضنٍ وتدبر لعصارة النظريات والفكر الاشتراكي توصل إلى منهاجه الخاص الذي يعكس تركيبته البديعة والفريدة: الاشتراكية العائلية العشائرية الطائفية… ولا غرو أنها تعد، وبحق، فتحاً وطريقاً جديدة طازجة في الاشتراكية، فهي اشتراكية مترسملة (أو رأسمالية مشتركة) يوصفها البعض بأنها تتبع آليات السوق المغلق المفتوح أو المنفتح بإغلاق.. يعني بالبلدي ‘سوق ذو بابٍ مواربٍ مستحي’، وهو مغلقٌ في وجه الشعب المندس منفتحٌ في جيوب الأسرة الحاكمة وعشيرتها وطائفتها الأقربين. مضى عهد كان النظام يعتمد فيه على بعض النخب المدينية التجارية لتدوير عجلة الاقتصاد بما لذلك من فائدةٍ ايضاً في صنع حلقةٍ من المنتفعين تكسبه بعضاً من الشعبية والدعم، إلا أنه أيقن أنه فوق ذلك وأنه في غنى عن الدعم.. الأهم، لقد أدركت الأسرة الحاكمة أنها حين تسيطر على الاقتصاد فهي تحقق التحاماً ثورياً تقدمياً عروبياً بين الثروة القومية والثورة ممثلةً في الأسرة الذهبية، وخشية من النظام على الشعب الجاحد من الفساد فهي تبقيه على حافة الإفلاس دائماً بحيث يحصل الموظفون على مجرد ما يكفي في أحسن الأحوال، مع غض البصر المُشجِع على التحايل على المعايش مع تفضيل وتحبيذ للتهريب أسوةً بما يفعله النظام في لبنان؛ هذا طبعاً مع تذكر ‘الاشتراكية’ مع الأسرة الحاكمة صاحبة الفضل. كما أن النظام أطلق حرية الحراك الاقتصادي بل وشجعها بخلقه ظروفاً تدفع المواطنين إلى السفر، سواءً إلى الخليج أو إلى أية دهياءٍ تأخذهم، ولا ضير في أن يجمعوا المال طالما استمرت حوالاتهم المالية إلى الوطن الأم بما يوفر النقد الأجنبي لشراء الأسلحة لأجهزة الأمن والجيش العقائدي الساهر على أمن الوطن في درعا وجسر الشغور.

بذكر هذا نصل إلى الصرح الأعظم في منجزات النظام، وهو الجانب العسكري!

لقد أدرك النظام كنصيرٍ أولٍ بل وأوحدٍ، أن تحرير فلسطين والأراضي المحتلة يمر عبر درعا والرستن وجسر الشغور (أضف عزيزي بين القوسين ما شئت) وأن الأعداء الداخليين، أي الشعب السوري، أخطر من الإسرائيليين، فهؤلاء معروفون حيث أنهم قبيحو الخلقة ولا يتكلمون العربية.

 

من منا لا يذكر ردود النظام السوري الساحقة المدمرة لكل تعدٍ إسرائيليٍ حين كان المتحدث الرسمي يؤكد على ‘احتفاظ سورية الكامل بحق الرد’.. لقد كان ذلك يحطم الآلة العسكرية الإسرائيلية، بل والمشروع الصهيوني من أساسه.

إن النظام حين يقتل ويقمع الثورة بهذه الوحشية منكلاً معذباً مشوهاً لجثامين الأطفال الطاهرة، فإن هدفه الأول في ذلك هو تحرير الأراضي المحتلة، إذ يتدرب على شعبه بكل ما لديه من ذخيرةٍ حية وعتاد قبل المعركة الحقيقية الحاسمة، ومن ثم يبعث برسالةٍ قاسية إلى إسرائيل:’هاكم ما نستطيع القيام به، فاعتبروا وارحلوا من تلقاء أنفسكم!’ ولا شك في أن إسرائيل ترتعد، فالنظام الذي يفعل ذلك في شعبه قادرٌ على تمزيقهم.

معذرةً إذ توقفت قليلاً لكفكفة دموعٍ غالبتني، ليس ألماً وغيظاً وحنقاً على نظام كهذا معاذ الله، وإنما على العشرين مليون سوري المندسين الجاحدين لأيادي النظام البيضاء عليهم المطالبين بالكرامة والحرية. محسودٌ والله ذلك النظام ورئيسه ذو الضحكة الأخاذة التي تنم عن ذكاءٍ خارق وتقدير مبهرٍ للظرف. كتب المفكر اليساري الإيطالي الشهيد أنتونيو غرامشي كثيراً عن المثقف العضوي المرتبط بطبقته.. أنا أزعم أن النظام في سورية تخطى ذلك بالأسرة والطائفة المرتبطة بل الملتحمة بالحزب والدولة والجيش ‘العقائدي’ التي حلت التناقضات الطبقية والطائفية.

للأسف، لم يفهم الناس في سورية هذا المنطق، وهم قلة مندسة تصل إلى عشرين مليوناً في أقل التقديرات.. فلم يكن أمام النظام المؤمن بقضيته من مفر سوى أن يقضي عليهم ويسعى إلى استبدالهم، عزائي الوحيد هو يقيني بأن ذلك الكابوس البشع من الرعب والقتل إلى زوال.

‘ كاتب مصري

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى