صفحات الثقافة

قصائد الحرب/ احمد الملا

شمسها عليك

ليست بلاداً،

تلك التي لا تبرح تروضك لتستكين

أو ترحل،

ليست بلاداً،

تلك الصخرة وهي تنطحك في أضلاعك،

ليست بلاداً،

تلك التي هيأت أسنانها لتصقل نتوءاتك

حتى تعود موائماً وشبيها،

ليست بلاداً،

وهي تقصف كلماتك الغضة،

تحطب أحلامك،

وتولمها للغرباء،

ليست بلاداً

تلك التي تقسو على قدمك

ولا تحنّ على الطريق،

التي تقسو عليك وتوجع قرينك،

ليست بلاداً

وهي تخبئ ماءها

وأنت ناشب في العطش،

تلك التي تتلصص عليك وتعريك عند أول عثرة.

البلاد التي

شمسها عليك

وظلها غنيمة،

ليست بلاداً لأحد

وليست بلادك أبداً.

أخرج

وخذ بلادك بيدك.

اختبار الألم

بقبضة يتطافر منها الشرر؛

يطبق على اليد المترددة بطعنتها،

يزجر تراجعها بضغطة المعصم،

يجرها ببطء العارف ويقينه،

ويغرز الخنجر في الجرح،

يديره حتى يطفر الدمع،

حتى يسمعا النصل

يحك العظم،

حتى يشمّا تصبب الدم

ساخناً ولزجاً.

تمتزج الرعشة

عارمة في جسدين يمتحنان صحبة الأذى.

أعين تحدق جاحظة،

وكتفاً بكتف

يتكئان،

لئلا يسقط أحدهما

وحده.

غريزة

1

وخزة حادة أعلى الصدر،

مثل شكة جرس كهربائي،

أو قذيفة اخترقت نافذة الصبي.

مالك؛

ابني الغائب عاد معافى،

ابراهيم؛

رفيق قريتي القديمة، تذكرني بقصيدة،

أمي عائشة؛

زارتني في أحلامي للمرة الأولى،

صورة أبي؛

سقطت في الممر، وانشرخ الزجاج، يا محمد،

أخوتي؛

أرسلوا دعوة عشاء بالواتس أب،

نديم؛

يحضنني بقوة أكثر من المعتاد…..

لا بد من راو،

بإبرته الطويلة يبيّتُ نهاية غامضة

يفتل،

يغزل،

يحيك،

ينسج…..

منزلي بعيد عن خطوط الزلازل،

ولا أربي النباح في حديقتي،

غريزة ما نبهت حواسهم،

ماذا يختبئ لي وراء الباب.

2

ينزل المسلحون كل يوم

من الشاشة،

نراهم،

وبشراسة لا يروننا أبداً.

ينزلون بمظلات تدلت حبالها من الأسقف،

ينزلون ويتحصنون

في بيت تضيق به الحرب.

أحيط جسدي برائحة الأم،

الخوف أعمى في الممرات،

أعينه البيضاء جاحظة تحت أذيال الأسرة.

الجنود اليتامى؛

تخوض أياديهم المغبرة في مائدتي،

عرق أجسادهم يبقع فراشي،

ولئلا يشمون ثيابي في استراحتهم؛

أقرع الباب، بخفة

كي لا يثير الفزع شهية الثأر.

عميان يسلون بلطاتهم،

يجرهم الجوع من رقابهم،

يلوحون بسواعدهم في الظلام،

يطعنون الهواء،

يتعثرون واحداً تلو الآخر،

وكلما رنت سقطاتهم المعدنية،

يمموا نحوها وانهالت نصالهم

وتناهشوا لحوم رفاقهم،

يتوسدون الدم حاراً

وأسمع غطيط نومهم

يتقافز منه أطفال

عائدين للتو من المدرسة.

3

القتلى يلعبون في الصالة

ينتخبون أخوفهم ويختبئون،

القتلى يعبرون الشاشة؛ مقفولة بالسواد،

القتلى يقفزون هرباً من الرصاصات الصائبة،

القتلى يجلسون على المقعد المستسلم كذبيحة،

يقلدون الجالسين،

يلتصقون بهيئاتهم البلهاء من شدة الفجيعة،

يتوارون خلفهم لو رفعت يد الريموت كنترول.

القتلى يهمسون بأسماء الراكضين بدمائهم آخر المشهد،

ويحكون قصصهم الطويلة باختصار مخل،

قبل أن يقنص المذيع أجسادهم مباشرة على الهواء.

كلما دار مفتاح الباب

تطافروا واختفوا في الخزائن وخلف الكتب،

القتلى يجرؤون على اقتحام منامات النائمين في الغرف المقفلة؛

ينبشون أحلامهم،

يحرثون أرواحهم،

يغرسون عويلهم

الطويل،

حتى تتفتق الجدران

وتسيل أطيافهم من الشقوق.

4

الطفل بلا رأس،

يجلس مستنداً على الشاشة،

قدماه أقصر من أن تمسّا الأرض،

يظن جبلا أو بئراً جافة،

فيرجف،

يمد يديه حين يسمع خطى أمام الطاولة،

يمسك بطرف العابر،

يشده

ويتوسل أن يعيد له رأسه؛

عيناً واحدة؛ ليرى فداحة الهاوية،

فماً؛ يأنس باسم أمه،

أذنين؛ يصكهما بيديه ويمنع عنه السكين،

أنفاً؛ ليشم من أين تأتي

الرائحة الشنيعة

وهي تزحف الآن في الظلام.

فن الحرب

كانوا يقرؤون القصائد

في وجه أعدائهم.

هل كان القتل مجازاً،

والموت استعارة أو رمزاً

يوم كانت الحرب فناً من الفنون.

أجدادنا المهرة

يفرزون أعداءهم

واحداً واحداً

وإذا التمت عليهم الصفوف

يحتكمون لمبارزة عادلة

يذهب ضحيتها قتيل واحد على أكثر تقدير

لذلك كان الشهداء ندرة

وأسماؤهم ترفع مع نشيد الصباح.

ماذا أفعل بكل هذه المقابر، الآن.

أعداء يشبهوننا

لم يعد العدو بعين واحدة

جاحظة في جبينه،

لم يعد العدو ينفث ناراً

من بين أنيابه الحادة،

لم يعد بمخالب وقرون،

لم يعد برائحة نفاذة،

وكل ما عرفناه عنه

خلاف ما أراه الآن

في المرآة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى