صفحات الرأيمنير الخطيب

كون «داعشي» يغمر كون العقل والضمير/ منير الخطيب

 

 

إلى جانب المصادر الداخليّة في الثقافة والدين والفقه لـ «داعش»، هناك حالة الانتكاس إلى البدائية والتوحش التي تمثلها الداعشية، واندراجها في سياق كوني من سماته النوعية التناقض بين ميوله الجارفة نحو الكوزموبوليتية وميوله، في الوقت ذاته، نحو التفجّر والتشظي الهويّاتي ونمو الحركات ذات الطابع العنصري. وهذا ما يدفع إلى الاستنتاج بأنها، في أحد أبعادها، عنوان لـ «كونية» مقلوبة على رأسها، قوامها تقدم «إنسان التخريب والسلب والقتل»، مقابل تراجعه كمفهوم كلي وحاكم على جميع انتماءاته الأخرى، التي تجهد إلى اختزاله في مضمون ديني أو طائفي أو إثني، وتقتل فيه ميله إلى الاجتماع والعمران والحرية.

تمثل الداعشية، في عالمنا المعاصر الموحّد وحدة تناقضية، رمزاً لحزمة واسعة من التنظيمات والتيارات والسياسات و «الدول» والبيئات والظواهر الاجتماعية والنزعات الأيديولوجية، المتناقضة شكلاً والمتماثلة مضموناً، وتشكل، بتعالقها الموضوعي، والذاتي أحياناً، سياقاً «كونياً داعشياً» معادياً للأسس والمبادئ التي قامت عليها الحداثة. وهو سياق تتشارك فيه تنظيمات متطرفة دينياً مع أحزاب وأنظمة «علمانية» و «يسارية»، في المنهج ذاته، فتعتمد القتل والترهيب والتهجير وامتهان كرامة الإنسان وحريته وسائل لفرض أهدافها «السياسية» ومعتقداتها الأيديولوجية.

في «كون داعشي» لا يني يتمدد ويتعمق، فإن تراجع دور أميركا الكوني، وانثناءها على داخلها وعلى مصالحها القومية العارية، والنظر إلى أزمات العالم من منظور تلك المصالح واقتصار دورها على إدارة تلك الأزمات، يتصدر قائمة أسباب اضمحلال المدنية ونمو حركات التطرف في مناطق عدة من العالم. فليس مقبولاً في كون إنساني غير داعشي أن تقوم الدولة العظمى في العالم بتصفية آثار اجتياحها للعراق، مثلاً، في جانبها المتعلق بالداخل الأميركي فقط، وتترك نيران الآثار الإقليمية لذلك الاجتياح تكوي الشعبين العراقي والسوري. وليس معقولاً، أن تستخدم نكبة بحجم النكبة السورية ورقةً في دهاليز تفاوضها مع الروس والإيرانيين، وأن يرسم سفيرها السابق في دمشق سيناريو لتقسيم سورية إلى ست مناطق نفوذ، وهو الذي استقبله مليون متظاهر سلمي بالزهور، قبل أربع سنوات، في ساحة العاصي في مدينة حماة، وهم ينشدون شعارات الدولة الوطنية، ولم تفعل إدارته شيئاً لهم، سوى أنها ساعدت في تهيئة شروط انتعاش الظواهر الداعشية.

ومن العناصر الداعمة لنمو «الكون الداعشي»، صعود تيارات اليمين الأوروبي المتطرفة، بالتوازي مع اضمحلال قدرة المجتمعات الأوروبية على إدماج المهاجرين إليها، هم الذين يحملون، بدورهم، عقدهم الهويّاتية إلى داخل تلك المجتمعات. يتقوّى ذاك الارتباك المجتمعي في داخل أوروبا بانحسار دورها التنويري، الذي شهده العالم في المرحلة الكولونيالية. فلقد ضمُر البعد الكوني للثقافة الأوروبية، وتكوّرت ثقافتها ما بعد الحداثية على قضايا أوروبية محلية، وتُرك المجال الثقافي العالمي ينحدر إلى مجرد إعلام يصنع الرأي العام، ويقع تحت هيمنة «لوبيات» النفط والسلاح وشيوخ إنتاج الداعشية أيديولوجياً.

وتزداد إمكانية انبعاث شروط الداعشية مع العودة الروسية من تحت أنقاض الإمبراطورية السوفياتية، تحت القيادة البوتينية التي تجمع بين مساوئ النظامين الاشتراكي والرأسمالي، ولا تنفصل سياسات «الدولة» فيها عن سياسات المافيا، تلك السياسات التي وقفت بقوة خلف خيار غروزني، الذي اتخذه النظام السوري في التعامل مع بيئات الثورة السورية. وسيزداد فقر العالم ثقافياً مع تقدم دور الصين في صياغة السياسات الدولية، وهي الدولة التي لا تمتلك تراثاً في مجالي حقوق الإنسان والثقافة الكونية.

وفي المنطقة العربية خاصة، تتداخل هذه المتغيرات العالمية مع السياسات العنصرية والطائفية، لكل من إسرائيل وإيران، والدافعة إلى تغذية بؤر التوتر والاحتراب الأهلي اللذين يشهدهما أكثر من بلد عربي.

قبل أزيد من ثلاثة عقود، كتب الراحل الياس مرقص عن «كون طائفي ومذهبي»، يتراجع فيه الإنسان السياسي (الاجتماعي) بالمعنى الذي أعطاه أرسطو، في الغرب المتقدم والعالم، لمصلحة تقدم إنسان الاستهلاك المعزول في الجمهور والكتلة، تراجعاً يقيم قاعدة كبيرة لقهر شمولي.

نعم، لقد دخلنا حقبة القهر الشمولي مع انتقال «الكون الطائفي والمذهبي» إلى «كون داعشي».

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى