صبحي حديديصفحات سورية

كيسنجر: التنظير لجرائم الحرب في فلسطين… أيضا!/ صبحي حديدي

 

 

الـ CodePink منظمة مجتمع مدني أمريكية، تقودها نساء في الغالب، وتهدف إلى إنهاء حروب الولايات المتحدة، وتدعم السلام وحقوق الإنسان، وتسعى إلى إعادة تحويل أموال الضرائب إلى الرعاية الصحية والتعليم والأشغال وبرامج التنمية الإنسانية الأخرى. وقبل أيام كانت للمنظمة صولة دراماتيكية ضدّ هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، خلال مشاركته في جلسة اجتماع أمام لجنة الشؤون العسكرية في مجلس الشيوخ الأمريكي؛ إذْ تقدمت منه امرأة تحمل الأصفاد، طالبة اعتقال «مجرم الحرب في فييتنام ولاوس وكمبوديا». طريف أنّ شريك كيسنجر في الجلسة هذه، وزير الخارجية الأسبق جورج شولتز، سارع بنفسه إلى حماية كيسنجر (91 سنة)؛ وكادت الشريكة الثالثة، مادلين ألبرايت، أوّل امرأة تشغل منصب وزيرة الخارجية في تاريخ الولايات المتحدة، أن تهبّ إلى النجدة بدورها!

ولقد فات منظمة الـ CodePink أنّ كيسنجر مجرم حرب في أماكن أخرى عديدة، قد تبدأ بالفعل من فييتنام، ولكنها تمرّ ببلدان أمريكا اللاتينية، ولا تنتهي عند فلسطين عموماً، وقطاع غزّة خصوصاً. التاريخ، حسب بروفيسور التاريخ كيسنجر، لا يكرّر نفسه بدقّة؛ ولكن قد يكرّر نفسه بدقّة أقلّ ربما، أو على النحو الذي عبّر عنه كارل ماركس ذات يوم في صياغة لامعة خالدة: مرّة في صيغة مأساة، والأخرى في صيغة مهزلة! الأرجح أنها، في ذلك، مهزلة سوداء دامية تمنح الجحافل الهمجية الحديثة ترخيصاً مطلقاً في انتهاك الأعراف والقوانين والحقوق، وفي تطبيق أقذر أنواع الأسلحة وأشدّها فتكاً بمدنيين عزّل أبرياء. وليس من فارق كبير في أن يُصنّف تأويل احتلال العراق بالأمس، مثل تغطية البربرية الإسرائيلية في غزّة اليوم، أو ترخيص جرائم نظام بشار الأسد بحقّ الشعب السوري بذريعة «الواقعية السياسية»؛ في خانات مواقف كيسنجر المهزلة، أو كيسنجر المأساة.

هنا، من جديد، لائحة مختصرة:

ـ موقف نصيحة الدولة العبرية بسحق الإنتفاضة «على نحو وحشيّ وشامل وخاطف»، وهذه كلمات كيسنجر الحرفية التي سرّبها عامداً جوليوس بيرمان، الرئيس الأسبق للمنظمات اليهودية الأمريكية؛

ـ الموقف «التشريحي» المأثور من الاحتلال العراقي للكويت، ودعوة بوش الأب إلى تنفيذ ضربات «جراحية» تصيب العمق الحضاري والاجتماعي والاقتصادي للعراق (البلد والشعب، قبل النظام وآلته العسكرية والسياسية)؛

ـ الدعوة العلنية، المأثورة تماماً، بدورها، إلى «نزع أسنان العراق دون تدمير قدرته على مقاومة أي غزو خارجي من جانب جيرانه المتلهفين على ذلك»؛

ـ توبيخ فريق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، لأنّ ما تعاقدوا عليه مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في أوسلو ثمّ في البيت الأبيض، ليس سوى أوالية» Mechanism متحرّكة، ستفضي عاجلاً أم آجلاً إلى دولة فلسطينية (وهي التي يرفضها كيفما جاءت، وأينما قامت)…

وبالأمس، في تحليل المشهد الكوني على أعتاب ولاية الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، نشر كيسنجر مقالة بعنوان «الفرصة من أجل نظام دولي جديد»، اعتبر فيها أنّ «الطبيعة غير المستقرّة للنظام الدولي» هي ذاتها التي «تستولد فرصة فريدة للدبلوماسية الإبداعية»، في لائحة طويلة من الملفات: الانهيار المالي، الاقتصاد العالمي، «الإرهاب الجهادي»، العلاقات الأطلسية، العلاقات الأمريكية ـ الصينية، ونزعة العمل الأحادي. وختم كيسنجر هكذا: «إنّ تعقيد العالم المنبثق يقتضي من أمريكا مقاربة تاريخية أكبر من مجرّد الإلحاح على أنّ لكلّ مشكلة حلا نهائيا متجسدا في برامج ضمن آجال زمنية محددة، لا تتجه دائماً نحو سيرورتنا السياسية. ولا يمكن لنظام عالمي أن يدوم إلا إذا تشاركت أطرافه ليس في بنائه فحسب، بل في حمايته أيضاً. وبهذه الطريقة تملك أمريكا وشركاؤها فرصة فريدة لتحويل برهة أزمة، إلى رؤية أمل».

هل هنالك «أمل» ما، اليوم، في ملفّ المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وعلى ضوء ما تشهده الأراضي المحتلة من سياسات استيطان وتهويد وتطهير عرقي، وتباشير انتفاضة ثالثة؟ كلا، لا أمل؛ بل إنّ حكيم الدبلوماسية الأمريكية قرر سحب المفردة ذاتها من التداول! في حفل حاشد، أقامه «المؤتمر اليهودي العالمي» في نيويورك، لتسليم كيسنجر جائزة تيودور هرتزل، اعتبر الأخير أنّ إسرائيل سوف ترتكب خطأ جسيماً إذا توصلت إلى أية «تسوية دائمة» مع الفلسطينيين في ضوء «التقلبات الواسعة» التي يشهدها الشرق الأوسط». وبهذا، فإنّ «الحلول النهائية يجب أن تُناقش في سياق حلّ مختلف هذه التقلبات، واستقرارها». ذلك لا يمنع إسرائيل، في ناظر كيسنجر، من «القيام بمساهمات عن طريق ما تُظهره من تفهم للمشكلات السيكولوجية والتاريخية للشعوب التي تعيش معها على نفس الأرض. لكن الأمور لا يمكن أن تتحقق بطريقة نهائية في مفاوضات واحدة».

وهكذا… هي أفكار تروح وتجيء، تتناقض أو تتطابق، وتعتمد «الواقعية السياسية» تارة، أو «الدبلوماسية الإبداعية» طوراً؛ لكنها، في كلّ حال ومآل، لا تخرج عن تلك «الوصفة» الفريدة لعلاج الكون، كما فصّلها كيسنجر في مجلده الضخم «دبلوماسية»، 1994. هذه، على الأرجح، هي عصارة فكر «الحكيم الستراتيجي» الذي لا يغيب ظلّه عن ردهات البيت الأبيض أو البنتاغون أو تلة الكابيتول: مقيم ما أقامت الفلسفة الذرائعية والتعاقد السرّي (المفضوح للغاية، مع ذلك) بين توازنات القوّة وانعدام الحدّ الأدنى من الأخلاق؛ بين العنف والرطانة الليبرالية، وبين الدم والبترول. خلاصة الوصفة تقوم على المبادىء التالية:

1 ـ العالم الراهن يقتضي، أكثر من أي وقت مضى، امتلاك المعنى الأشدّ وضوحاً وبروداً ونفياً للعواطف، بصدد مضمون وجدوى مفهوم المصلحة الوطنية (والكونية، لأنّ المصلحة الوطنية الأمريكية هي مصلحة البشرية، شاءت البشرية أم أبت).

2 ـ ينبغي وضع أكبر قدر ممكن من علامات الاستفهام والريبة، أبد الدهر و دونما تردّد أو تلكؤ، على أي ترتيبات متصلة بالأمن الجماعي، سيما تلك التي ترتكز جوهرياً على ذلك «الإجماع الصوفي الغامض» حول أخلاقية انتفاء القوّة (وبالتالي أخلاقية اللجوء إليها) في مختلف ميادين العلاقات الدولية.

3 ـ لا مناص من ترجيح (قبل صياغة وتطوير) التحالفات الصريحة القائمة على المصلحة المشتركة، وغضّ النظر عن التحالفات المقابلة التي تحوّل مقولات «السلام» و»الحرّية» إلى شعارات مطاطة وجوفاء. أعراف «القرية الإنسانية الكونية» ليست قابلة للصرف في سوق مزدحمة شرسة لا ترحم. أعيدوها إلى أفلاطون والأفلاطونيين، يقول كيسنجر، وفي الإعادة إفادة وتجنيب لشرّ القتال!

4 ـ «لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة فقط». كان اللورد بالمرستون (وزير خارجية بريطانيا في ثلاثينيات القرن الماضي)، على حقّ حين اجترح هذه العبارة الذهبية. إنه على حقّ اليوم أيضاً، أكثر من أي وقت مضى.

وفي تلخيص حال أمريكا مع الكون، خلال جلسة الاستماع الأخيرة في لجنة الشؤون العسكرية، حثّ كيسنجر واشنطن على تصعيد جهودها «المعادية للجهاديين»؛ وإبقاء مطامح إيران النووية تحت السيطرة، كجزء من ستراتيجية أعرض لمحاربة الإرهاب؛ وضمان قدرة إسرائيل على «بناء مستقبل»، هو أيضاً «أحد المبادىء التي يتوجب أن نتابعها». وأمّا «داعش»، فإنها «تتحدى كلّ المؤسسات الناجزة»، وإذا كان «النظام القديم» يتلاشى، في رأيه، بصدد متغيرات كثيرة يأتي تنظيم الدولة في طليعتها، فإنّ بديل ذلك النظام ليس مؤكداً.

ما عدا، بالطبع، أنّ البديل الأمريكي الذي بشّر به كيسنجر على الدوام، واستحقّ عليه التلويح بأصفاد مجرم الحرب، لا يحتاج إلى أيّ… استبدال!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى