صفحات الرأي

الديمقراطية… هل ترسو في العالم العربي؟

توقعات ودروس حول العالم 1

ماذا بعد ثورات الربيع العربي؟ هل ستزدهر الديمقراطية في البلدان العربية وهل تظهر كنتيجة لها قوى متطرفة ونزاعات طائفية؟ تحاول الدراسة التالية الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها.

هذه الدراسة هي نتاج برنامج أبحاث فردية من تنفيذ مؤسسة «راند». تحصل هذه الأبحاث على دعم جزئي من جهات مانحة ومن أحكام الأبحاث والتنمية المستقلة بموجب العقود التي أبرمتها مؤسسة «راند» لإدارة مراكز الأبحاث والتنمية التابعة لها والمموّلة من وزارة الدفاع الأميركية. «الجريدة» تنشر الدراسة في أربع حلقات، هنا الأولى منها.

ملخص

شكّلت الثورات الناجحة في بداية عام 2011 ضد الحاكمَين الاستبداديين اللذين يحكمان منذ فترة طويلة في مصر وتونس إنجازاً إنسانياً لافتاً. بحلول نهاية عام 2011، نجحت تونس في الاختبار وأصبحت ديمقراطية انتخابية. على مر السنة، سيطرت جماعات متنوعة من الثوار على الوضع تدريجاً ونجحت مساعيها في نهاية المطاف في إسقاط الدكتاتور الليبي من السلطة. في بداية عام 2012، بدأت عملية تسليم السلطة في اليمن بعد انتفاضة دامت سنة كاملة، وكانت السلطات السورية تقمع معارضة ناشطة بطريقة وحشية، وبقيت سلطة الأقلية السنية في البحرين محط نزاع بسبب التحدي الذي فرضته الغالبية الشيعية. لقد أدى الربيع العربي غير المتوقع إلى إحداث تغيير سياسي لافت.

لكن بقيت التحديات الصعبة تعيق بكل وضوح مسار البلدان التي نجحت فيها الثورات. لم يتمكن المحللون من التأكيد على شيء: هل سيؤدي الربيع العربي إلى ازدهار الديمقراطية؟ هل سيؤدي تساهل الأنظمة السياسية في تلك البلدان إلى ظهور قوى متطرفة خطيرة أو إطلاق صراع إثني طائفي؟ هل ستُستبدل الأنظمة الاستبدادية القديمة بأنظمة استبدادية جديدة؟ هل ستزيد مواقف الحكام الاستبداديين الصامدين صرامةً أم أنهم سيدركون الحاجة إلى إحداث تغيير تدريجي على الأقل؟ أفضل ما يمكن توقعه على الأرجح هو أن المسار المستقبلي لهذه التغييرات غير المتوقعة سيكون غير متوقع أيضاً.

لكن يمكن رصد الظروف والقرارات التي تستطيع تحديد ما إذا كان تغيير الأنظمة في المنطقة سيؤدي إلى إرساء الديمقراطية. ستتطلب السياسات الخارجية وبرامج المساعدة التي تميل إلى تشجيع عمليات إرساء الديمقراطية وتعزيزها فهم تلك الظروف والقرارات. لتوفير أساس صلب لعملية الفهم هذه، تعالج هذه الدراسة ثلاثة أسئلة:

-1 ما هي التحديات الأساسية التي ستواجهها مصر وتونس والدول العربية الأخرى التي تشهد تغييراً سياسياً في السنوات المقبلة في مجال إرساء الديمقراطية؟

-2 كيف قامت الدول الأخرى التي خرجت من الحكم الاستبدادي حول العالم في التغلب على تحديات مماثلة أو لماذا فشلت في ذلك؟

-3 ماذا يمكن أن تفعل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي عموماً لمساعدة الدول التي تشهد عمليات انتقالية على تجاوز تلك التحديات وتعزيز الأنظمة الديمقراطية الناشئة فيها؟

لا توفر الأجوبة عن تلك الأسئلة خارطة طريق فعلية لإرساء الديمقراطية. إن العمليات التي يتم تنفيذها الآن معقدة أكثر من اللزوم كما أن ظروف الدول مختلفة جداً، ما يصعّب تحديد توجيهات واحدة تناسب جميع الحالات. لكن ثمة دروساً يمكن استخلاصها طبعاً من العمليات الانتقالية السياسية الكثيرة والمتنوعة التي حصلت في أنحاء العالم في العقود الأخيرة.

لهذا السبب، قاربنا أسئلة الدراسة بشكل أساسي عن طريق التحليل بالمقارنة. فحللنا التجارب الانتقالية في جميع مناطق العالم حيث حدثت تغييرات سياسية مهمة منذ منتصف السبعينات في ما سماه صاموئيل هانتنغتون «الموجة الثالثة» من عملية إرساء الديمقراطية وقد استخلص دروساً يمكن تطبيقها في العالم العربي. ركزنا على التحديات في تونس ومصر لأنهما كانا البلدين الوحيدين اللذين شهدا ثورات مكتملة عندما أطلقنا الدراسة. أضفنا إلى هذه الدراسة بحثاً عن المؤلفات الخاصة بعملية إرساء الديمقراطية، بما في ذلك دراسات تدقق بفاعلية المساعدات الخارجية دعماً لإرساء الديمقراطية. هدفنا العام كان الربط بين التحقيق الشامل الذي يجريه العالم الأكاديمي عن عمليات إرساء الديمقراطية ومصلحة العالم السياسي في تحديد كيفية الرد على أحداث الربيع العربي والتوصل إلى استنتاجات براغماتية عن السياسات المطبقة.

العالم العربي عشية التغيير

عشية الربيع العربي، كان العالم العربي المنطقة الوحيدة التي لم تتأثر بعد بنزعات إرساء الديمقراطية العالمية. برزت أنواع مختلفة من الأنظمة، منها الأنظمة الهجينة (في لبنان والكويت والعراق)، والأنظمة الملكية، والجمهوريات الاستبدادية، لكن لم تنشأ أي أنظمة ديمقراطية راسخة. طرح الباحثون وممارسو السياسة مجموعة متنوعة من النظريات فضلاً عن تحليلات إحصائية ومقارنات لتفسير غياب الديمقراطية، لكن لم يحصل أي إجماع حول التفسيرات الأكثر إقناعاً.

تعتبر فئة من النظريات أن العالم العربي يفتقر إلى الأسس الثقافية اللازمة لإرساء الديمقراطية مثل الشفافية في الحكومة التشاركية واحترام الحقوق الفردية. ويعتبر البعض أن الإسلام أو الأصل القبليّ للمجتمع العربي ولّد ثقافة الرضوخ للسلطة. تبحث مجموعة أخرى من النظريات عن الأمور التي تميز موقع العالم العربي. إن وجود النفط في المنطقة هو أحد التفسيرات الأبرز في هذا المجال: تتراكم عائدات النفط التي تجمعها الدولة، ما يمكّنها من ترسيخ النزعة الاستبدادية من خلال توفير نظام الرعاية وشراء ولاء الخصوم المحتملين وبناء جهاز قمعي. تركز مجموعة ثالثة من النظريات على جهود القوى الخارجية، وتحديداً الولايات المتحدة، للحفاظ على الاستقرار الإقليمي وحماية إسرائيل. أخيراً، أصبحت الأنظمة العربية تجيد تبديد الضغوط التي تدعوها إلى التغيير من خلال تعزيز المخاوف بين العلمانيين والإسلاميين عند وصول أحد الطرفين إلى السلطة مثلاً.

بغض النظر عن أفضل تفسير مطروح أو مجموعة التفسيرات الصحيحة، من الواضح أن النزعة الاستبدادية أثبتت قوتها في العالم العربي. لقد كسر الربيع العربي الوهم المتعلق بالأنظمة التي لا تُقهر. لكن يمكن توقع أن تجتمع الظروف والاستراتيجيات الاستبدادية التي أعاقت التغيير السياسي في الماضي كي تطرح تحديات في وجه تقدم عملية إرساء الديمقراطية.

إلى الربيع العربي

بعد إقدام البائع محمد بوعزيزي على إضرام النار بنفسه في تونس، انطلقت موجة من الاحتجاجات ساهمت في سقوط الرئيس زين العابدين بن علي وتحفيز الربيع العربي. صحيح أن بعض المحللين لطالما شككوا باستقرار الأنظمة العربية نظراً إلى اتكالها على أسلوب القمع، لكن كانت ثورة 14 يناير مفاجئة لأنها تطورت بسرعة ولأن تونس هي التي شهدت سقوط أول نظام. إن شبكات الرعاية وقوى الأمن الداخلي والواجهة الديمقراطية التي أمضى بن علي 23 عاماً وهو يبنيها احتاجت إلى 29 يوماً فقط كي تنهار. نظراً إلى أداء تونس الاقتصادي الإيجابي واتساع طبقتها الوسطى وانتشار القيم العلمانية فيها، بدا مستبعداً أن يشهد هذا البلد حركة احتجاجية حاشدة.

بدأت العملية الانتقالية التونسية بداية متعثرة لكن سرعان ما وجدت توازنها بعد إجراء انتخابات حرة وعادلة في أكتوبر 2011 وتشكيل جمعية تأسيسية في يناير 2012. صحيح أن البلد سيكون أمام تحديات سياسية وعملية واقتصادية حقيقية في المرحلة المقبلة، لكن حصل تحول لافت في تونس. فقد تجاوز هذا البلد الاختبار الصعب كي يصبح أول نظام ديمقراطي عربي منذ انهيار لبنان في منتصف السبعينات، باستثناء تجربة العراق المعقدة. إنه تطور تاريخي مهم لا بالنسبة إلى التونسيين فحسب بل بالنسبة إلى العالم العربي ككل أيضاً. إذا تعمّقت الديمقراطية في تونس، ستحصل دول أخرى في العالم العربي على فرصة التعلم من النموذج التونسي، وتحديداً من مقاربته الخاصة بدمج الأحزاب السياسية ذات الميول الإسلامية في الحياة العامة.

بعد أقل من شهر على هروب بن علي التونسي إلى المنفى، أُجبر الرئيس المصري حسني مبارك على التنحي بعد 30 سنة في السلطة. كانت الثورة المصرية سريعة، فقد اقتصرت على 18 يوماً من الاحتجاجات الحاشدة. سرعان ما اتضح أن الثورة كانت الجزء الأسهل نسبياً وأن العملية الانتقالية التي تمهد لترسيخ نظام سياسي جديد ستكون عملية أطول بكثير ومحفوفة بالاضطرابات.

سيحتاج قادة مصر الجدد إلى تفكيك نظام سياسي معقد كان يخلط بين الممارسات الديمقراطية والاستراتيجيات القمعية وخصائص دولة الرفاهة. لا شك أن العملية الانتقالية ستتوتر بسبب الظروف الاقتصادية السيئة، والمنظمات السياسية والمدنية غير المتطورة، باستثناء الجماعات الإسلامية، وإرث الثورة المبني على التضامن الانتهازي والسطحي. من المتوقع أن ينشأ صراع حاسم في المرحلة المقبلة حول كيفية إعادة رسم العلاقات بين السلطات المدنية والجيش. سيضع هذا الصراع الجيش للمرة الأولى في وجه القوى السياسية التي تملك شرعية ديمقراطية واجتماعية. لم يتضح بعد ما إذا كانت نتائج هذا الصراع ونتائج العملية الانتقالية عموماً سترضي الطموحات السياسية للمحتجين المصريين. قد يؤدي الشرخ بين طموحات الشعب والنتائج المحققة إلى العودة إلى سياسة النزول إلى الشارع.

يبدو أن تونس ومصر، على رغم التحديات التي تواجهانها، هما في موقع جيد لإرساء الديمقراطية أكثر من بلدان أخرى مثل ليبيا واليمن وسورية (إذا تغيّر النظام) التي تشهد انقسامات داخلية حادة وتستمر فيها أعمال العنف الوحشية التي ترتبط بحركات التغيير السياسي. قد يساهم إرساء الديمقراطية في تونس والأهم في مصر، البلد العربي الأكثر اكتظاظاً والأكثر تأثيراً على الأرجح، في تقديم نماذج محورية لبقية دول المنطقة، حتى لو تمت العملية بوتيرة بطيئة.

التجارب السابقة

بدأت الموجة الثالثة مع عمليات انتقالية ديمقراطية في جنوب أوروبا في منتصف السبعينات. وبدأ تغيير الأنظمة في أميركا اللاتينية خلال الثمانينات واستمر حتى التسعينات. ثم حصل التحول المدهش في أوروبا الوسطى والشرقية وانهار الاتحاد السوفياتي في عام 1989. اجتاحت العمليات الانتقالية الديمقراطية أنحاء إفريقيا جنوب الصحراء منذ بداية التسعينات وصولاً إلى منتصفها (مع أن بعضها لم يصمد)، وحدثت بطريقة متقطعة في أجزاء متنوعة من آسيا خلال الثمانينات وصولاً إلى بداية القرن الواحد والعشرين. درسنا نزعات إرساء الديمقراطية في كل منطقة من هذه المناطق وتعمقنا في أمثلة معينة عن العمليات الانتقالية في كل منطقة.

في جنوب أوروبا، أنتج تغيير الأنظمة شبه المعاصرة في البرتغال واليونان وإسبانيا أنظمة ديمقراطية قوية بوتيرة سريعة نسبياً، بينما كان التقدم في تركيا أبطأ. في التجارب البرتغالية واليونانية والإسبانية، وبدرجة أقل في تركيا لاحقاً، كان الدفع نحو التكامل الأوروبي عاملاً مهماً لترسيخ إرساء الديمقراطية.

كانت مسارات تلك العمليات الانتقالية متنوعة. شهدت إسبانيا عملية انتقالية أطلقها النظام وكانت مبنية على الحفاظ على درجة عالية من التوافق والإجماع. شهدت البرتغال من جهتها عملية انتقالية فوضوية، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى الانقسامات السياسية والإيديولوجية داخل الجيش. في اليونان، تفكك المجلس العسكري الضعيف بعد سبع سنوات فقط في السلطة، ما ساهم في عودة الحكم المدني سريعاً.

في تركيا، بعد الانقلاب في عام 1980، أشرف الجيش على عملية انتقالية من الحكم الاستبدادي. وبعد أن ضمن تعزيز مكانته ونفوذه في الدستور، عاد إلى ثكناته. ترسخ شكل من الديمقراطية الموجهة حيث أدى الجيش دور الحَكَم غير المنتخب، فكان يحدد قواعد اللعبة السياسية من وراء الكواليس. لكن تراجع ذلك الدور تدريجاً تزامناً مع وصول الأحزاب السياسية الإسلامية إلى السلطة. يمكن تطبيق النموذج التركي، بخطوطه العريضة، في بعض الدول العربية ولا سيما مصر.

شهدت أميركا اللاتينية أنماطاً دورية من الحكم الاستبدادي وعمليات إرساء الديمقراطية في الفترة التي تلت الاستقلال. كانت دورة إرساء الديمقراطية التي برزت خلال الثمانينات والتسعينات تعكس نزعات قوية تنتشر في أنحاء القارة وتريد نشوء حكم ديمقراطي، وسوق حرة، وتحرير التجارة. كانت تلك النزعات تعزز بعضها البعض وتقوي دور المجتمع المدني والمسؤولين المنتخَبين، وقد غيّرت الدور السياسي للجيش في بعض الدول ولا سيما في المخروط الجنوبي (المناطق الواقعة في أقصى جنوب أميركا الجنوبية). في أميركا الوسطى، أدى تغيير موازين القوى العالمية والإقليمية الذي رافق انهيار الاتحاد السوفياتي إلى إنشاء الظروف المؤاتية للتوصل إلى حل سلمي للصراعات عبر نزع أسلحة الجماعات المتمردة وإشراكها في العمليات الديمقراطية. إلى جانب هذه التغييرات، أصبحت الديمقراطية هي المعيار السائد في النظام الداخلي ضمن القارة الأميركية.

كانت هذه التطورات حتمية في الأرجنتين مثلاً حيث سقط حكم عسكري مؤسساتي بعد إضعافه غداة الهزيمة في حرب الفوكلاند. كما أنها كانت حتمية في العملية الانتقالية التطورية التي تمهد لإرساء نظام أكثر ديمقراطية في تشيلي، وقد حصلت تلك العملية ضمن الإطار الدستوري الذي حدده النظام الاستبدادي. لكن كانت العملية الانتقالية في البيرو تجربة غير مألوفة في مجال انهيار الأنظمة، ويعود ذلك في الأساس إلى تناقضاتها الداخلية. بما أن نظام ألبيرتو فوجيموري لم يرسخ جذوراً استبدادية عميقة، تطورت عملية إرساء الديمقراطية بعد سقوطه بسرعة ولم تواجه عوائق كثيرة. في كل تجربة من هذه التجارب، اتخذت العمليات الانتقالية مساراتها المتلاحقة نتيجة المعطيات السياسية المحلية. ساهمت المساعدات الخارجية في إجراء انتخابات حرة وعادلة وتفعيل جوانب أخرى من التطور الديمقراطي، ولكنها لم تؤثر كثيراً على عملية إرساء الديمقراطية.

أدت العمليات الانتقالية في أوروبا الشرقية والدول السوفياتية السابقة إلى نتائج متفرقة. في معظم الدول السوفياتية السابقة، ولا سيما في دول آسيا الوسطى، ألقت المشاكل المرتبطة بإرث الحكم السوفياتي بثقلها ضد إرساء الديمقراطية. في ما يخص الدول في أوروبا الشرقية، كان احتمال الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي عاملاً حاسماً لضمان سرعة العمليات الانتقالية وشموليتها ونجاحها.

أدى التراجع الاقتصادي الحاد الذي شهدته الدول الشيوعية في أوروبا الشرقية في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات إلى تهيئة الجو لتغيير الأنظمة من خلال زيادة الاستياء الشعبي وإضعاف شرعية الأنظمة الهشة. في حقبة ما بعد الشيوعية، واجهت الدول في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق صعوبة في إنشاء اقتصاد السوق تزامناً مع تغيير أنظمتها السياسية. تختلف الطبيعة المزدوجة التي تطبع هذه العمليات الانتقالية عن تلك التي حصلت في أماكن أخرى أو تلك المرتقبة في العالم العربي.

أهم ما يفسر الاختلافات بين العمليات الانتقالية في أوروبا الشرقية هو درجة اختراق المجتمع من جانب الأنظمة السابقة. شهدت الأنظمة التي أحكمت سيطرتها على البلد واستعملت أقسى الوسائل لقمع المعارضين، مثل رومانيا وبلغاريا، أصعب أشكال العمليات الانتقالية. سُمح لعدد قليل من الجماعات المستقلة (إذا وُجدت) بالنشوء والتطور كي تساعد في تسهيل العمليات الانتقالية. لذا كانت العمليات الانتقالية في رومانيا وبلغاريا فوضوية وأبطأ من تلك التي حصلت في دول مثل هنغاريا وبولندا حيث بدأ المجتمع المدني يتطور قبل تنفيذ العملية الانتقالية.

كان ضعف المجتمع المدني أيضاً عاملاً مهماً يعيق إرساء الديمقراطية في آسيا الوسطى وفي أجزاء من الدول السوفياتية السابقة في أوروبا. كان غياب الهويات الوطنية القوية ونشوء الصراعات الإثنية العنيفة وتزايد ضغوط الانفصاليين عوامل حاسمة في هذا المجال أيضاً. في روسيا، أدى قرار الرئيس بوريس يلتسن بإعطاء الأولوية إلى إعادة الهيكلة الاقتصادية على حساب إعادة تنظيم الدولة الديمقراطية إلى إضعاف الدولة وإضعاف الديمقراطية وإضعاف الاقتصاد في نهاية المطاف. مهّدت هذه الإخفاقات لوصول خلف يلتسن، فلاديمير بوتين، إلى الحكم كي يعيد فرض سلطة الدولة المركزية على المجتمع وينشئ ديمقراطية مزيفة.

نظريات عن إرساء الديمقراطية وبنية الدراسة

صحيح أن الديمقراطية المكتملة ليست حالة نادرة ولكنها لم تكن شكل الحكم الطاغي في العالم قبل الموجة الثالثة. عام 1973، صنّفت منظمة «فريدوم هاوس» 29% فقط من أصل 151 بلداً في خانة الدول «الحرة»، و28% منها في خانة الدول «الحرة جزئياً»، و43% منها في خانة الدول «غير الحرة». في نهاية عام 2011، انقلبت نسب الدول الحرة والدول غير الحرة: 45% من 195 بلداً هي بلدان حرة، و31% منها هي بلدان حرة جزئياً، و24% منها ليست حرة.

بفضل التقدم الجذري في مجال الديمقراطية خلال الأربعين سنة الماضية، زاد اهتمام الباحثين بمفهوم إرساء الديمقراطية. أنتج الباحثون أعمالاً كثيرة تستكشف مختلف أبعاد الديمقراطية وطريقة إرسائها باعتبارها عملية تدخل في إطار تغيير النظام السياسي. فكشفوا عن التنوع الهائل في تجارب إرساء الديمقارطية. لكن بسبب ذلك التنوع، وجدوا صعوبة في إصدار تعميمات قد ترتكز عليها السياسات. حتى بالنسبة إلى البلدان ضمن منطقة واحدة تتقاسم الظروف والخلفية نفسها، برز تنوع في التجارب الانتقالية.

لقد رُفض مفهوم «المعيار الانتقالي» الذي تنتقل البلدان بموجبه من الحكم الاستبدادي إلى الديمقراطية عبر سلسلة من المراحل. قيل إن بعض البلدان تدخل في «منطقة رمادية» تضمّ أشكال حكم متنوعة تجتمع فيها الخصائص الاستبدادية والديمقراطية. لم تعد تلك البلدان تماطل بكل بساطة على طريق الديمقراطية. في هذه الدراسة، لا نستعمل مصطلح «العملية الانتقالية» للتلميح ببساطة إلى أن البلدان التي تخوض تغييراً سياسياً تميل إلى اتباع نمط واحد محدد، بل يشير المصطلح إلى اهتمامنا بعملية إرساء الديمقراطية، وتحديداً الطرق التي يمكن أن تؤثر عليها واحتمالات تطورها. تشير مجموعة الأعمال التي تتعلق بمفهوم إرساء الديمقراطية وتتناول معنى «المنطقة الرمادية» إلى أن التغييرات المطبقة في العالم العربي قد تؤدي إلى وجهتين محتملتين تختلفان عن نقطة البداية وعن الديمقراطية الليبرالية.

تتمثل إحدى أهم المسائل التي تشغل الباحثين في مجال إرساء الديمقراطية، وهي مسألة مهمة في هذه الدراسة تحديداً، بالسؤال الآتي: ما الذي يحوّل عالم السياسة إلى نظام ديمقراطي ويضمن صموده؟ على رغم الأبحاث الهائلة في هذا المجال، تقلّ النتائج الحاسمة وما من إجماع تام حول العوامل المسبِّبة. لم نحاول استنساخ جهود الآخرين لعزل تلك العوامل بطريقة منهجية. بل إننا كنا نهدف إلى معاينة طريقة تأثير العوامل التي تُعتبر مهمة في أبحاث إرساء الديمقراطية على نتائج عمليات انتقالية معينة. لقد فعلنا ذلك كي نحلل كيف تعبّر التجارب السابقة عن العمليات الحاصلة الآن في العالم العربي. لم ندقق في كل عامل محتمل، بل اخترنا عوامل تدخل على الأرجح في سياق العالم العربي. كذلك، اخترنا نماذج تستحق التدقيق لعمليات انتقالية تبرز فيها تلك العوامل كي نتمكن من استكشاف انعكاسها على عملية إرساء الديمقراطية وتحديد طرق معالجة التحديات المطروحة.

تشمل العوامل المؤثرة التي درسناها ظروفاً بنيوية وخيارات سياسية في آن. تلك العوامل هي الآتية: (1) نمط تغيير الأنظمة مع التركيز على الطريقة التي أثر فيها تغيير السلطة على عملية إرساء الديمقراطية؛ (2) تجربة البلد الماضية مع التعددية السياسية؛ (3) خيارات سياسية حاسمة يقدمها اللاعبون المحليون خلال العملية الانتقالية، بما في ذلك القرارات المتّخذة في ما يخص وضع الجيوش تحت السيطرة المدنية، والانتخابات، وصياغة الدستور، والعدالة الانتقالية (محاسبة أعضاء النظام السابق على الانتهاكات)؛ (4) تماسك الدولة والمجتمع عبر معالجة الانقسام الاجتماعي، وحركات التمرد، والحدود المضطربة؛ (5) خصائص اقتصادية؛ (6) البيئة الخارجية؛ (7) الخيارات السياسية والمساعدات الخارجية، بما في ذلك جهود اللاعبين الخارجيين لإرساء الديمقراطية. تشكل هذه العوامل والخيارات بنية فاعلة لاستكشاف العمليات الانتقالية الماضية وتحليل تداعيات الأحداث في العالم العربي.

توقعات ودروس حول العالم 2

ماذا بعد ثورات الربيع العربي؟ هل ستزدهر الديمقراطية في البلدان العربية وهل تظهر كنتيجة لها قوى متطرفة ونزاعات طائفية؟ تحاول الدراسة التالية الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها.

هذه الدراسة هي نتاج برنامج أبحاث فردية من تنفيذ مؤسسة «راند». تحصل هذه الأبحاث على دعم جزئي من جهات مانحة ومن أحكام الأبحاث والتنمية المستقلة بموجب العقود التي أبرمتها مؤسسة «راند» لإدارة مراكز الأبحاث والتنمية التابعة لها والمموّلة من وزارة الدفاع الأميركية. «الجريدة» تنشر الدراسة في أربع حلقات، هنا الثانية منها.

في آسيا، لم تختبر بعض الدول (منها كوريا الشمالية ولاوس وفيتنام والصين) أي مسار ديمقراطي ولا تزال تخضع لدرجات متنوعة من الحكم الاستبدادي. تسود أنظمة هجينة في دول كثيرة أخرى. لكن في السنوات الأخيرة، سجلت منظمة «فريدوم هاوس» تقدماً لافتاً في مجال تبني المؤسسات للديمقراطية الانتخابية في المنطقة. داخل البلدان التي اختبرت عمليات انتقالية ديمقراطية، من الملاحظ أن تاريخ العمليات الانتقالية وأنماطها واستمراريتها تكون مختلفة.

غالباً ما يُفسَّر تراجع ترسيخ العمليات الانتقالية الديمقراطية خلال الجيل الأول الذي يلي حقبة الاستعمار بتدني مستويات التنمية الاقتصادية والتعليم الجماعي، وقلة الخبرة في المؤسسات الديمقراطية، والثقافات السياسية الهرمية والاستبدادية تاريخياً. لكن تشير تجربة الهند إلى أن الترسيخ الديمقراطي قد يحدث حتى في ظل توسع الفقر وانتشار الأمية والتنوع الإثني الهائل. كانت العمليات الانتقالية الديمقراطية خلال الجيل الثاني في الثمانينيات والتسعينيات أكثر انتشاراً. صحيح أن سقوط الاتحاد السوفياتي وانتشار العولمة كانا عاملين أساسيين وشائعين أثّرا على التغيير في عمليات انتقالية كثيرة خلال تلك الفترة، لكن كان زخم التغيير وأنماطه على درجة عالية من التفاوت.

في كوريا الجنوبية وتايوان مثلاً، حدثت العمليات الانتقالية الديمقراطية في سياق العصرنة والتحول الاقتصادي. خلال الثمانينيات، شمل كل بلد منهما طبقة وسطى مثقفة ومتنامية بدأت تعتبر الحكم الاستبدادي والقمعي غير شرعي. في منغوليا، البلد الآسيوي الوحيد الذي شهد عملية انتقالية ناجحة من بين الدول السوفياتية السابقة، كان سقوط الاتحاد السوفياتي الحافز الأساسي للتغيير، ما دفع الحزب الحاكم إلى إنشاء نظام ديمقراطي متعدد الأحزاب وصياغة دستور جديد في عام 1990.

فشل بعض العمليات الانتقالية خلال الجيل الثاني بكل وضوح في إنتاج حكم ديمقراطي (تحديداً في جنوب آسيا وبنغلادش وباكستان). في جنوب شرق آسيا أيضاً، كان سجل البلدان مختلطاً. مثلاً، أدت العملية الانتقالية في الفيليبين، بعد سقوط الرئيس ماركوس في عام 1986، إلى تغييرات مؤسساتية ولكنها لم تغير بنية السلطة في الفيليبين بشكل جذري. يجسد هذا المثال مدى سطحية عملية إرساء الديمقراطية أحياناً. في غضون ذلك، تعززت الديمقراطية في أندونيسيا مع مرور الوقت بعد سقوط حكم الرئيس سوهارتو الذي دام 32 سنة في عام 1998. تجسد أندونيسيا عملية انتقالية تطورية حيث تحصل التغييرات ضمن الإطار الدستوري القائم. في الفيليبين وأندونيسيا معاً، كانت قرارات كبار القيادات العسكرية بدعم تغيير نظام الحكم عوامل حاسمة تصبّ في مصلحة إرساء الديمقراطية. يمكن اعتبار أندونيسيا نموذجاً منطقياً في هذا المجال نظراً إلى نقاط الشبه بين بنى السلطة في أندونيسيا وبعض الدول العربية التي تخوض مرحلة انتقالية الآن، تحديداً في ما يخص دور الجيش السياسي وأهمية الدين في الحياة العامة.

شهدت إفريقيا جنوب الصحراء سلسلة غير مسبوقة ومتسارعة من عمليات انتقالية ديمقراطية بين عامي 1990 و1994. وُصفت هذه الأحداث بعبارة «الاستقلال الثاني»، بمعنى أن السجل الديمقراطي في معظم الأنظمة بعد حقبة الاستقلال لا يكون مرضياً. حصل بعض العمليات الانتقالية في السابق، كان بعضها طويل الأمد بينما كان بعضها الآخر قصير الأمد، لكنها كانت مجرد حالات استثنائية في قارةٍ يكون فيها الحكم النموذجي استبدادياً ويرتكز على حكم الحزب الواحد ويُبقي الحريات المدنية تحت رقابة مشددة.

نُسب جزء من التغييرات خلال التسعينيات إلى سقوط الاتحاد السوفياتي، ما ساهم في إضعاف أنظمة الحزب الواحد، والأهم من ذلك كان التخلص من سياسات الحرب الباردة في إفريقيا. ارتبط عامل آخر بأزمة الديون في القارة وقد أدت هذه الأزمة، إلى جانب تراجع أسعار السلع عالمياً، إلى استنزاف الموارد الشحيحة أصلاً. أما العامل الثالث، فكان يتعلق بظهور لاعبين من القطاع الخاص فضغطوا لإنشاء أنظمة متعددة الأحزاب واحترام الحريات المدنية ونشر الديمقراطية، وتمكنوا من اقتناص الفرص عندما أصبحت الظروف الخارجية تصبّ في مصلحتهم. ولّد الرأي العام في المنطقة ضغوطاً جديدة أيضاً فيما ارتفعت التوقعات من أداء الحكومة وزادت جهوزية الشعب لتحدي انتهاكات السلطة.

لكن بقي إرساء الديمقراطية في إفريقيا جنوب الصحراء هشاً. شهدت قلة من البلدان تقدماً مهماً في مجال ترسيخ الديمقراطية. في أماكن عدة، كانت العمليات الانتقالية الديمقراطية قصيرة الأمد أو لم تؤدِّ إلى مستوى التغيير الموعود. تعلّم بعض المسؤولين سريعاً كيفية التلاعب بالعملية السياسية لضمان انتخابهم، كما حصل في كينيا وساحل العاج. استُبدل مسؤولون آخرون بأعضاء المعارضة الذين كانوا يميلون إلى الحكم الاستبدادي بقدر أسلافهم، كما حصل في زامبيا. على عكس بعض التجارب التي حققت نجاحاً أكبر، لم تحصل إعادة هيكلة جوهرية للعملية السياسية والمؤسسات في هذه البلدان. تُعتبر مالي مثالاً مؤسفاً على الضعف وهشاشة الوضع. بعد عقدين من التطور الديمقراطي (مع أن مالي أحد أفقر بلدان العالم)، حصل انقلاب أطاح بالنظام في بداية عام 2012.

تشير التجربة في إفريقيا جنوب الصحراء إلى إمكان تجاوز الفقر والظروف البنيوية السلبية الأخرى وتاريخ الصراعات من خلال بذل الجهود اللازمة لإرساء أنظمة ديمقراطية. أصبحت دول إفريقيا جنوب الصحراء محط نزاع سياسي أكبر بعد الموجة الثالثة أكثر من أي وقت سابق في تاريخها بعد الاستقلال، علماً أن إضعاف الديمقراطية استمر في المنطقة بسبب الفساد وغياب الليبرالية. لكن ما يهمّ الدول التي تشهد عمليات انتقالية في العالم العربي هو أنّ تجربة إفريقيا جنوب الصحراء تشير أيضاً إلى أن ترسيخ الديمقراطية قد يكون أمراً بعيد المنال لأن إرساء الديمقراطية في ظل ظروف غير مؤاتية يعني إطلاق عملية بطيئة تترافق مع تحديات دائمة.

عالمياً، تباطأ الزخم الديمقراطي خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ونشأت أشكال متنوعة من الأنظمة الهجينة، وهي الأنظمة التي تجمع بين الممارسات الاستبدادية والأشكال الديمقراطية. تساءل بعض مراقبي عملية إرساء الديمقراطية عن حقيقة تباطؤ النزعة إلى توسيع هامش الديمقراطية حول العالم أو حتى انقلابها. اعتباراً من نهاية عام 2011، راقبت منظمة «فريدوم هاوس» دولاً إضافية تتراجع فيها نقاط الديمقراطية منذ ست سنوات متلاحقة بدل التركيز على تلك التي تحسنت فيها مظاهر الديمقراطية. اختفت جميع الخيارات البديلة المعترف بها عن الديمقراطية في ما يخص التعبير عن الأفكار الإيديولوجية، لكن برز عدد كبير من الأنظمة الديمقراطية غير الليبرالية أو الأنظمة الهجينة. بالتالي، لم تُسجَّل أي عودة إلى الحكم الاستبدادي في الدول التي انتقلت فعلياً إلى الحكم الديمقراطي خلال الموجة الثالثة.

لا يزال الوقت مبكراً لمعرفة ما إذا كانت تطورات القرن الراهن حتى الآن تمثل نقطة تحول في النزعة السائدة من التقدم الديمقراطي أو أنها مجرد تغيير تاريخي عابر. من المبكر أيضاً معرفة ما ستؤول إليه التغييرات السياسية التي بدأت في عام 2011 في العالم العربي. لكن لا شك في أن الديمقراطية في العالم وداخل معظم المناطق أيضاً قطعت شوطاً طويلاً على المستويين المعياري والعملي منذ منتصف السبعينيات.

دروس وتداعيات سياسية

تبدأ استنتاجاتنا بإقامة مقارنة واسعة بين الربيع العربي والخصائص الأساسية التي تطبع العمليات الانتقالية خلال الموجة الثالثة. ثم نحدد الدروس المستخلصة من التجارب السابقة التي تعكس التحديات الصعبة التي تنتظر مصر وتونس، فضلاً عن الدروس التي تفيد العالم العربي عموماً. أخيراً، نسلط الضوء على تداعيات صناعة السياسة في الولايات المتحدة وفي المجتمع الدولي ككل. عموماً، ستساعد هذه الاستنتاجات صانعي السياسة على تقييم التحديات المرتقبة، وطرح توقعات مقنعة، وتحديد مقاربات دبلوماسية، واتخاذ خطوات عملية للتشجيع على إحداث تغيير إيجابي.

مقارنة الربيع العربي بالعمليات الانتقالية خلال الموجة الثالثة

حصلت تحولات تاريخية جوهرية في العقود الأخيرة، إذ لم تعد الديمقراطية تواجه أي منافسة جدية في ما يخص شكل نظام الحكم الشرعي. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تحديداً ورفض الشيوعية كشكل الحكم في أنحاء أوروبا، تبنّت الحكومات في جميع الدول التي شهدت عمليات انتقالية من الحكم الاستبدادي مبدأ الديمقراطية، مع أن بعضها يقصّر في تطبيق هذا المبدأ عملياً. ما من حكومات، حتى تلك التي تدعم عن قصد الحكام الاستبداديين ما وراء حدودها، تقترح صراحةً الآن أي خيار بديل عن الديمقراطية. تنشر المؤسسات في النظام الدولي الديمقراطية كمعيار عالمي.

تتعلق إحدى المسائل المهمة بشأن عواقب الربيع العربي بمعرفة مدى قدرة العالم العربي على التكيف مع هذا الواقع أو تغييره. تختلف الثقافة السياسية العربية عن غيرها لأن بعض الأطراف فيها يقترح خياراً بديلاً عن الديمقراطية: النزعة الإسلامية. لكن لم يتضح بعد الفرق الذي سيُحدثه هذا الاختلاف على نتائج العمليات الانتقالية في المنطقة. لا شك في أن التطورات في مصر وتونس وليبيا وفي أماكن أخرى محتملة ستختبر قدرة الأطراف التي تتبنى أجندة إسلامية على تحقيق أهداف سياسية واجتماعية ضمن نظام ديمقراطي إلى جانب أحزاب لها توجه علماني. كذلك ستختبر قدرة القادة الانتقاليين على إدارة الشرخ القائم بين المفاهيم الإسلامية والعلمانية في الدولة.

قد تتبع الدول العربية مسارات مشابهة لتلك التي تبعتها تركيا وأندونيسيا حيث تلعب الأحزاب المسلمة والمحافظة اجتماعياً أدواراً فاعلة في السياسات الانتخابية ضمن الأنظمة الديمقراطية. قد تختبر تلك الدول ما يشبه السياسة الشائبة المبنية على الهوية في العراق حيث يؤدي الانتماء الطائفي دوراً قوياً لكن يكون احتمال نشوء نظام إسلامي ضئيلاً. لكن قد يساهم الانقلاب على الحكم الاستبدادي في فتح المجال أمام الجماعات كي تنشر الأشكال الإسلامية للحكم. لم تتحدد بعد معايير الإسلام السياسي في الدول العربية التي تخوض تغييراً سياسياً.

ستكون التوقعات الشعبية والضغوط المستمرة مهمة بالنسبة إلى نتائج الربيع العربي أكثر مما كانت عليه في بعض العمليات الانتقالية السابقة. في مصر مثلاً، لاحظ المصريون منذ الآن الحاجة إلى متابعة الضغط على الجيش للحفاظ على الزخم اللازم تمهيداً لإرساء الديمقراطية. نجحت العمليات الانتقالية في جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية في الصمود عموماً بفضل إجماع النخبة الذي تطور قبل بدء العملية الانتقالية أو خلال مراحلها الأولى من دون أن تضطر الشعوب إلى الضغط على قادتها. نتيجة الدور المهم الذي لعبته الاحتجاجات الحاشدة في إطلاق العمليات الانتقالية خلال الربيع العربي وفي دفع تلك العمليات قدماً، قد تتحرك بعض العمليات الانتقالية هذه، ولا سيما في تونس، بوتيرة أسرع من تلك بدأت من المراتب العليا كما حصل في أميركا اللاتينية. لكن في ظل غياب أي إجماع بين النخبة ومختلف الجماعات الداخلية، قد تبقى العمليات الانتقالية في مصر وليبيا أو حتى سورية (إذا حصلت عملية انتقالية هناك) محط نزاع لفترات مطوّلة من الزمن.

حتى هذه اللحظة، أنتج الربيع العربي حركات احتجاجية إضافية بدل تغيير الأنظمة بشكل متكامل. لا بد من مقارنة نماذج العمليات الانتقالية المعاصرة في منطقة كاملة خلال الموجة الثالثة، تحديداً في أوروبا الشرقية، بالأحداث في العالم العربي. هل الديمقراطية مُعدية بشكلٍ يدل على حصول تغييرات مستقبلية في الأنظمة العربية؟ كانت الاحتجاجات في تونس هي التي ألهمت الاحتجاجات في مصر وسرعان ما انتشر مصدر الإلهام هذا في أنحاء المنطقة. لكن تشير التجارب في أماكن أخرى إلى أن تلك الآثار المزعومة (بمعنى أن تثبت أحداث بلد معين وجود احتمال بالتغيير أمام الشعوب في بلدان أخرى) هي أقوى في تأجيج المعطيات التحوّلية بدل الحفاظ عليها عبر عملية انتقالية مكتملة.

وقعت موجة التغيير التي اجتاحت أوروبا الشرقية بعد عام 1989 في ظل ظروف داخلية وخارجية أكثر إيجابية من التغييرات التي حصلت خلال الربيع العربي. أدى غياب الدعم السوفياتي إلى إعاقة صمود الأنظمة الاستبدادية في أوروبا الشرقية وعزز التكامل الأوروبي معطيات إرساء الديمقراطية (شهدت العمليات الانتقالية في الاتحاد السوفياتي السابق، حيث لا يُعتبر التكامل الأوروبي عاملاً مهماً، اضطرابات إضافية). من المعروف أن الأنظمة العربية هي أكثر تنوعاً مما كانت عليه الأنظمة في أوروبا الشرقية، تحديداً في ما يخص بنى الدعم الداخلية والخارجية. خلطت الأنظمة في سورية واليمن مثلاً بين الحكم الشخصي وحكم الحزب الواحد وحصلت على الدعم اللازم، ولا سيما في سورية، من خلال هندسة أمنية داخلية قوية. في البحرين، تدعم المملكة العربية السعودية (أهم قوة في منطقة الخليج) النظام الملكي من باب المصلحة المشتركة في منع الإصلاح الديمقراطي. بعبارة أخرى، أنتج الربيع العربي ضغوطاً لإحداث تغيير سياسي لكن لا تزال الضغوط المضادة في المنطقة قوية.

بالتالي، لا داعي لإثبات آثار العدوى الديمقراطية عبر تغيير سياسي مدهش وسريع. في أميركا اللاتينية، ترسخت المعايير والممارسات الديمقراطية خلال فترة أطول من تلك التي احتاجت إليها أوروبا الشرقية أو الجنوبية. كذلك، أظهرت الدراسات أن وجود دول مجاورة ديمقراطية يزيد احتمال تحول البلد إلى نظام ديمقراطي. بالتالي، إذا طوّرت مصر وتونس أنظمة ديمقراطية راسخة، وإذا نجحت ليبيا في إرساء الديمقراطية أيضاً (لكن بوتيرة أبطأ على الأرجح)، وإذا نشر العراق الديمقراطية تدريجاً (هذه الاحتمالات كلها ممكنة)، يمكن أن تؤثر تغييرات مماثلة على احتمالات إرساء الديمقراطية في بقية المنطقة على المدى البعيد. على عكس العملية شبه الموحّدة في أوروبا الشرقية، من المتوقع أن تتضح آثار العدوى الديمقراطية في العالم العربي تدريجاً مع مرور الوقت وبطرق متنوعة في مختلف البلدان، ما لم تحصل أي انقلابات كبرى.

يمكن استخلاص درس تحذيري من موجة العمليات الانتقالية السياسية التي اجتاحت أنحاء إفريقيا جنوب الصحراء في منتصف التسعينات، علماً أن هذه المنطقة، مثل العالم العربي، لم تشهد تجارب ديمقراطية سابقة مهمة. صحيح أن تلك العمليات الانتقالية كانت أقل اضطراباً من ثورات الربيع العربي، ولكنها حصلت بسرعة نسبياً وشمل بعضها احتجاجات شعبية. بعد موجة التغيير الأولية، فشل عدد من هذه العمليات الانتقالية في الحفاظ على عملية إرساء الديمقراطية. كانت إعادة هيكلة العمليات السياسية والمؤسسات، منها عبر إصلاح دستوري، عاملاً حاسماً في الحالات الأكثر نجاحاً. في الأماكن التي لم تحصل فيها إعادة الهيكلة، غالباً ما تمارس الأنظمة المنتخبة حديثاً أشكالاً قديمة من القمع أو تتلاعب بالشكليات الديمقراطية لمصلحتها.

دروس تفيد مصر وتونس

استناداً إلى تحليلنا للعمليات الانتقالية السابقة في أنحاء العالم ونظراً إلى طبيعة التحديات التي تنتظر مصر وتونس، نفصّل أدناه الدروس المتعلقة بتلك التحديات.

إدارة آثار نمط تغيير الأنظمة

تواجه مصر تحدياً أساسياً يتمثل بالحاجة إلى التوفيق بين موجة التفاؤل التي أطلقتها الثورة والوقائع السياسية لأي عملية انتقالية تسيطر عليها الركيزة الأساسية للنظام السابق، أي الجيش. كذلك، أنتجت الثورة لاعبين سياسيين جددًا على الساحة، وستكون قدرتهم على ترسيخ دورهم الدائم إشارة على استمرار آثار الثورة. يتعلق أحد التحديات الأخرى بإدارة عملية التكامل ضمن السياسة الرسمية الخاصة بالمنظمات المحظورة سابقاً، بما في ذلك جماعة «الإخوان المسلمين» التي تحظى بشعبية واسعة وتتّسم بأعلى مستويات التنظيم. قد يبرز أيضاً عامل أكثر أهمية يتمثل بحزب «النور» الإسلامي المحافظ الذي قاد لائحة من السلفيين الذين حصدوا نسبة كبيرة ومفاجئة من الأصوات خلال أول انتخابات حرة تشهدها مصر. في تونس، حصلت ثورة سريعة مماثلة ولم تمنح جماعات المعارضة الوقت الكافي كي تنظم نفسها. لهذا السبب، كانت بداية العملية الانتقالية عشوائية نظراً إلى غياب أي سلطة مركزية متماسكة لتوجيه شؤون الدولة. كما حصل في مصر، ستطرح إدارة الشرخ المحتمل بين الجماعات ذات التوجهات الإسلامية والعلمانية تحديات عدة خلال العملية الانتقالية.

خلال العمليات الانتقالية السابقة، كانت أنماط تغيير الأنظمة (بما في ذلك الإصلاح الثوري والتدريجي والمبني على الانقلاب أو التفاوض) وآثارها متنوعة للغاية. تتراجع حالات إرساء الديمقراطية الناجحة التي تجنبت الاضطرابات بمختلف أبعادها، ما يشير إلى أن الاضطرابات وحدها لا تعيق مسار إرساء الديمقراطية. لم تكن صعوبة إدارة التوقعات الشعبية العالية بعد تغيير الأنظمة عاملاً مؤثراً في الانقلابات أو في العمليات الانتقالية البطيئة تحديداً. بل كانت أبرز التفسيرات تتعلق بالفشل في إصلاح المؤسسات وقلة التزام القادة بإرساء الديمقراطية فضلاً عن معطيات داخلية أخرى.

تشير تجارب جنوب أوروبا إلى أن النتائج قد تتوقف على معرفة ما إذا كان تغيير النظام يشمل رفض النظام السياسي السابق ولا يقتصر على رفض نظام الحكم السابق. في إسبانيا والبرتغال تحديداً، كان تفكيك المؤسسات الفاسدة أمراً أساسياً لإرساء الديمقراطية. من المتوقع أن يكون الوضع مماثلاً في تونس أيضاً حيث نشر الحزب الحاكم نفوذه في أنحاء الدولة.

في تركيا، انتقل نظام مصطفى كمال الاستبدادي، بنفوذه العسكري القوي، إلى ديمقراطية كاملة إنما بشكل تدريجي. حين تمكنت غالبية الأتراك من التعبير عن رأيها وفرض خياراتها، وصل حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة. في تشيلي أيضاً، تطورت الديمقراطية تدريجاً. لم يتم إلغاء «الأسس» الاستبدادية في الدستور بشكل نهائي (بما في ذلك توفير الحماية إلى الجيش) قبل مرور 25 عاماً على إطلاق العملية الانتقالية. كما حدث في تركيا، حصلت العملية الانتقالية بقيادة النظام. لكن يصعب أن يكرر الجيش المصري هذا النوع من العمليات التدريجية بسبب انطلاق الثورة من الأسفل وصولاً إلى المراتب العليا خلال العملية الانتقالية المصرية فضلاً عن ارتفاع التوقعات المنتظرة من التغيير السريع. قد يحصل الجيش المصري على فسحة معينة كي يتابع ممارسة نفوذه السياسي بفضل مخزون الاحترام الشعبي الذي يحصده هذا الجيش، لكن شرط ألا يقمع الطموحات الديمقراطية بشكل فاضح.

أدت مجموعة الدوافع نفسها إلى إطلاق التغييرات السياسية بعد عام 1989 في أنحاء أوروبا الشرقية والدول السوفياتية السابقة، منها سحب الدعم السوفياتي للأنظمة التابعة للسوفيات سابقاً ثم انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية المطاف. لكن كانت النتائج مختلفة جداً بين طرفي الكتلة الشيوعية السابقة فقد كانت المكاسب الديمقراطية أكبر بكثير في أوروبا الشرقية. أكثر ما يلفت النظر في جميع تجارب أوروبا الشرقية هو أن النظام السابق (إلى جانب المؤسسات الداعمة له) كان يتعرض للرفض. بدل إحداث تغيير منهجي، راقبت الدول السوفياتية السابقة انتشار الديمقراطيات «المقلّدة» بحسب رأيها، وكان بعضها سريعاً كما حصل في أوروبا الشرقية أو تدريجاً كما حدث في تركيا وتشيلي.

تبرز خصائص مشتركة بين تغيير النظام في رومانيا والتغيير في تونس وفي ليبيا أيضاً لكن بدرجة أقل. لم يسمح حكم نيكولاي تشاوشيسكو القمعي بحدوث أي تطور في المؤسسات السياسية أو في جماعات المجتمع المدني التي يمكن أن تسهّل العملية الانتقالية. بسبب المعارضة غير المكتملة في رومانيا، طالت مدة العملية الانتقالية وعمّتها الفوضى. لكن سرعان ما نجحت رومانيا في إرساء الديمقراطية، ما يشير إلى أن الاضطرابات في بداية العملية الانتقالية لا تحكم على التطور الديمقراطي بالفشل في حال توافرت قوى تعويضية كافية للبقاء على المسار نفسه. تتّسم تونس ببعض الإيجابيات في هذا المجال: روابط تجارية وسياحية مع أوروبا الغربية، وطبقة وسطى واسعة قد تستفيد من الإصلاحات، ومستوى مرتفع نسبياً من التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

يُفترض أن تُقنع تجربة منغوليا صانعي السياسة بالانفتاح على احتمالات إرساء الديمقراطية في العالم العربي. شهدت منغوليا واحدة من أكثر العمليات الانتقالية الديمقراطية المدهشة خلال الموجة الثالثة، مع أنها بقيت هشة نسبياً. هذا البلد فقير ولا يتمتع بأي خبرة ديمقراطية سابقة ولا تحيط به دول مجاورة ديمقراطية بمعنى الكلمة، فضلاً عن أنه معزول جغرافياً عن الغرب وكان يواجه مشقات اقتصادية موجعة خلال العملية الانتقالية. لكن كان الأداء القيادي السليم والالتزام الواسع بتطبيق العملية الديمقراطية عاملين حاسمين في هذا المجال. خلال فترة قصيرة، خاضت منغوليا عدداً من الانتخابات الحرة والعادلة مع ضمان التناوب على السلطة.

كذلك، تجسّد تجربة مالي احتمال نشر الديمقراطية في الأراضي الفقيرة، ما يشير إلى أن الظروف الصعبة لا تعني الفشل الحتمي. صحيح أن مالي هي بلد فقير للغاية ولا تتمتع بأي خبرة ديمقراطية سابقة وتتعامل مع حركة انفصالية، لكن صُنّفت مالي في عام 2011 واحدة من تسعة بلدان فقط في إفريقيا جنوب الصحراء ضمن خانة الدول «الحرة» وفق تقييم منظمة «فريدوم هاوس». برز عاملان حاسمان مهّدا لنجاح مالي وهما غياب مسؤولين يتمسكون بمناصبهم والقيادة السليمة التي مارسها ضابط الجيش الذي قاد انقلاباً ثم نقل السلطة فوراً إلى حكومة انتقالية مدنية عسكرية. لكن تثبت تجربة مالي إمكان اقتلاع ظاهرة نشر الديمقراطية في الأراضي الفقيرة أيضاً. بعد عملية ترسيخ الديمقراطية طوال 20 عاماً، شهدت مالي انقلاباً عسكرياً في مارس 2012، لكن لم تتضح نتيجته النهائية حتى وقت نشر هذه الدراسة. نجم الانقلاب عن عامل أساسي تمثل بانعدام الأمن نتيجة تدفق المتمردين المسلحين الذين غادروا ليبيا حين كان نظام القذافي ينهار.

يجب أن يترافق الانفتاح على النتائج المحتملة مع تقييم واقعي للتحديات المرتقبة: لا يؤدي تغيير النظام عن طريق الثورة إلى تغييرات جذرية بالضرورة. في الفيليبين، ساهمت العملية الانتقالية في إعادة ترميم المؤسسات والعمليات الديمقراطية، لكن سرعان ما تحولت السياسة إلى حكم عرفي مبني على الفوضى المزمنة. كانت أنماط السلوك السياسي مترسخة بعمق. قد تحصل الدول التي تدخل مجالاً سياسياً جديداً، مثل منغوليا ومالي، على بعض الإيجابيات تماماً مثل الدول العربية التي ترسخ عمليات ديمقراطية جديدة.

في المقابل، يمكن أن تنتج أي عملية انتقالية تشدد على ضرورة الاستمرارية تغييراً سياسياً عميقاً حيث يحصل مبدأ الاستمرارية على دعم واسع بما يكفي. في أندونيسيا، ضمنت العملية الانتقالية استمرارية الحكم، لكن انطلقت إصلاحات مؤسساتية أيضاً وارتفع مستوى الديمقراطية سريعاً. دخلت الأحزاب التي تتبع توجهاً دينياً إلى المعترك السياسي، لكن حصل الإسلاميون المتشددون على نسب صغيرة من الأصوات الانتخابية. تشير نقاط الشبه الكثيرة بين بنى السلطة (لا سيما الدور السياسي للجيش) وبعض الظروف الاجتماعية في أندونيسيا وفي بعض الدول العربية إلى احتمال حصول تطور ثابت للديمقراطيات العربية حيث تكون الجماعات السياسية الجديدة جزءاً مهماً من العملية الديمقراطية وحيث تحافظ المؤسسات النافذة على دعم دائم لإرساء الديمقراطية.

توقعات ودروس حول العالم 3

ماذا بعد ثورات الربيع العربي؟ هل ستزدهر الديمقراطية في البلدان العربية وهل تظهر كنتيجة لها قوى متطرفة ونزاعات طائفية؟ تحاول الدراسة التالية الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها.

هذه الدراسة هي نتاج برنامج أبحاث فردية من تنفيذ مؤسسة «راند». تحصل هذه الأبحاث على دعم جزئي من جهات مانحة ومن أحكام الأبحاث والتنمية المستقلة بموجب العقود التي أبرمتها مؤسسة «راند» لإدارة مراكز الأبحاث والتنمية التابعة لها والمموّلة من وزارة الدفاع الأميركية. «الجريدة» تنشر الدراسة في أربع حلقات، في الثالثة منها نتابع في الدروس التي تستفيد منها مصر وتونس.

قد تستفيد مصر من تجربتها السابقة مع النظام الهجين بدل النظام الاستبدادي الصرف. لكن يبدو أن معرفة المصريين بالعمليات الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني التي يجب الاتكال عليها تبقى محدودة. في المقابل، تخوض تونس عملية انتقالية من نظام استبدادي كان يُعتبر قوياً حتى وفق معايير المنطقة. لم يكن المجتمع التونسي مسيّساً بأي شكل طوال نصف قرن من السيطرة السياسية المشددة حيث حكم نظام كان يتكل على الأداء الاقتصادي لتشريع حكمه. قد تواجه تونس تحدياً هائلاً لبناء الركائز المؤسساتية للديمقراطية. لكن اعتباراً من بداية عام 2012، لم تؤدِّ سلبيات تونس النسبية إلى منعها من تحقيق تقدم ديمقراطي أكبر وتنفيذ عملية انتقالية سلسة أكثر من مصر. ربما يتمثل أكبر خطر يقف في وجه إرساء الديمقراطية في تونس باحتمال أن يؤدي الحكم الديمقراطي غير الفاعل إلى دفع التونسيين المستائين الذين اعتادوا على راحة مادية معينة إلى التشكيك بشرعية النتائج مجدداً.

صحيح أن إنشاء البنى والعمليات الديمقراطية في بلدٍ لم يعهد هذه المظاهر هو أمر صعب، لكن لم تكن التجارب السابقة مع التعددية السياسية مفيدة جداً بالنسبة إلى نتائج العملية الانتقالية في التجارب التي استكشفناها خلال الموجة الثالثة. لكن في بعض الحالات، كان وجود أساس للمجتمع المدني عاملاً مهماً لتمكينه من لعب دور فاعل في العملية الانتقالية. من بين الدول التي ركزنا عليها ونجحت في إرساء الديمقراطية، كان البعض يتمتع بخبرة سابقة مع التعددية السياسية بينما كانت خبرة البعض الآخر محدودة أو معدومة.

في بلدان مثل هنغاريا وبولندا، بدأت منظمات المجتمع المدني والجماعات المستقلة تتطور قبل فترة طويلة من بدء العمليات الانتقالية وتمكنت تلك الجماعات من أداء أدوار مهمة في التفاوض خلال العمليات الانتقالية. كذلك، كانت مؤسسات المجتمع المدني القوية التي نشطت ضمن حدود معينة تحت الحكم الاستبدادي في أندونيسيا والفيليبين طرفاً حاسماً لتغيير النظام واستمرار الدعم الواسع لإرساء الديمقراطية. بالتالي، قد تكون مصر التي تتمتع بهذه الميزة الإيجابية أيضاً في موقع جيد لإرساء الديمقراطية أكثر من دول عربية أخرى (مثل ليبيا حيث أُغلقت الأبواب في وجه المجتمع المدني بالكامل) ما دامت مؤسسات السلطة، مثل الجيش، تتابع دعم إرساء الديمقراطية كما فعلت الجيوش في نهاية المطاف في أندونيسيا والفيليبين.

إنشاء مؤسسات ديمقراطية

لفرض السيطرة والأمن

تتعدد الخيارات السياسية الحاسمة التي ستحدد هامش إرساء الديمقراطية في مصر، منها اتخاذ قرار بوقف رضوخ القيادة المدنية لنفوذ الجيش. من المتوقع أن يكون ضمان دعم الجيش لإرساء الديمقراطية، على رغم مصالحه المؤسساتية القوية في الحفاظ على نفوذه السياسي ومؤسساته التجارية المربحة، تحدياً مزعجاً. في تونس، كان نظام بن علي يستعمل جهازاً أمنياً داخلياً متشعباً ومترسخاً على جميع مستويات المجتمع لفرض السيطرة على السياسة والمجتمع. سيكون تفكيك هذا الجهاز ووضع مؤسسات الأمن الداخلي الشرعية تحت السيطرة الديمقراطية عاملاً حاسماً لإرساء الديمقراطية هناك.

أدت الجيوش في بلدان عدة دوراً أساسياً في تسهيل تغيير الأنظمة أو إحداث التغيير بشكل مباشر. لكن في بعض الدول، وحتى في الأماكن التي سمحت فيها الجيوش للمعارضين المدنيين بالوصول إلى السلطة بدل أن تسيطر على البلد بنفسها، برز صراع شائك لوضع الجيش تحت السيطرة المدنية الديمقراطية. كانت الجيوش فاعلة أحياناً في تدعيم عملية إرساء الديمقراطية، لكن لا بد من وضعها تحت سيطرة مدنية في نهاية المطاف لترسيخ الديمقراطية.

عادت بعض الجيوش إلى ثكناتها بمبادرة شخصية منها بعد أن شاركت في تغيير النظام. لكن في حالات أخرى، اضطر القادة المدنيون إلى خوض مفاوضات أو عقد المصالحة وعرض الحماية وامتيازات خاصة على الجيش كي يرضخ لنظام ديمقراطي جديد. اضطر بعض القادة المدنيين إلى تطهير قسم الضباط من الموالين للنظام السابق لضمان ذلك الرضوخ. في الأماكن التي تشوهت فيها سمعة الجيش بسبب سلوكه خلال عهد النظام السابق أو في الأماكن التي احتدمت فيها الصراعات الداخلية، كان من الأسهل على القادة المدنيين عموماً أن يُخرجوا عناصر الجيش من عالم السياسة. طبّق بعض الدول، مثل تشيلي وتركيا، مقاربة تدريجية لتحويل ميزان القوى من الجيش إلى السلطات المدنية، بينما نجحت بلدان أخرى في تغيير ميزان القوى بوتيرة أسرع.

كان إخضاع الجيش للسيطرة المدنية تحدياً بارزاً في الأماكن التي كان فيها الجيش لاعباً أساسياً أو لم يكن كذلك خلال العملية الانتقالية، وقد ثبت هذا الأمر عبر محاولات الانقلاب ومحاولات أخرى لتخريب السلطة المدنية خلال العمليات الانتقالية في الأرجنتين واليونان والفيليبين وأماكن أخرى. واجهت إسبانيا محاولة انقلاب عسكري وواجه النظام في البيرو حركة تمرد بعد سنوات قليلة على العملية الانتقالية في كل بلد، مع أن الجيش هناك لم يلعب دوراً أساسياً في تغيير النظام. يشير هذا الأمر إلى أن إرساء السيطرة المدنية يجب أن يكون أولوية سياسية بالنسبة إلى الحكومات في الدول التي تشهد عملية انتقالية، حتى لو لم يلعب الجيش هناك دوراً سياسياً مهماً في العملية الانتقالية.

في الأماكن المعرّضة لمواجهة ردود فعل عنيفة، يمكن اللجوء إلى تدابير تصالحية لتخفيف خطر الانقلابات ولتعريف الجيش على النظام الديمقراطي. في الأرجنتين، شعرت الحكومة المدنية الجديدة بأنها مجبرة على التحرك بحذر لمحاسبة المسؤولين عن جرائم «الحرب القذرة». فردّت على الثورات العسكرية من خلال التفاوض مع الضباط الثوريين والتنازل في مسائل المحاكمات وزيادة الأجور. في الفيليبين، لم يُترجَم دعم الجيش للمعارضة في الأزمة السياسية التي أدت إلى سقوط فرديناند ماركوس بدعم تلقائي للنظام المدني اللاحق. لم يتعرف الجيش على مفهوم الديمقراطية بالكامل قبل مرور سنوات على ثورة «قوة الشعب».

لكن في اليونان، أدت محاولة انقلاب فاشلة إلى منح النظام فرصة التحرك بشكل حاسم ضد المتعاطفين مع المجلس العسكري السابق من خلال إقالة 200 ضابط بالقوة. يصعب تحديد الوقت المناسب لإعادة التوازن إلى العلاقات بين الجيش والسلطة المدنية، إذ لا بد من احترام معطيات معينة في كل حالة. يُفترض أن تكون الضغوط الخارجية لفرض إعادة التوازن عاملاً حساساً بالنسبة إلى هذه المعطيات.

لكنّ وضع أجهزة الأمن الداخلي تحت السيطرة الديمقراطية يطرح نوعاً مختلفاً من التحديات. يجب أن يفكك القادة الجدد أجهزة الأمن الداخلي إذا كانت من ركائز دعم النظام السابق. هذه الجهود معقدة بحسب نطاق انتشار بنى تلك الأجهزة ونفوذها في أنحاء المجتمع (على عكس ما يحصل مع الجيوش). إن ضمان أن توفر أجهزة الأمن الداخلي خدمات الحماية العامة الشرعية بدل العمل كأدوات للنظام هو جزء من مجموعة المعايير الإصلاحية والمؤسساتية الواسعة والضرورية لإرساء الديمقراطية.

في تونس، حلّت السلطات الموقتة ما يسمى «الشرطة السياسية» وحُلّت مديرية أمن الدولة في مصر. صحيح أن تلك الهيئات كانت أسوأ من استغل السلطة بشكل فاضح، لكن كانت قوى الشرطة متورطة أيضاً ولا بد من إجراء إصلاحات جدية لحل المشكلة.

إجراء انتخابات ديمقراطية أولية

غالباً ما تكون القرارات المتعلقة بتوقيت الانتخابات الأولية ومدى انفتاحها من أكثر المسائل المثيرة للجدل في بداية أي عملية انتقالية. سرعان ما استُبدلت الانتقادات الأولى التي اعتبرت أن الجيش المصري كان يتحرك بسرعة كبرى لإجراء الانتخابات لدرجة أن القوى السياسية الجديدة لن تحصل على الوقت الكافي لتنظيم نفسها بانتقادات أخرى مفادها أن الجيش يتحرك ببطء شديد. سارعت تونس إلى انتخاب جمعية تـأسيسية مكلّفة بصياغة دستور جديد (في أكتوبر 2011). كانت التحضيرات للانتخابات مثيرة للجدل لكن حصلت الانتخابات بسلاسة في نهاية المطاف.

ساهمت المقاربات الانتخابية الشاملة التي طُبّقت بعد تغيير النظام في ضمان حصول عمليات انتقالية سلسة، حتى عندما بدا أن القرارات بفتح ساحة اللعب السياسية تحمل بعض المجازفات في تلك الفترة. في جميع النماذج التي درسناها، لم تؤدِّ مشاركة الأحزاب المحظورة سابقاً (كما في اليونان وإسبانيا) أو الأحزاب الإسلامية (كما في أندونيسيا) إلى انتكاس عملية إرساء الديمقراطية أو زعزعة العملية الانتقالية.

أظهرت النماذج التي درسناها عدم وجود تداخل بين توقيت الانتخابات الأولى ونجاح العمليات الانتقالية الديمقراطية. إن المعطيات السياسية الكامنة والتزام القادة الانتقاليين بعملية عادلة هي أكثر أهمية في رسم مسار العملية الانتقالية. في بعض الظروف، قد تُهدر التحضيرات التقنية اللازمة للانتخابات الكثير من الوقت، ولا سيما إذا كان النظام القائم يفتقر إلى دوائر مقسّمة أو إذا كان يحدد من يحق له التصويت. لكن بقدر ما تكون الانتخابات الأولى مهمة لإحداث تغيير حقيقي، لا تعني الانتخابات الشائبة بالضرورة أن عملية إرساء الديمقراطية محكومة بالفشل. في غانا مثلاً، لم تمنع الانتخابات غير الحرة وغير العادلة في عام 1992 (بعد بدء العملية الانتقالية في عام 1991) إرساء الديمقراطية بشكل تدريجي في المرحلة اللاحقة ثم إجراء انتخابات حرة وعادلة.

صياغة دستور جديد

ثمة خيار سياسي حاسم آخر يتعلق بكيفية صياغة دستور جديد وتبنّيه. بعد عام على الثورة المصرية، استمر الصراع حول كيفية صياغة دستور جديد وحول دور الجيش خلال هذه العملية. في البلدان العربية التي اختبرت تغيير النظام، توفر صياغة الدستور فرصة أولية غير مسبوقة لتطوير إجماع واسع حول طبيعة الدولة وعلاقتها بالشعب.

تثبت التجارب السابقة أن صياغة دستور جديد أو تعديل دستور سابق هو أمر مهم لترسيخ أساس صلب للحكم الديمقراطي وضمان حماية الحريات المدنية وحقوق الإنسان ومعايير قيّمة أخرى. لكن لأغراض عملية وفورية أيضاً، يمكن استعمال صياغة الدستور لتعزيز نجاح إرساء الديمقراطية من خلال ترسيخ الإجماع والاحتماء من المخرّبين المحتملين مسبقاً. في إسبانيا مثلاً، استُعملت عملية صياغة الدستور كأداة لتعزيز مقاربة الإجماع التي تفيد العملية الانتقالية. في الأرجنتين، تم الاتفاق على التغييرات الدستورية لضمان التزام المخربين السياسيين المحتملين بالعملية الانتقالية.

المحاسبة على حالات الظلم السابقة

يشير الجدل الذي احتدم بعد الثورة حول المحاكمات الأولى لمبارك وابنيه وكبار المسؤولين في النظام السابق إلى أنّ القرارات السياسية المتعلقة بالمحاسبة على حالات الظلم السابقة تستطيع إحداث شرخ في العملية الانتقالية. لا شك أن القرارات المتعلقة بكيفية التعامل مع ملف المحاسبة ستطرح اختبارات سياسية مهمة أمام القيادة المصرية واختبارات مؤسساتية مهمة أمام القضاء المصري.

تماماً مثل مصر، سارعت تونس إلى محاكمة قائدها السابق وأفراد عائلته وعدد من المسؤولين الآخرين. كانت تلك المحاكمات، في مراحلها الأولى على الأقل، تشير إلى غياب النظام والتماسك في الفترة الأولى من المرحلة الانتقالية وقد أدت إخفاقاتها إلى تعزيز نظرة التونسيين السيئة أصلاً تجاه سلطتهم القضائية. تواجه تونس أيضاً مشكلة استئصال الحزب الحاكم السابق بالكامل بعد أن كان في الأساس دولة الحزب الواحد. لكن سيؤدي تطهير النظام من الحزب السابق إلى حرمان تونس من المسؤولين الخبراء في القطاع العام وإقصاء شريحة واسعة من الشعب من الحياة العامة.

خلال العمليات الانتقالية السابقة حيث كانت المطالب الشعبية بالمحاسبة مرتفعة واعتُبرت التكاليف السياسية منخفضة أو برز مكسب سياسي محتمل، غالباً ما كانت الحكومات تتخذ تدابير لمحاسبة المسؤولين في النظام السابق على الانتهاكات المرتكبة. شملت تلك التدابير (يُشار إليها في أغلب الأحيان بعبارة «العدالة الانتقالية») المحاكمات، وحملات التطهير، والإصلاحات، والإفصاح عن الحقيقة أو التسجيل التاريخي. يُقال إن تلك التدابير تساهم في عقد المصالحة مع أن هذا المفهوم شائب وتقلّ الأدلة على أنّ تلك التدابير تترافق مع آثار تصالحية. في بعض الظروف، قد تتعرض البلدان لضغوط خارجية كي تطبق مبدأ المحاسبة.

تعكس الطريقة التي يتعامل فيها النظام مع ملف المحاسبة بعد حقبة الاستبداد طبيعة العملية الانتقالية. أنتجت طبيعة العملية الانتقالية الإسبانية التي تم التفاوض عليها مثلاً قراراً بالإجماع يقضي بالامتناع عن فتح ملفات الماضي. لكن انعكس تجاوز الماضي والفوضى الأولية التي طبعت العملية الانتقالية البرتغالية في عملية المحاسبة الطموحة والتعسفية أحياناً، وقد شملت تلك العملية قرارات بالطرد من البلد وإطلاق المحاكمات وحملات تطهير واسعة. عندما دخلت العملية الانتقالية البرتغالية في مرحلة أكثر استقراراً، أصبحت المصالحة المقاربة الرسمية الطاغية. في الفيليبين، يشير غياب جهود المحاسبة على الانتهاكات خلال حقبة ماركوس إلى سطحية التغيير في الحياة السياسية. بقي الموالون السابقون لماركوس في المعترك السياسي، وقد تولى بعضهم أعلى المناصب، وسرعان ما فازت زوجته وابنه بالانتخابات.

في بعض بلدان أميركا اللاتينية، كانت المحاسبة غائبة في البداية بسبب المخاوف من أن يؤدي كشف الجرائم المرتكبة تحت حكم الأنظمة العسكرية إلى زعزعة وتخريب العمليات الانتقالية التي تمهّد للديمقراطية. في معظم دول أوروبا الوسطى والشرقية، لم تُبذَل جهود كثيرة لمحاسبة المسؤولين الشيوعيين السابقين على انتهاكاتهم خلال عهدهم في السلطة. نادراً ما يتم اختبار الخطر الذي تطرحه المحاسبة على الاستقرار لأن الحذر يكون سيد الموقف أو يمكن أن تغيب الإرادة السياسية إذا أصبح ذلك الخطر مصدر قلق فعلي. لكنّ العدالة الانتقالية المؤجلة أو المفقودة لا تُضعف العمليات الانتقالية الديمقراطية. بل كانت العمليات الانتقالية الأكثر نجاحاً من أكثر المراحل انضباطاً في هذا المجال.

بسبب قلة الحالات التي تدرس المخاطر وتثبت صحتها، يصعب تقييم حقيقة الخطر المطروح. لكن في حالات مثل الأرجنتين وتشيلي، تبدو المخاوف مبررة: كانت الحكومات العسكرية مسؤولة عن الانتهاكات وكان التزام الجيش بإرساء الديمقراطية أمراً حاسماً في هذه العمليات الانتقالية التي بدأت من المراتب العليا، وكانت جماعات ضمن الجيوش تملك قدرة تخريب مسار تلك العمليات. بالتالي، يكون تأخير المحاسبة مضموناً عندما تملك الأطراف المستهدفة ومناصروها مصلحة في منع العملية الانتقالية والقدرة على كبحها. بقيت المحاسبة مسألة تهمّ الرأي العام في الأرجنتين وتشيلي. بعد عقود عدة، وتزامناً مع ترسيخ الديمقراطية، برزت مساعي إلى إجراء محاكمات وتطبيق تدابير أخرى.

في مصر، كان الجيش ركيزة النظام الأساسية، لكن كان المجتمع مدنياً في الظاهر ولم تكن الانتهاكات التي تهم الرأي العام مرتبطة بأفعال الجيش مباشرةً. صحيح أن التزام الجيش بالعملية الانتقالية الديمقراطية هو عامل حاسم في مصر، لكن قد لا تطرح الجهود الرامية إلى محاسبة مبارك وغيره أي مخاطر مهمة طالما لا تتسع دائرة المحاسبة أكثر من اللزوم. تبدو إيجابيات هذا التأخير أقل إقناعاً مما كانت عليه في الأرجنتين وتشيلي. ونظراً إلى الطبيعة الثورية التي تطبع تغيير الأنظمة في مصر وتونس معاً، يمكن أن تحقق القوى السياسية الجديدة المكاسب من خلال ادعاء تلبية المطالب العامة بالمحاسبة.

إدارة مشاكل الدولة والتماسك الاجتماعي

نشأ الصراع الطائفي بين المسلمين والأقباط في مصر وأصبح خطراً أساسياً يهدد الاستقرار في بداية الثورة. اندلعت اشتباكات عدة وأدت إلى تدمير الكنائس وقتل الناس وزيادة الانقسام بين الطائفتين. في تونس، تتعلق مشكلة غياب التماسك في الأساس بالدائرة السياسية حيث تتنافس الآراء التي يطرحها الإسلاميون المعتدلون والعلمانيون بشأن شكل الحكم في ظل بيئة أكثر انفتاحاً بعد الثورة. تتعلق مشكلة أخرى بمعالجة اللامساواة القائمة بين المناطق داخل البلد والمناطق الساحلية الأكثر رخاءً والنافذة سياسياً. لا شك أن معالجة اللامساواة بين المناطق سيساهم في استقرار العملية الانتقالية وتنفيذ وعود الثورة.

تشير التجارب في أماكن أخرى من العالم إلى أن التهديد الذي تطرحه مشاكل الدولة والتماسك الاجتماعي على إرساء الديمقراطية لا تنجم عن مشاكل معينة بل عن طريقة رد الحكومات على تلك المشاكل. تقوم الانقسامات الطائفية والإثنية والمطامع الشخصية وحركات التمرد ومخاطر أخرى تهدد سيادة الوطن باختبار قدرة النظام والتزامه بالرد بأساليب تتناسب مع صناعة القرار بطريقة ديمقراطية، فضلاً عن فرض السيطرة المدنية على المؤسسات الأمنية، واحترام حقوق الإنسان، وتطبيق معايير أخرى مرتبطة بالديمقراطية. لكن بدل الالتزام بالممارسات الديمقراطية، قد تؤدي الردود على مشاكل التماسك الاجتماعي إلى تعزيز نقاط ضعف الديمقراطية أو تسليط الضوء عليها.

تقدم أندونيسا مثالاً إيجابياً عن كيفية إدارة هذه المشاكل. واجه النظام هناك حركات تمرد انفصالية، وحصلت أعمال عنف ضد الصينيين الإثنيين الميسورين نسبياً، واندلعت أعمال العنف أيضاً بين الطائفتين الإسلامية والمسيحية وقد استغلت المنظمات الإسلامية المتشددة هذا الوضع لاحقاً لتعبئة مناصريها. رد النظام على ما يحصل عبر خليط من التفاوض ونشر الجيش وعناصر الشرطة في مناطق الصراع. كما أنه لعب دور الوساطة لعقد اتفاقات بين المسلمين والمسيحيين وتوصل إلى اتفاق مع حركة آتشيه الانفصالية (بعد التسونامي في عام 2004)، ما أدى إلى منح المحافظة استقلالية مهمة.

في المقابل، يشير النموذج التركي إلى أن ردود الحكومة على مشاكل التماسك الاجتماعي يمكن أن يُضعف الديمقراطية أو يعزز نقاط ضعفها. ردت الحكومة التركية على النزعة القومية الكردية عبر استعمال العنف وتأجيج الصراع السياسي، فضلاً عن اتخاذ تدابير قمعية موجهة ضد فئة من شعبها ورفض الاستقلالية الثقافية والسياسية في المناطق الكردية.

تماماً مثل تونس ومصر بدرجة معينة، تفتقر تركيا أيضاً إلى رؤية مشتركة عن شكل الدولة وطريقة حل الانقسام الاجتماعي المترسخ. لا يزال البلد منقسماً بين المواطنين المنتمين إلى الطبقة الوسطى على الساحل الغربي (هم يدعمون مفهوم الدولة العلمانية)، وغالبيات واسعة في المحافظات الوسطى والشرقية، والطبقة الوسطى الدنيا في المدن، وهي تدعم السياسات المحافظة اجتماعياً كتلك التي يفضلها حزب العدالة والتنمية. أدت عملية إرساء الديمقراطية إلى تسليط الضوء على هذا الانقسام في السياسات من خلال تعزيز قوة الأحزاب التي تعكس وجهة نظر الغالبية كي تفرض نفوذاً جديداً. لحل مشكلة تركيا، لا بد من متابعة الجهود الرامية إلى إيجاد طرق للتوفيق بين المصالح المتباعدة. تشير هذه المشكلة إلى أن الصعوبة التي قد تواجهها الدول العربية لحل مشاكل مماثلة قد تؤدي إلى إبطاء العمليات الانتقالية. كذلك، قد يطرح غياب الإجماع حول طبيعة الدولة عائقاً أمام المفاوضات الدستورية، وإصلاح القوانين، وإنشاء بنى حكم جديد، وتحديد الأولويات السياسية.

مواجهة المشاكل الاقتصادية

كانت المشاكل الاقتصادية، ولا سيما انتشار مظاهر اللامساواة، أحد دوافع الثورة في مصر. كانت شرعية النظام ترتكز على تعاقد اجتماعي شمل توظيف أعداد مفرطة في الدولة، وفرض الدعم على الغذاء، والإنفاق على الرعاية الاجتماعية. على المدى القصير، أدت الثورة إلى تفاقم التحديات التي تواجهها مصر، ما عزز الحاجة إلى إدارة تطلعات الشعب الذي يريد تحسين الوضع الاقتصادي. في المقابل، كانت تونس تُعتبر نموذجاً للإصلاح الاقتصادي في المنطقة خلال عهد النظام السابق وقد شهدت نمواً اقتصادياً مبهراً. لكن كان هذا الأداء يخفي مشاكل جدية مثل ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب المتعلِّم في الجامعات، ووجود فرق شاسع في مستوى المعيشة بين المناطق، وتنامي المديونية الشخصية في أوساط الطبقة الوسطى. يتوقع التونسيون أن يعالج القادة الجدد هذه المشاكل الصعبة.

في بلدان عدة شهدت عمليات انتقالية سياسية، لعب تدهور الظروف الاقتصادية وتزايد الاستياء العام نتيجةً لذلك دوراً أساسياً في تسريع العملية الانتقالية. تشمل تلك الدول بلدان أوروبا الشرقية حيث أدى ضعف الأداء الاقتصادي إلى إضعاف شرعية الأنظمة الاستبدادية الهشة أصلاً. في أندونيسيا، أدت مصاعب اقتصادية حادة نجمت عن الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997 إلى نشوء اضطرابات شعبية، ما ساهم في إسقاط سوهارتو. كذلك، واجهت دول عدة في إفريقيا جنوب الصحراء مصاعب اقتصادية في بداية التسعينات، ما أدى إلى نشوب احتجاجات شعبية وتغيير بعض الأنظمة.

لكن غداة تغيير الأنظمة، لم يؤدِّ الفشل في تحسين مستوى المعيشة إلى فشل إرساء الديمقراطية. تبين أن أزمات الركود تسبب انقلابات ديمقراطية في البلدان الأكثر فقراً، لكن يختلف الوضع عند تجنب الأزمة والفشل في تحقيق التطلعات الشعبية. واجهت منغوليا مصاعب اقتصادية هائلة خلال ما اعتُبر عملية انتقالية ناجحة. واجهت إسبانيا من جهتها تدهوراً اقتصادياً حاداً بعد تغيير النظام، لكن حصدت عملية إرساء الديمقراطية دعماً شعبياً قوياً. في الأرجنتين، كان يجب أن تتبنى الحكومة المدنية الجديدة برنامج تقشف لكبح تدهور الوضع الاقتصادي في زمن تغيير النظام. أدى رد فعل الشعب القوي إلى استقالة الرئيس في مرحلة مبكرة، لكنه لم يوقف مسار إرساء الديمقراطية. لكن في أماكن أخرى من أميركا اللاتينية، أدى الاستياء بسبب اللامساواة الاقتصادية المزمنة إلى وصول حركات شعبية شبه استبدادية إلى السلطة (في فنزويلا وبوليفيا والإكوادور). لكن عموماً، تشير هذه التجارب إلى أن المشاكل الاقتصادية، مهما كانت مزعجة بالنسبة إلى قادة الأنظمة، لا تحدد مسار إرساء الديمقراطية.

بالتالي، قد يساعد تحسين الاقتصاد على ترسيخ الديمقراطية. تشير دراسات متعددة إلى إمكان تطبيق الديمقراطية مهما كان مستوى التنمية الاقتصادية، لكنّ ارتفاع مستويات التنمية هو الذي يضمن صمود الديمقراطية. لا تزال أسباب هذا الأمر مثيرة للجدل. مع ذلك، يبدو أن تحسين الاقتصاد وإرساء الديمقراطية يسيران على خط واحد أحياناً. تعزز اقتصاد أندونيسيا مثلاً بعد سقوط سوهارتو، ما ساهم في تفعيل العملية الانتقالية الديمقراطية.

قد تكون العمليات الانتقالية في العالم العربي هشة وضعيفة أمام الضغوط الاقتصادية أكثر مما كانت عليه في حالات سابقة. لا بد من مقاربة الأثر المحتمل للعوامل الاقتصادية وفق معطيات أخرى. نظراً إلى طبيعة البيئة الإقليمية التي تشمل مقاومة قوية لنزعة إرساء الديمقراطية بين قادة العرب وغياب كيان حيوي مثل الاتحاد الأوروبي، تبدو الظروف أقل إيجابية لتنفيذ عملية انتقالية ناجحة مقارنةً بالتجارب الأوروبية أو تجارب أميركا اللاتينية التي بدأت من المراتب العليا. وبما أن النزعة الإسلامية تُعتبر في العالم العربي خصماً إيديولوجياً للديمقراطية الليبرالية، تتعلق المسألة الأساسية بمعرفة ما إذا كانت المشاكل الاقتصادية أو خيبات الأمل الأخرى أو ثمار الثورات ستعزز جاذبية الخيار الإسلامي البديل. سيتوقف الوضع على النماذج التي تقدّمها مصر وتونس، علماً أن الأحزاب الإسلامية فازت في الانتخابات هناك لكن يحرص معظم القادة حتى الآن على التعهد باتباع مسار معتدل.

 الردّ على البيئة الخارجية 4

ماذا بعد ثورات الربيع العربي؟ هل ستزدهر الديمقراطية في البلدان العربية وهل تظهر كنتيجة لها قوى متطرفة ونزاعات طائفية؟ تحاول الدراسة التالية الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها.

هذه الدراسة هي نتاج برنامج أبحاث فردية من تنفيذ مؤسسة «راند». تحصل هذه الأبحاث على دعم جزئي من جهات مانحة ومن أحكام الأبحاث والتنمية المستقلة بموجب العقود التي أبرمتها مؤسسة «راند» لإدارة مراكز الأبحاث والتنمية التابعة لها والمموّلة من وزارة الدفاع الأميركية. «الجريدة» تنشر الدراسة في أربع حلقات، في الرابعة منها نتابع الدروس التي تستفيد منها مصر وتونس.

بالنسبة إلى مصر وتونس، قادت المعطيات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية الثورات، فقد وفّرت الثورة التونسية الشرارة التي أطلقت أحداث مصر من خلال إثبات أن النظام القوي والمترسخ ظاهرياً يكون هشاً فعلياً.

يبدو أن المصلحة الدولية القوية (تحديداً المصلحة الأميركية) في استقرار مصر نظراً إلى موقع البلد الاستراتيجي، وفي سياستها الخارجية تجاه إسرائيل، وفي كيفية ممارسة نفوذها في أنحاء العالم العربي، تتعارض مع عملية إرساء الديمقراطية ومع الضغوط الشعبية التي تترافق معها. لكن تبقى درجة الضغط التي يجب أن تمارسها الولايات المتحدة للتأثير على القرارات والأحداث في مصر مسألة قابلة للتأويل. يبدو أن تونس، باعتبارها بلداً صغيراً وأقل أهمية على المستوى الجيوسياسي، ستتجنب على الأرجح التدقيق الخارجي المكثف والضغوط الشديدة.

كما حصل في مصر وتونس، شكلت المعطيات الداخلية دوافع أساسية لتغيير الأنظمة في معظم البلدان التي شهدت عمليات انتقالية سياسية، حتى لو وفرت الأحداث الخارجية الشرارة الأولى. تُعتبر دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق من الاستثناءات الكبرى في هذا المجال، فعندما أصبح احتمال التغيير واضحاً وحتمياً (حين أظهر غورباشيف استعداده لتحمّل قيام حكومة غير شيوعية في بولندا)، أصبحت الأنظمة كافة هشة.

عمليات انتقالية

يساهم وجود دول مجاورة تخوض تغييرات سياسية خلال الفترة نفسها في إطلاق عمليات انتقالية، لكن لا يؤدي هذا الوضع بالضرورة إلى ترسيخ الديمقراطية. ثمة عوامل خارجية أخرى تبرز وترتبط ببعض الحالات.

حين انطلقت عمليات انتقالية في جنوب أوروبا وشرقها، شكّل احتمال الاندماج ضمن مؤسسات أوروبية قوة فاعلة ساهمت في صمود التغييرات، كذلك وفّرت عمليات الاندماج حوافز لازمة لإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية هائلة وتوفير قنوات لتقديم مساعدات عملية، فضلاً عن تحديد مقاييس لتقييم التطور نحو الديمقراطية. حتى في تركيا التي لم تنتسب إلى الاتحاد الأوروبي، ساهمت الرغبة في كسب حق الانتساب، في إرساء الديمقراطية.

في إفريقيا جنوب الصحراء، لم تؤدِّ موجة العمليات الانتقالية التي تمهّد لانتخابات متعددة الأحزاب في بداية التسعينيات إلى إرساء أنظمة ديمقراطية في معظم الدول التي طاولتها تلك الموجة. بعد الحرب الباردة، شعرت الجهات المانحة الغربية بحرية أكبر لفرض الضغوط من أجل إرساء الديمقراطية في المنطقة، إلا أن هذا الأمر لم يكن كافياً للتغلب على العوامل السياسية الداخلية التعويضية.

في أميركا اللاتينية، أصبحت الديمقراطية معيارية في المنطقة خلال الثمانينيات والتسعينيات، وذلك بفضل آليات منظمة الدول الأميركية، إنما تفتقر هذه المنظمة إلى القدرة على تفعيل تلك المعايير أو توفير دوافع ملموسة للالتزام بها.

سرعان ما أدت الضغوط من دول مجاورة إلى إخماد محاولة انقلاب في الباراغواي (1996)، ويشير التآكل الديمقراطي الأحدث في فنزويلا وبوليفيا والإكوادور إلى أن المعايير السائدة لا تتمتع بالقوة نفسها للتحكم بالأنماط الديمقراطية كما فعل الاندماج السياسي والاقتصادي في أوروبا.

صحيح أن الحضور في محيط ديمقراطي قد يساعد الدول على المضي قدماً في مساعيها الديمقراطية، فيما الحضور في محيط غير ديمقراطي لا يهدد التغيير السياسي بالضرورة.

في آسيا، تتنوع طبيعة الأنظمة، فثمة بلدان بقيت ديمقراطية خلال فترات طويلة حتى من دون توافر أي معايير ديمقراطية إقليمية أو بنى تكاملية، كذلك شهدت الفيليبين مثلاً فترات طويلة من الديمقراطية، وأصبحت كوريا الجنوبية نظاماً ديمقراطياً منذ العام 1987. كذلك، نجحت منغوليا في إرساء الديمقراطية وسط محيط غير ديمقراطي. بالتالي، لا يتوقف نجاح إرساء الديمقراطية في أي بلد عربي على نجاح الربيع العربي عموماً.

دروس أعمق عن إرساء الديمقراطية في العالم العربي

بعد تفصيل تجربتَي مصر وتونس، نقدم دروساً واسعة مستخلصة من تجارب انتقالية سابقة، كذلك نقيّم بشكل موجز نتائج استنتاجاتنا عن العمليات الانتقالية الحديثة أو تلك التي تلوح في الأفق في بداية 2012.

5دروس من تجارب سابقة

تشير تجارب العمليات الانتقالية السابقة إلى حصول تبدل مهمّ وفق أبعاد متعددة. لذا علينا تذكر أن بعض العوامل المعينة التي تساهم في إرساء الديمقراطية أو تؤدي إلى إضعافها، نادراً ما تحدد النتائج النهائية.

كان التزام القيادة والنخبة الحاكمة عموماً بإحداث التغيير عاملاً حاسماً لإرساء الديمقراطية، وقد تكون القرارات التي يتخذها المسؤولون في السلطة عناصر أساسية لإرساء الديمقراطية أيضاً. يمكن أن تزداد تلك القرارات سهولة أو صعوبة بحسب الظروف الداخلية والضغوط الخارجية أو المساعدات المقدّمة، من خلال التأثير على الدوافع أو على نطاق الخيارات المتوافرة.

وفّر التكامل الأوروبي حوافز استثنائية ودعماً أساسياً لإرساء الديمقراطية بنجاح في جنوب أوروبا وشرقها، كانت عملية الانتساب إلى منظمة حلف الأطلسي مفيدة في هذا الصدد أيضاً. من المستبعد أن تحصل أي منطقة أخرى في المستقبل المنظور على إيجابيات مماثلة لترسيخ الديمقراطية، ومن المتوقع أن تتفوق الاعتبارات الداخلية بسهولة على أهمية المساعدات والضغوط الواقعية في دول العالم العربي.

شكلت القرارات المتعلقة بإحداث تغيير متوزان بفضل عناصر تضمن الاستمرارية (وفي هذه الحالة تحديد مدة استمرارية الاندماج) عوامل حاسمة في رسم مسار العمليات الانتقالية. في تشيلي، تقبّل قادة المعارضة درجة مهمة من الاستمرارية خلال عملية انتقالية طويلة وتدريجية وصولاً إلى الديمقراطية، ما ضمن حصول عملية سلمية وناجحة ولو بوتيرة بطيئة.

في إسبانيا، اختار الإصلاحيون في النظام استعمال البنى القانونية والدستورية القائمة لتغيير طبيعة النظام السياسي، بهدف نزع فتيل المعارضة من مناصري النظام القديم وتجنب الفراغ القانوني والسياسي. في حالات أخرى، تحديداً في أوروبا الشرقية، تشوهت سمعة النظام السابق لدرجة أن دمج عناصر الاستمرارية السياسية لم يكن خياراً وارداً، مع أن مؤسسات النظام القديم استُعملت لإضفاء طابع رسمي على الخطوات الأولى التي تمهّد لإرساء الديمقراطية في بعض الحالات.

تطرح دراساتنا نتائج توصّل إليها الباحثون، وتؤكد عدم وجود سقف معين للتنمية الاقتصادية من أجل إرساء الديمقراطية. بما أن إمكانات تطبيق السياسات ومرونة مؤسسات الدولة تتعلق عموماً بمستوى التنمية الاقتصادية (بشكل عام، تضمّ الدول الأكثر فقراً مؤسسات أكثر ضعفاً)، يبدو أن إرساء الديمقراطية ممكن حتى لو كانت مستويات التطور المؤسساتي منخفضة.

ستواجه الدول العربية التي تشهد عمليات انتقالية من أنظمة لها طابع شخصي تحديات في بناء الدولة، وستتطلّب الدول التي تشهد عمليات انتقالية من أنظمة استبدادية ومؤسساتية قوية نوعاً من الإصلاح المؤسساتي العميق، كالإصلاح الذي احتاجت إليه أوروبا الشرقية، لكن لن تنهار الديمقراطية بالضرورة بسبب هذه التحديات.

التداعيات في ليبيا واليمن وسورية

كان النظامان في تونس ومصر من أول الأنظمة التي سقطت خلال الربيع العربي في الأشهر الأولى من 2011، لكن سرعان ما حذا الآخرون حذوهما أو تابعوا مواجهة الضغوط لإحداث التغيير. نتيجة الاضطرابات السائدة في المنطقة والاعتراف المستجدّ بهشاشة أنظمتها، يُطرَح سؤال جوهري عما إذا كانت الدروس المستخلصة من العمليات الانتقالية الديمقراطية السابقة والمطبقة في مصر وتونس تنطبق على هذه الحالات الأخرى أيضاً.

على عكس مصر وتونس، تواجه ليبيا واليمن وسورية أيضاً (إذا سقط نظام الأسد في نهاية المطاف) عبئاً مزدوجاً يتمثل بإدارة العملية الانتقالية، تزامناً مع التعافي من الصراع العنيف والمطوّل (في اليمن، استمر الصراع مع العناصر الانفصالية في منطقة الجنوب المضطربة منذ بداية 2012).

لحلّ هذه المشاكل، لا بد من إطلاق عملية إعادة إعمار فعلية، وإخماد العداوات الطائفية والمناطقية وغيرها من الخصومات بين الجماعات الداخلية نتيجة احتدام الصراع، ونزع أسلحة الميليشيات والعناصر المسلحة الأخرى.

ستواجه هذه البلدان التحديات نفسها في مجال الاستقرار وبناء الأوطان، كتلك التي واجهتها دول أخرى بعد انتهاء الصراعات فيها في العقود الأخيرة، مثل إصلاح القطاع الأمني وإعادة دمج المقاتلين السابقين وإصلاح مؤسسات الدولة. ستحتاج ليبيا تحديداً إلى بناء إطار الحكم ومؤسسات المجتمع المدني من الصفر.

مقارنةً بالدول المجاورة، تواجه ليبيا مشكلة أصعب تتمثل بضعف التماسك الداخلي نظراً إلى الانقسامات القبلية والمناطقية السائدة داخل البلد وغياب مؤسسات الدولة التي تشكّل في أغلب الأحيان العامل الذي يعزز تماسك الدول التي تستفحل فيها الانقسامات الداخلية.

قد تكون ليبيا حالة فريدة من نوعها كونها تضم اقتصاداً متوسط الدخل مع أن مستوى التطور المؤسساتي فيها يساوي المستوى المسجل في أي دولة فاشلة. في هذا الصدد، قد تخوض العملية الانتقالية في ليبيا اختباراً أصعب من الاختبار الذي ستواجهه مصر أو تونس. سيكون غياب التماسك أمراً حتمياً أيضاً على مستوى الآراء المتنافسة في ليبيا: ستحصل مواجهة بين الأفكار الإسلامية والأفكار العلمانية وبين السلطة المركزية والسلطة الفدرالية.

لا شك في أن التوتر السائد بين سكان الشرق والغرب وبين العائدين من المنفى والمسؤولين الذين بقوا تحت حكم القذافي سيعزز هذه التصدعات. من الواضح أن الميليشيات المرتبطة بمختلف القبائل والسكان المحليين تزيد من خطورة تلك التصدعات أيضاً.

كذلك، عادت الانقسامات الإثنية بين البربر والعرب إلى الواجهة، ويعتبر غياب التماسك في ليبيا أكثر خطورة من أي بلد آخر درسنا معطياته. تتابع تركيا مواجهة انقسامات إثنية (بين الأتراك والأكراد) وتتنافس الآراء فيها حول دور الإسلام في السياسة، لكن تمت إدارة هذه المشكلة هناك بفضل وجود قوة مؤسساتية أقوى من تلك الموجودة في ليبيا.

تواجه ليبيا أيضاً تحدي بناء دولة ديمقراطية في بلد حرص النظام السابق بشكل منهجي على عدم تسييسه. أدى غياب انتخابات تنافسية، وغياب الأحزاب السياسية، وفرض القوانين المشددة في الحياة المدنية، إلى حرمان الليبيين من أي فرصة لخوض مشاركة سياسية حقيقية.

كذلك، برزت معطيات البيئة الخارجية في ثورة ليبيا أكثر مما حصل في تونس ومصر حيث انطلقت الثورات من الداخل. توقفت قدرة المعارضة الليبية على إسقاط القذافي على تدخل حلف الأطلسي. لم يتضح بعد ما إذا كانت المساعدات الخارجية ضخّمت ظاهرياً حجم الدعم الذي حصلت عليه قوى المعارضة حينها، تزامناً مع التخلي عن دعم القذافي من جانب الأشخاص الذين استفادوا من النظام وكانوا ليخسروا الكثير في ليبيا الجديدة.

يتبين أن الجهود الرامية إلى حلّ أو السيطرة على جماعات المقاتلين التي تضامنت لتحدي قوات القذافي هي أصعب بكثير من وضع جيش مؤسساتي تحت السلطة المدنية. تختلف دوافع الميليشيات الليبية وخصائصها، فهي لا تملك أي ثكنات لتعود إليها، ولا تشغل على الأرجح أي وظائف، وربما لا تثق بالقادة السياسيين في ظل الشكوك السائدة.

اليمن مجتمع قبلي تشوبه الانقسامات الداخلية وقد تنازلت الحكومة المركزية هناك عن السلطة، لكن على عكس ليبيا، يبدو أن العملية الانتقالية الناشئة في اليمن تتشارك خصائص مهمة مع بعض تجارب إرساء الديمقراطية السابقة. في بداية 2012 تحديداً، أطلقت اليمن عملية انتقالية تم التفاوض عليها أو عقد اتفاقيات حولها، كما حدث في دول أميركا اللاتينية وفي إسبانيا أيضاً. في اليمن، تنجم طبيعة العملية الانتقالية عن تنازل الرئيس علي عبدالله صالح عن الرئاسة، وترتبط بمصير تلك القبائل والوحدات العسكرية والعاملين في القطاع العام الذين كانوا موالين للنظام. كما حدث في أميركا اللاتينية، يبدو أن تلك الدوائر الانتخابية ستحتاج إلى تغيير سلس لإرساء عملية انتقالية مستقرة.

تواجه اليمن تحدياً آخر يتمثل بواقع أنها تؤدي دور دولة توزع الموارد مع أنها لا تملك موارد كثيرة لتوزيعها. فيما تملك الدول المجاورة لليمن في مجلس التعاون الخليجي إمكانات لازمة لضمان رضوخ الشعب لها عبر توزيع مكاسب النفط.

اضطرت الحكومة اليمنية المركزية إلى الاتكال على سيادة عملتها لعقد الصفقات، وتنازلت عن سيطرتها على أجزاء واسعة من البلد مقابل الحصول على ولاء محدود في تلك المناطق. إذا أطلقت اليمن عملية انتقالية ديمقراطية حقيقية، فستطرح المعطيات السائدة في أماكن أخرى عوائق كبرى أمام ترسيخ الديمقراطية. على عكس مصر وتونس، ستحتاج اليمن إلى تعديل بنية الحكومة وتبنّي نموذج فدرالي يضمن استقلالية مناطقها مقابل تأمين الدعم لمؤسسات الدولة. في هذا المجال، يمكن أن تقدم عمليات الإصلاح الدستوري في إسبانيا والعراق وأماكن أخرى دروساً إيجابية وسلبية مفيدة.

بعض الدروس التي تفيد تونس على وجه الخصوص قد تفيد سورية أيضاً. إذا سقط نظام الأسد، سيؤدي إلى انشقاقات واسعة في صفوف الجيش السوري بخلاف قوى الأمن الداخلي التابعة للنظام، وسيكون ذلك السيناريو مشابهاً لما حصل في تونس حيث كان رفض الجيش النظامي إطلاق النار على المتظاهرين عاملاً حاسماً في تقرير مصير النظام، إنما حملة القمع السورية أكثر دموية وأطول من حملة تونس، واتسم الصراع هناك ببعد طائفي لم تشهده الثورة التونسية.

كذلك من المتوقع أن يبقى مستوى التوتر الاجتماعي عالياً بعد انتهاء الصراع. يبدو أن البعد الخارجي للصراع السوري (دعم إيران للنظام، واستضافة تركيا للمعارضة المسلحة، ودعم المملكة العربية السعودية لجماعة «الإخوان المسلمين» والقبائل السنية في الشرق) يشير إلى أن التدخل الخارجي قد يتّسع بعد تغيير النظام.

في سورية، يطرح الصراع داخل الجيش وأوساط الحكم العسكري مخاطر محتملة إذا انحاز الجيش إلى المتظاهرين. قد تبقى ثمة وحدات موالية للنظام وقد تنشق وحدات أخرى، ما يؤدي إلى نشوب قتال داخلي بين قوتين مهمتين. لكن إذا أطاح الجيش بالنظام، لا شيء يؤكد أنه سيسلّم السلطة إلى قادة مدنيين.

تاريخ سورية حافل بالانقلابات العسكرية ومن المعروف أن الأقليات هناك تعتبر أن فرض سيطرة الدولة على البلد يضمن حمايتها. بسبب هذه العوامل كلها، وبما أن أي فراغ في السلطة قد يحوّل سورية إلى ساحة حرب أهلية ومنافسة إقليمية بالوكالة، سيسهل على الجيش السوري أن يبرر بقاءه في السلطة.

تشبه سورية تونس لأن حزباً واحداً فيها يسيطر على الحياة السياسية لكن بدرجة أعلى طبعاً. يمكن اعتبار حزب البعث في سورية نسخة أكثر توتاليتارية عن التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس. إذا انتهى حكم حزب البعث، فستواجه سورية مشكلة مماثلة لتحديد كيفية استئصال تلك البنية من دون ظهور ردود فعل معارِضة، من جانب الأشخاص الذين انضموا إلى الحزب ببساطة لأنه الوحيد الناشط في البلد. في هذا المجال، من المفيد تحليل عملية اجتثاث البعث في العراق بعد 2003، لأنها تبين الجوانب السلبية والإيجابية التي تترافق مع طريقة معالجة هذا التحدي.

تداعيات السياسات المطبّقة

يمكن اعتبار الدروس الآنف ذكرها أساساً لتطوير سياسات ومقاربات دبلوماسية تعكس توقعات منطقية عن مسارات العمليات الانتقالية في الدول العربية، وتقدم خليطاً لافتاً من الحوافز والضغوط، وتطرح أفكاراً مفيدة عن التجارب الماضية. نسلط الضوء في ما يلي على تداعيات سياسات معينة انطلاقاً من الاستنتاجات السابقة وتشعباتها عموماً.

أولاً، تدعو تحليلاتنا للتجارب الانتقالية السابقة إلى توخي الحذر: من الحلول المختصرة والتوقعات المبسّطة المتعلقة بطريقة حصول التغيير السياسي في العالم العربي. تحدّت دول كثيرة التوقعات السابقة لأن إرساء الديمقراطية عملية معقدة ومتعددة الأبعاد، كما أن غياب الدروس المستخلصة البسيطة هو سبب يدعو إلى التفاؤل بالربيع العربي.

بغض النظر عن الأعباء والانتكاسات التي شهدها بعض الدول، تتجه مختلف النزاعات في العالم وفي معظم المناطق إلى توسيع هامش الديمقراطية، حتى في الأماكن التي كانت تُعتبر سابقاً غير مهيأة لذلك. على صعيد آخر، يبدو أن الغموض الذي يطبع إرساء الديمقراطية يفتح المجال أمام خيارات سياسية يتخذها اللاعبون المحليون لرسم مسار الأحداث أو التي يقوم بها اللاعبون الدوليون للتأثير على تلك الأحداث.

صحيح أن الربيع العربي يُعتبر ظاهرة موحِّدة أحياناً، لكن تشير التجارب السابقة إلى أن العمليات الانتقالية الناجمة عن أحداث خارجية تتفاعل مع المعطيات الداخلية أيضاً. بالتالي، لا بد من إعطاء المقاربات السياسية التي تمهد لإرساء الديمقراطية في الدول العربية طابعاً فردياً، لكن يجب ألا ننسى أن التصرف المبني حصراً على توجيهات الولايات المتحدة أو على مصالح خارجية أخرى، بدل الاعتماد على ظروف داخلية، سيصبح محط شكوك. يُفترض أن ينعكس الإذعان للظروف المحلية على مقاربة العدالة الانتقالية التي يجب أن تنساق في الأساس وراء مشاعر الشعب وليس وراء الجهود الرامية إلى إعطاء الأولوية لمصالح الأجندات الخارجية.

من المتوقع أن يؤثر مسار الأحداث في مصر وتونس (البلدان اللذان أطلقا الربيع العربي) على وجهات نظر الحكام الاستبداديين والمعارضين في أماكن أخرى. في بداية 2012، بدا أنّ تونس تملك أفضل فرصة لتنفيذ عملية انتقالية ديمقراطية ناجحة أكثر من أي بلد عربي آخر شهد انفتاحاً سياسياً.

صحيح أن تونس بلد صغير وغير مهم جغرافياً، لكن تستحق عمليتها الانتقالية دعماً سياسياً ومادياً قوياً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. قد يقدم النجاح هناك مثالاً مهماً وإيجابياً في منطقة غارقة في الحكم الاستبدادي، بينما قد يؤدي الفشل إلى آثار مضرّة.

يجب أن تراعي السياسات المطبّقة طبيعة إرساء الديمقراطية على المدى البعيد. في ليبيا واليمن تحديداً، من المتوقع أن تمتدّ عملية إرساء الديمقراطية، إذا حصلت، لسنوات، لذا يجب أن تتجنب الخطابات العامة الإعلان عن أنّ المجتمع الدولي يستطيع الاستعانة بأدوات للمساعدة على تسريع العمليات الانتقالية التي تمهّد لترسيخ الديمقراطية.

عند صياغة المقاربات السياسية، لا بد من الاعتراف بمحدودية التأثير الخارجي على العمليات الانتقالية فور انطلاقها. تبين أن المساعدات الخارجية ككل لا تترافق مع أثر مهمّ على إرساء الديمقراطية، باستثناء جزء صغير منها، يهدف تحديداً إلى بناء مؤسسات وعمليات ديمقراطية، يترافق على ما يبدو مع آثار مقصودة ولكنها تبقى ضئيلة عموماً. يبدو أن دعم الانتخابات والمجتمع المدني يشكل أفضل أنواع المساعدات الفاعلة. عموماً، لم تساهم المساعدات الديمقراطية في تعزيز معظم التبدلات المسجلة على مستوى الديمقراطية. يجب أن تكون المساعدات الخارجية الرامية إلى تعزيز الديمقراطية في الدول العربية التي تخوض تغييراً سياسياً مستهدفة وحذرة في آن. كذلك، يجب أن يصبح دعم الانتخابات أولوية مهمة، ليس لأنه يترافق مع آثار مقصودة أكثر من أي نوع آخر من المساعدات، بل لأنّ الانتخابات تضع العمليات الانتقالية على مسار إيجابي، تحديداً في الأماكن التي تُستكمَل فيها الانتخابات بإعادة هيكلة سياسية عن طريق الإصلاح الدستوري. قد لا تكون الانتخابات كافية لتوليد الديمقراطية ولكنها ضرورية حتماً.

تزامناً مع تحديد طبيعة إصلاحات الحكم على المدى البعيد والاعتراف بالفاعلية المحدودة التي توفرها برامج المساعدات الخارجية الهادفة إلى دعم تلك الإصلاحات، لا بد من تفعيل فرص تعزيز الإصلاح المؤسساتي وزيادة فاعلية العمليات الديمقراطية. يجب أن تشمل أولويات الإصلاح المؤسساتي بناء أو تقوية مؤسسات المحاسبة بما في ذلك السلك القضائي الفاعل والمستقل، وإنشاء إدارات انتخابية محترفة ومستقلة، وتأليف لجان برلمانية وتحديد طاقم عملها، وتأسيس أحزاب سياسية تكون ديمقراطية من الداخل وفاعلة من الخارج.

يجب أن يكون بناء المجتمع المدني أولوية مهمة أخرى لأن مؤسسات المجتمع المدني تساعد على تحريك مسار الديمقراطية، وأن تشمل هذه العملية تقديم مساعدات لا تقتصر على المنظمات المستقلة التي تنشر الديمقراطية بل تشمل وسائل الإعلام المستقلة، منظمات مكافحة الفساد، جماعات مراقبة حقوق الإنسان، المنظمات التي توفر التربية المدنية. لكن في الوقت نفسه، يجب التنبه إلى عدم إضعاف المنظمات المحلية نتيجة الاتكال على الأموال الخارجية.

من بين عمليات الإصلاح المؤسساتي التي يجب التركيز عليها، نذكر تعزيز السيطرة المدنية والديمقراطية على المؤسسات الأمنية. يمكن التأثير على هذه العمليات عبر إقامة علاقات جديدة أو مستمرة ضمن المؤسسة العسكرية، فضلاً عن تقديم المساعدة لزيادة احتراف الجيوش وهيئات الأمن الداخلي، وإنشاء ترابط استراتيجي عبر المساعدات والاتفاقيات الأمنية والتدريبات المشتركة، وتدابير أخرى مماثلة. إصلاح مؤسسات الشرطة أمر ضروري على وجه الخصوص لأن هذه المؤسسات هي هيئات أمنية تتفاعل عن قرب مع الشعب، وبالتالي ستؤثر بشدة على آراء الشعب وطريقة تقييمه لحجم التغيير الفعلي الذي أنتجته الديمقراطية.

سياسات واعدة

بما أن الخيارات التي يقوم بها القادة في الدول التي تخوض تغييراً سياسياً ستكون حاسمة لتحديد وتيرة العمليات الانتقالية ونتائجها، تكسب السياسات الواعدة التي تساعد على ترسيخ الديمقراطية أهمية إضافية. لكن في هذا المجال، تراجعت أوراق الضغط التي تملكها الولايات المتحدة في العالم العربي مقارنةً بتلك التي استفادت منها خلال العمليات الانتقالية بعد الحرب الباردة في بعض دول أميركا اللاتينية وفي أماكن مثل الفيليبين.

من المتوقع أن تجد الولايات المتحدة صعوبة في التعامل مع الوضع حين تتعثر العمليات الانتقالية (كما تفعل في العادة) في تحديد سقف أعلى للأنظمة العربية الجديدة أكثر مما فعلت مع الأنظمة السابقة.

قبل الربيع العربي، كانت الولايات المتحدة تفضل الاستقرار على الإصلاح في العالم العربي، مع أن الاستقرار تحقق عبر الإصلاح السياسي في أماكن عدة (أندونيسيا وبعض دول أميركا اللاتينية مثلاً)، لكن قد يشكك القادة العرب والرأي العام العربي بهذا التدافع لدعم الإصلاح.

قد توفر المساعدات الاقتصادية بعض النفوذ الإضافي، لكن في مصر، قد يكون حجم المساعدات الاقتصادية التي يمكن أن توفرها الولايات المتحدة صغيراً نسبياً مقارنةً بحجم اقتصاد البلد. من المعروف أن تونس ناجحة اقتصادياً، وتملك ليبيا موارد نفطية لدفع تكاليف إعادة الإعمار والتنمية، ومن المتوقع أن تشكّل المساعدات الاقتصادية أوراق ضغط فاعلة في الدول التي تعتمد على المساعدات، مع أن التجارب في إفريقيا جنوب الصحراء تشير إلى أن ذلك النفوذ لا يمكن الاتكال عليه لإنتاج الديمقراطية.

يُفترض أن يشجّع المجتمع الدولي، عبر تدابير متعددة الجوانب أو عن طريق منظمات دولية، على إنشاء بنى لتعزيز الديمقراطية ودعمها في العالم العربي، مثل تأسيس منظمة إقليمية للديمقراطيات من شأنها كسب الدعم وتسهيل تسليم المساعدات الخاصة ببناء المؤسسات، وتعزيز إرساء الديمقراطية وضمان الإقناع الأخلاقي.

يمكن استخلاص طريقة تحديد المعايير وعناصر المساعدات التقنية من إطار التكامل الأوروبي بأبسط الطرق. قد يكون نقل المساعدات الغربية عبر منظمة إقليمية أكثر فاعلية سياسياً من المساعدات الثنائية في بعض الدول.

يمكن أن يتعزز إرساء الديمقراطية بشكل متبادل، ويمكن التشجيع على ذلك وسط جماعات المجتمع المدني في أنحاء العالم العربي وفي أوساط مؤسسات الدولة أيضاً.

في هذا الصدد، قد ترتكز عملية إرساء الديمقراطية على الخبرة المشتركة التي تتمتع بها بعض الشعوب في العالم العربي للكشف عن هشاشة الأنظمة الاستبدادية، فضلاً عن طرح احتمالات جديدة والحصول على الحوافز اللازمة لرسم مستقبل جديد.

الجريدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى