صفحات العالم

المسموح والممنوع في الثورة السورية


نصري الصايغ

وضعت الثورة العربية الديموقراطية المثقف العربي أمام امتحان صعب، الجواب فيه، إما ان يكون: نعم، أو لا… هل أنت مع الثورة أم مع الاستبداد؟ لا وسط بين أن تكون مع الثورة أو ضدها.

ومنذ البدء، انقسم الجسم العربي بين ضفتين: ضفة الزاحفين من أجل الحرية والكرامة والرغيف، وضفة السلطة القابضة على الإنسان وعلى الحرمان كذلك. غير ان بدايات الثورة في تونس ومصر كانت أسهل، لأن الثورة في كلا البلدين، أنجزت بسلمية واضحة، إزاحة نظام الاستبداد، بدءاً من رأسه، لتستكمل في ما بعد، إقامة نظام الحرية والديموقراطية، من مكونات الشعب، بتلويناته كافة، وبأسلوب الانتخاب.

في ليبيا، تبدلت الصورة. باتت أكثر تعقيداً. السلطة لجأت إلى العنف الأقصى، فتعسكرت الثورة… وبدأ فصل جديد مأساوي، بات فيه الخيار بين ان تقتل الثورة وتباد عبر بطش النظام عسكرياً وأمنياً، أو تنتصر الثورة، عبر استدعاء القوى الخارجية. وللقوى الخارجية حسابات، لا تمت بصلة قربى حقيقية مع شعارات الثورة وغاياتها. أكثرية الدول المرشحة للتدخل من الخارج ليست لديها امثولات في تلقين الحرية والكرامة والعدالة، لأنها كانت داعمة لاعتى الأنظمة الدكتاتورية المتخلفة والقمعية والمتاجرة بالوطن والنفط وحقوق الإنسان، كتجارتها بالرقيق الأبيض.

لا جامعة الدول العربية آنذاك، كانت مدرسة في الحرية، ولا الغرب كان أستاذاً في تعليم الديموقراطية. ولا الاثنان كانا مؤهلين لقراءة الملف الفلسطيني، بمندرجاته الدولية، لا غير.

في تلك اللحظة، لم يعد الخيار بين ضفتين: مع الثورة أو مع الاستبداد. صار واجباً القول: أنا مع الثورة ولكن. أنا مع الحرية ولكن ليس بواسطة الناتو. أنا مع الديموقراطية ولكن ليس بدعم منظومة الخليج المتخلفة والقمعية من زمن بعيد، انما بطريقة ذكية وبصمت لا يشي مطلقاً بفضيحة، وبتغطية إعلانية دولية، في أكثر الوسائل الإعلامية ليبرالية.

لم يكن مسموحاً لدى أهل الفسطاطين ان نفكر بطريقة نقدية، ان نقول ولكن، ان ننصف الثورة وننقدها أيضاً، لأنها ربما تسرّعت، أو تعسكرت قبل الأوان، أو، لم تدرك مخاطر استدعاء الدببة الدوليين إلى كرمة النفط الليبي… لم تكن امرا مسموحاً الإشارة إلى البيئة القبلية والجهوية في المجتمع الليبي، المسكون بهذه الجماعات، والمؤسس للاجتماع الليبي من تحت، والموظف من السلطة الليبية من فوق.

طولب المثقف الملتزم بأن يبصم على نعم، لئلا يتهم بأنه ضد الثورة.

ولما اقتربت الثورة من اليمن، فالبحرين، فسوريا، باتت المسألة أكثر صعوبة. تداخلت عناصر كثيرة على السؤال المبدئي: هل أنت مع الثورة أم ضدها. وبالمناسبة، الاجابة عن السؤال بنعم تعفيك من الاتهام، والجواب بنعم ولكن، يقذف بك إلى الضفة المعادية. المثقف ليس رجل سياسة. التزامه «بمعايير الحق الخاصة بالبؤس الإنساني والاضطهاد»، يلزمه بممارسة النقد والاعتراض، إلى جانب ابداء التأييد والدعم. المثقف، سياسي بطريقة مختلفة. انتظامه، لا يكون بالصف، بل بالمعايشة والمراقبة والتحليل والتصويب والاعتراض… لا يحق له ان يكون مع الاستبداد، لأنه يفقد مرتكزه الأخلاقي، لكن، يحق له، بل من واجبه، ان يبقى متيقظاً لمواقع قدميه ومواطئ أفكاره ومطارح آماله.

نصل إلى سوريا، وهنا مفصل في التاريخ، لا يشبه ما سبقه أو ما يزامنه. الثورة فيها حاجة ملحة، بعدما أقفل النظام أبواب الحرية والديموقراطية، وشرّع، على مدى عقود، التسلط، وأفرغ الدولة من قواها الحية. فاكتظت بها المعتقلات أو المنافي، أو اختارت الصمت والمداهنة، أو تخفّت في عبارة الدين… بانتظار لحظة الاندلاع، وقد جاءتها من مدينة درعا.

الثورة تستمد شرعيتها من الاستبداد، كما تستمد المقاومة شرعيتها من الاحتلال. واحدة ضد الداخل وأخرى ضد الخارج.

أفتح قوسين في هذا السياق، لأُظهر مدى القسوة التي يتعامل فيها أهل الثورة مع من لا يوافقهم على ما هم فيه وما هم ذاهبون إليه، وأهل السلطة مع من لا يرى فيهم فضيلة الممانعة والمقاومة. يطالبك الطرفان بالقول الإنجيلي: «ليكن كلامكم نعم نعم أو لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير». أي المطلوب من المثقف النقدي الملتزم، ان يكون مع النظام لأنه ممانع، وبالتالي مع قمعه للثورة (على مدى احد عشر شهراً)، أو ان يكون مع الثورة ولو انها تعسكرت (بالطبع بسبب اختيار النظام الحل العسكري والحرب)، وان يكون مع الثورة ولو باتت تتوسّل التدخل الخارجي لمساعدتها على الإطاحة بالنظام.

في هذا التبسيط، تحذف مسائل ذات طابع استراتيجي وقومي وفلسطيني من جهة، وتلغى مبادئ ذات طابع حقوقي ووطني وإنساني من جهة ثانية.

لقد جرت محاولات كثيرة، على المستوى الكتابي، على الأقل، لإبداء الرأي أو لإظهار المخاطر الكبيرة التي تقود إليها المواجهات الدامية اليومية، المؤلمة، المأساوية، الطائفية، والـ… وقلنا: «احسبوها» قبل ان يفوت الأوان. إلا ان ردود القراء ومن يمتون بصلة إلى طرفي الصراع، كانت ترفض المساس بمسلماتهم: الثورة ترفع قميص الدم وتتهمك بخيانة الشهداء، والنظام يرفع عقيرة المقاومة ويتهمك بأنك أصبحت في معسكر أميركا. ولا أبالغ إذا سردت ان ما جاءني عبر البريد الالكتروني، يندى له الجبين. وهي اتهامات من الطرفين. أهل الثورة يرفعون الاتهام التالي: «أنت من فلول النظام». أهل النظام يقولون: «وداعاً لقوميتك، سنمنحك هوية صهيو ـ خليجية»، أو «أنت من جماعة محلة أكواب الشاي في ثكنة مرجعيون»… وقد حار البعض في كيفية تفسير ان يكون المرء مع المقاومة في لبنان ومع الثورة في سوريا، فاتهمني بالجنبلاطية الانقلابية.

المسألة ليست شخصية البتة. من حق القارئ ان يقول ما يشاء عن النص الذي يقرأه. من حقه ان يمزقه أو يبرزه. انما ليس من حقه ان يتهم الكاتب في أخلاقه… من حقه ان يناقش ويقول هذا خطأ. أو أنت على ضلال أو أنت على صواب، لكن ليس من حقه ان ينعتك بأنك تقبض أموالاً من قطر، إذا كنت مع الثورة، أو انك فارسي إذا كنت مع المقاومة… هذا ابتذال، غير جائز في زمن التحولات الكبرى، أو في زمن صناعة غد عربي، يعتمد أول ما يعتمد، على احترام الحرية والتقيّد بالعقلانية، وتقييد الغرائزية والانفتاح على الرأي الآخر. لا يجوز ان تتعامل الثورة مع من يختلف معها في تفصيل هام جداً، لها وللأمة، على انه عدو للثورة. لا يجوز ان تتصرف الثورة، بأسلوب أهل النظام. فمن معها يجب ان يكون أعمى أصم أبكم، مردداً للشعارات ومجوداً لها.

صلب الموضوع في سوريا هو التالي، وقد كتبت فيه مراراً: في سوريا اليوم صراع داخلي عنيف ودموي. وعلى سوريا اليوم، صراع خارجي دولي. الصراع الذي يهدف إلى إلغاء النظام لتأسيس نظام الحرية والعدالة والكرامة والمساواة والحقوق، نحن معه حرفياً حتى النفس الأخير. الصراع على سوريا الذي استجمع قوى معادية للأمة والأوطان والإنسان لسنا معه. ان تكون مع الثورة في الداخل، هو ان تتبنى شعاراتها، وان تتابع خطواتها ومساراتها، وتحذر من منزلقات وتنبه من مخاطر. فإذا حذرت من العسكرة، وهي تفيد النظام أكثر من إفادتها للثوار، فهو ليس خيانة. وإذا نبهت إلى موضوع فلسطين وأشرت إلى حماية المقاومة، فهذا ليس انتظاماً في معسكر النظام.

تستطيع ان تكون مع الثورة حتى انتصار مبادئها، ومع المقاومة حتى تقف في وجه العدو الإسرائيلي.

أما أهل النظام، ومن معه، أفراداً وجماعات وأحزاباً، فقصة اخرى. لم تختلف لغتهم التي كانت سائدة قبل الثورة عما بعدها. من ليس معهم، فهو عميل… إذاً، شكراً، هنا العمالة، بهذا الاتهام، شهادة حسن سلوك. انتهى التعليق على جماعة النظام، ولا يضيفون شيئاً على ما تعلموه من لغة الجلاوزة.

إذاً: الصراع على سوريا خطير وعدواني. الحلفاء العرب والدوليون، ليسوا مع مبادئ الثورة السورية وشعاراتها، انهم مع حرف الدولة السورية عن مسارها الطبيعي ومن دورها الذي التزمت به، منذ نشوء الكيان الصهيوني في فلسطين… الصراع على سوريا يهدف إلى وضعها في ضفة «الاعتدال» العربي. وهو «اعتدال» اتسمت سياسته باستبدال العدو الإسرائيلي بالصديق الإيراني.

هذا الحلف الخليجي ـ العربي ـ التركي ـ الغربي، لا يهدف إلا إلى ذلك. ولو كان حلفاً لتعميم الديموقراطية والحرية والعدالة، لكان وقف إلى جانب ثورة البحرين وثورة اليمن.

إذا كانت الثورة السورية، لا تريد ان ترى في النظام، إلا ظلمه واستبداده، ولا ترغب في رؤية المخاطر التي يشنها «التحالف الدولي ـ الخليجي»، على دور سوريا فهذا شأنها. انما لا تستطيع ان تفرض على من معها، وان كان ليس فيها، وجهة نظرها. فكما ان من حقها ان تقف ضد هذا النظام، فمن حق اصحاب خيار المقاومة، ان يقاتلوا مخططات التحالف الخارجي، الهادفة إلى حصار المقاومة، وإراحة الكيان الصهيوني.

ولقد ثبت، بعد أحد عشر شهراً، ان الثورة الباسلة (مثل هذه الصفة تستسفز أهل النظام)، غير قادرة على الحسم. وان النظام غير قادر على كسب المعركة، وان الحضور الخارجي بات اشد وطأة من قبل. فحلفاء النظام، كل لأسبابه ومصالحه وقضاياه، يقفون إلى جانبه، ويضعون فيتو على إسقاطه، ويحثون على التحاور معه أو من يمثله. وحلفاء المعارضة والثورة، في المدى العربي والإقليمي والدولي، قاموا بما هو متاح لهم، ولم يصل الطرفان، لا في الداخل، ولا الأطراف في الخارج، إلى حل. فهل من الخيانة الطلب إلى الثورة ان تراجع استراتيجيتها، من دون ان تتهم من يطالبها بأنه باع دماء الشهداء؟

ان حروب لبنان بدأت، في جزء منها، لإصلاح النظام اللبناني. لم يستطع أي طرف حسم الصراع. استدعت القوى المنهارة آنذاك، سوريا، لنجدتها. ومنذ تلك اللحظة، عام 1976 حتى 1990، لم تستنكف قوة عربية أو دولية أو عدوة من الإقامة في لبنان، على دماء اللبنانيين والفلسطينيين. تجربة لبنان فريدة وذات فائدة. أخيراً، جلس من بقي من القادة المتقاتلين على قيد الحياة، ورتبوا اتفاق الخروج من الحرب والعنف.

أحد عشر شهراً باتت كافية.

الثورة بحاجة إلى الدماء كي تستمر وإلى الذكاء كي تنتصر.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى