صفحات المستقبلعدي الزعبي

كم أنت وحدك!/ عدي الزعبي

 

لا بحر لهم. يخرجون بسلاحهم كأنه المدينة نفسها، كأنه العائلة والذكريات. كل أرض الله منفى. لا نستطيع التمييز بين من بقي في حمص ومن خرج منها.

مطر في دمشق. كأن الله يُطمئن من لن يطمئن بعد الآن. تحرير مخطوفين في ريف اللاذقية. رائحة الأرض تصل طازجةً. نستحضر بيروت وفلسطينييها. ‘كم أنت وحدك’. لا نستطيع التمييز بين من دُفن في حمص ومن بقي فيها. الساروت ظلنا العالي. صور القتلى تغطي اللاذقية. لا نستطيع التمييز بين من قُتل في حمص مدافعاً ومن قُتل غازياً. لكل قتيل شفيع لا مرئي. لا يبدو أن لحائط الشهداء في طرطوس من نهاية. يتردد صوت طارق الأسود مسموعاً في أنحائها، ‘إن جيتك يما مستشهد زغردي’. سيستشهد بعض الخارجين في أرض غريبة. ليس الخروج إلى بحر. في أرض غريبة سيدفنون دون زغاريد. بين قاف العلويين والضمة الحمصية، تزغرد النساء في شطري حمص. لا نستطيع التمييز بين دمع سفكناه على شهداء الاعتصام الأشهر ودمع سفكوه على شبابهم الذين قتلناهم دفاعاً عما كان يوماً مدينتنا. في كل مقهى ركن لقتيل يفضّله. لكل قتيل أم ترتبك بملابس ابنها التي تنتظره معلقة في خزانة لا يفتحها إلا الأم يومياً قبل النوم. لكل قتيل أغنية مفضلة وابتسامة كبصمة الروح. تختلط الذكريات والدمع والقتلى. سيأتي زمن لا نعرف فيه أي جثة نقف فوقها. لكل قتيل أب يتماسك أمام المعزين ببلاهة لا تخدع أحداً. في كل زاوية ذكرى ستزول غداً. يستبدل المنتصر كل الذكريات بصورة واحدة. على جثث آلاف الشباب العلويين سترتفع صورة واحدة في حمص. لا سماء ستظل الخارجين بعد اليوم. خلفهم روم وعلى جانبيهم الفرس. لا بحر ولا سفن ولا تحية عسكرية للخارجين. يحملون المدينة في ترحالهم ومفاتيح كأنها فلسطينية. رحمانينوف يعزف البيانو وحيداً. تتشابه المنافي. لا احتفالات نصر ولا رسائل تعاضد. لا شيء سيظل الخارجين بعد اليوم. لا سماء في المنافي. مطر في دمشق. صورة واحدة ستغطي شطري حمص. سيأتي زمن لا نعرف فيه مدينتنا. على جثث آلاف الشباب السنة سترتفع صورة واحدة. مطر في دمشق. لا بحر أمامهم، لا بحر خلفهم. للخارجين كل أرض منفى. والمنفى ليس إلا بداية.’صورة واحدة. آلاف القتلى.’مطر في دمشق. هزيمة لا مراء فيها. لا سفن لنا يا الله. لا موانئ تستقبلنا بالتحيات والقبل. يخرجون بسلاحهم كأنه المدينة ذاتها، كأنه العائلة والذكريات. يودّعون الأرض ساجدين. والمنفى بدايةٌ. لا زغاريد في المنفى. صورة واحدة ستغطي على المأساة بأكملها.

هزيمةٌ لا مراء فيها. ولكننا سنحتفل بالخارجين كما احتفل الفلسطينيون بأبطالهم الخارجين إلى البحر. لا نشكك بالخارجين. نعرف أنهم بذلوا كل ما بوسعهم للبقاء. توجه ياسر عرفات إلى فلسطين في النهاية، شبه مكسور، كبطل تراجيدي. لا يحمي الظل العالي أحدنا من الانكسار. ولكن يحمينا الأمل. بيروت تحررت من الاحتلال. لا نعرف ما الذي سيحل بحمص. لا بحر ولا سفن ولا انتصارات للخارجين. ولكننا نعرف أنهم بذلوا كل ما بوسعهم. نعرف أيضاً أن الأمل سيحمينا من الانكسار. ونعرف أن الخارجين لم ينكسروا. لا ينكسر من معه مثل هؤلاء. لا يفقد الأمل من بحره فيه. كل أرض الله موانئ للخارجين. ولنا الأمل والعزيمة فيما سيأتي.

*كاتب من سوريا يقيم في بريطانيا

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى