صفحات الرأي

كيف أمكن لبشار الأسد البقاء في سلطة أبيه؟


يصدر خلال أيام، عن دار رياض الريس، كتاب ستيفن هايدمان “التسلطية في سوريا ـ صراع المجتمع والدولة”، ترجمة عباس عباس ومراجعة رضوان زيادة.

ننشر هنا مقتطفات من مقدمة المؤلف التي وضعها خصيصاً للطبعة العربية قبل اندلاع الثورة الشعبية في سوريا:

في العاشر من حزيران من سنة 2000 مات الرئيس السوري حافظ الأسد، محدداً نهاية السيطرة الاستثنائية لمدة ثلاثين عاماً في قمة السياسة السورية. حتى اللحظة الأخيرة من حياته بقي حافظ الأسد غامضاً بشكل جدي حول من سيخلفه، وقد توقع الكثيرون ان ابنه بشار الأسد سيسير على خطى والده، لكن هذا الاحتمال لم يقدم سوى القليل حيال تبديد المخاوف حول ما اذا كان انتقال السلطة سوف يثير نزاعا يمكن ان يتداعى الى صراع مفتوح.

عمد حافظ الأسد الى شخصنة القيادة الى حد بعيد جداً في سوريا بحيث ان موته طرح، على نطاق واسع، اسئلة أساسية حول الاستقرار السياسي والصراع الاجتماعي واستمرارية حزب البعث في السلطة. فعبادة الشخصية التي بنيت حول حافظ اأسد على مدى عقود كانت، بحلول أجله، قد كسفت تماما الشخصيات الأخرى في السياسة السورية بحيث تمت ترجمة موته على انها مؤشر احتمالي الى انحلال نظام الحكم بأكمله في سوريا. مع ذلك لم تحدث تلك الاحتمالات المتنبأ بها، اذ لم يمض سوى أيام قليلة على وفاة حافظ الأسد حتى تحركت النواة الداخلية للنظام لاصطناع مشهد مهيب للخلافة، بغرض تكريس بشار رئيساً على طراز يتماشى مع النظام الملكي اكثر منه مع النظام الجمهوري. ان التشديد على الادارة السلسة لانتقال القيادة السورية يعكس النية الواضحة لدى النظام في ابراز الالتزام الراسخ بالاستقرار والاستمرارية والسلم الاجتماعي.

واليوم، بعد عقد كامل من احتلال مناصب والده كرئيس للجمهورية والقائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة والأمين العام لحزب البعث، هناك نقطتان حول الأحداث التي وقعت في صيف 2000 تستحقان التذكر: الأولى، داخل سوريا، فقشرة الوحدة الوطنية لدعم بشار، لم تخف، في الواقع، تلكؤ بعض الأقسام داخل النخبة الحاكمة، فيما قسم قليل منها رأى لولائه ودعمه والثانية، متعلقة بالأولى، فوصول بشار اثار شكوكاً معتبرة، داخل سوريا وخارجها على السواء؛ حول سلطة الرئيس الشاب ودوام حكمه. هل سيعيش، وان عاش فإلى متى؟ هل كان يتحكم فعلا بروافع السلطة في سوريا أم كان مجرد دمية يشد خيوطها الحرس القديم لنظام والده؟ وكانت الاجابات عن هذه الأسئلة، في معظمها، غير مطمئنة؛ فبعد أسبوع واحد فقط من وفاة حافظ كان أحد الخبراء الأميركيين البارزين يتنبأ بموت بشار. كتب هذا المحلل في 18 حزيران: “ان صعود بشار الأسد السريع والسلمي والمنظم خادع. فسوريا خلال الاشهر القادمة على الأرجح ستكون اي شيء ما عدا ان تكون مسالمة ومنظمة؛ فالأسد الصغير سيكون عليه مواجهة تحديات طاغية بسرعة كبيرة، وفي الحقيقة سيكون محظوظاً اذا اتم عامه الأول في منصبه”.

بالفعل، خلال فترة الانتقال وما تلاها بعدة سنوات، كان الرأي السائد ان بشار ظل لوالده؛ وقائد ضعيف وغير مجرب، وهش أمام المناورات، أو موكَّل يمكن ازاحته بسهولة عندما تشتد المعركة ويتفاوض الحرس القديم على تقاسم جديد للسلطة..

كانت هذه المحاكمة غير دقيقة بوضوح. بدا بشار اكثر أماناً في منصبه مما كان قبلاً، فقد تغلب على تحديات هامة لمنافسين داخليين، ووضع مريديه المخلصين في مراكز أساسية. وهكذا فقد خاض غمار الأمواه الغادرة لسياسات المنطقة خلال مرحلة من الضغط الاستثنائي إثر الغزو الأميركي للعراق. لقد تغلب على، أو على الأقل صمد أمام، سلسلة من العقبات التي كان لها كبير الاثر عليه، كتلك التي تلت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في شباط 2005، مثل الانسحاب القسري المهين للقوات السورية من لبنان، والخطر الجاسم للمحكمة الدولية. ان المحافظة على استقرار نظام حكم البعث واستمراره لا تقل أهمية؛ فبالرغم من التغيرات الحاصلة في عدد من المجالات لا سيما تلك المتعلقة بادارة الاقتصاد، بقيت الأدوات الأساسية لسيطرة النظام سليمة. فبشار يواصل دعمه لدور حزب البعث ونقابات العمال ووسائل الاعلام والاتحادات الحرفية بوصفها امتداداً لسلطة النظام، كما يبحث عن طريقة للتكيف مع، وليس التعديل الجذري في أطر العمل الدستورية التي تسمح للنظام بتوجيه سياق العلاقات بين الدولة والمجتمع في سوريا.

ان هذا السجل من الأداء يطرح أسئلة هامة، بما يتضمنه من مغاز تساعد في كيفية فهم السياسة السورية وتحليلها. ببساطة تامة: لماذا حاد الكثير من المحللين للسياسة السورية عن الصواب؟ ما الذي اغفلوه وسبب لهم اساءة تقدير كفاءة بشارة الاسد في احكام قبضته على السلطة.

ان ما سبب الكثير من (اساءة الحكم) في التحليل المتعلق بانتقال القيادة السورية كان، باختصار، التركيز أحادي التفكير على الشخصيات. وكما كانوا على مدى عقود، شدد محللو النظام الجديد على المدى الذي كان فيه نظام الحكم متمركزاً حول شبكة صغيرة من الصفوة المهيمنة، التي يعد الكثير من أفرادها امتداداً لعائلة الأسد وملازمين لحافظ الأسد لفترة طويلة. أخيراً، في الفترة التي تلت اغتيال رفيق الحريري، بات من الدارج في الولايات المتحدة تشبيه النظام السوري بأنه مجرد مافيا. وصارت الصفوة الحاكمة تقارن بعائلة كورليوني في فيلم “العراب”. قليل جداً من هؤلاء المراقبين نظروا الى ما وراء الشخصيات وابدوا اهتماماً بما اسمِّيه “نظام حكم”؛ بمعنى الترتيبات المؤسساتية والاجتماعية الأساسية التي تشيد هيكلية آليات الحكم وتحدد نماذج العلاقات بين الدولة والمجتمع.

هؤلاء المحللون مصيبون بالتأكيد في ملاحظتهم لأهمية “سياسة الأعيان” المتفككة والمثيرة للشقاق، التي كانت ملمحاً ثابتاً في السياسة السورية. مع ذلك اهملوا على طول الخط المدى الذي وصله بشار بميراثه الذي كان اكثر بكثير من مجرد شبكة من الصفوة المتسمة بالشخصنة والمحسوبيات والطائفية. وكادوا يغفلون تماماً حجم الدعم الذي تعتمد عليه السياسة السورية وقوة سلطة بشار شخصياًَ، وهو أكثر بكثير ما يوفره بضعة أفراد بارزين.

شأنه شأن أبيه، أفاد بشار الأسد من عملية بناء المؤسسات وتوسع الدولة التي امتدت لزمن طويل يمكن تتبعه بالعودة الى تاريخ سوريا في السنوات الأولى بعد الاستقلال. ان احداث الخمسينات والستينات من القرن العشرين هي التي وضعت الأسس لنظام الحكم الذي انشأه البعث خلال السنوات الأولى من حكمه على وجه التحديد. في هذا السياق لعب البعث دوراً حاسماً في صياغة اطار مؤسساتي لنظام تسلطي متين في سوريا خلال الأعوام 1963 ـ 1970. لكن هذا النظام لم يبدأ من لا شيء؛ فقد كانت لديه مواد كثيرة ليعمل عليها؛ وقد استفاد قادة الأحزاب انفسهم من ميراث البناء المؤسساتي الذي حصل قبل ان يقبض حزب البعث على زمام السلطة في انقلاب آذار 1963. والحقيقة ان البعث صعد الى السلطة بعد عقود عدة من التنامي الملموس لدورالدولة وتضخم بيروقراطيتها، حيث انتقلت مسائل أساسية في عملية ادارة الاقتصاد، بما فيها من قضايا العدالة في التوزيع والتفاوت الاقتصادي، الى قلب الميدان السياسي.

لا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من شأن هذه التغيرات الأعمق، التي شكلت حجر الأساس في تمكين البعث، وهوالوحيد من بين الأنظمة التسلطية الشعبية من الشاكلة نفسها، من بناء نظام تسلطي متجذر وإعادة توزيع الحكم بعد انقلاب آذار 1963، وانشاء أطر عمل مؤسساتية كان من شأنها توفير الاستقرار لذلك النظام. فمن خلال هذه المؤسسات ـ الحزب الحاكم ونقابات العمال والاتحادات الحرفية ووسائل الاعلام والبيروقراطية والجيش وجهاز الاستخبارات ـ كان قادة البعث قادرين على فرض سيطرتهم على المجتمع السوري العنيد جداً، ولكن على الأقل الشفاف والديموقراطي جزئياً ايضا. هذه الأدوات هي التي جعلت من الممكن للبعث في السنوات التالية لعام 1963 أن يتحرك، ولكن أيضاً ليحتوي ويدير القوى الاجتماعية الحضرية منها والريفية، التي عكّرت صفو السياسة السورية منذ الاستقلال، وأن يحكم السيطرة على القطاعات الاقتصادية القائدة وعلى البيروقراطية والجيش، وأن يزيد أنظمة المجتمع المدني والحياة المؤسساتية، ويمدّ الوجود الحزبي الى حقول التعليم ووسائل الإعلام، ويقمع المعارضين منهم بفاعلية أعلى بكثير مما كانت لدى أي حكومة سورية سابقة.

إن السمات الجوهرية لسوريا المعاصرة كانت حاضرة سلفاً عندما أزاح حافظ الأسد نورالدين الأتاسي وصلاح جديد جانباً في 16 تشرين الثاني 1970 واستأثر بالسلطة لنفسه. ولكي يؤمّن قبضته على السلطة ويقوّي نظامه، استخدم حافظ الأسد المؤسسات القائمة، ووسّع آمادها وأعطاها (ولنظامه أيضاً) أسساً اجتماعية أقوى خلال المرحلة الأولى من الانفتاح، وحوّلها الى نظام حاكم متماسك ولو قمعياً جلب لسوريا أطول فترة استقرار سياسي في تاريخها المعاصر. وهذه ليست إنجازات عادية، على الرغم من وجوب عدم التقليل من الثمن الذي دفعه السوريون لنجاح حافظ الأسد.

تبقى تلك الأجهزة المؤسساتية مهمة اليوم كما كانت البارحة، حتى لو ميّزنا التغيرات التي اعترتها في العقود التالية لصعد حافظ الأسد الى السلطة. تبقى لهذه الأدوات أهميتها في فهم السبب وراء قدرة بشار على تعزيز قبضته على السلطة منذ 2000، وتعليل استمرارية النظام الذي يقوده الآن. فهي مهمة، على الأقل، الى المدى الذي تُثقل فيه الضغوط الإقليمية والدولية كاهل بشار، أو السياسة الفئوية التي هددت قبضته عل السلطة في بعض الأوقات.

إن الافتراض بأن هذه المؤسسات تهم بشار كما كانت تهم والده لا يعني أن نقول أن هذه المؤسسات قد بقيت من دون تغيير على مدى العقود الأربعة الماضية. فإذا كان الإطار المؤسساتي العريض الذي يحدد الحكم التسلطي في سوريا قد أظهر استمرارية ملحوظة مستمرة في وجه الموجة العالمية للانتقال الى الديموقراطية خلال العقود من السبعينات الى التسعينات فإنه ليس جامداً أو راكداً في الزمن كما يتراءى لبعض محللي السياسة السورية. وبالفعل فإن إحدى أهم سمات التسلطية السورية هي المرونة والمقدرة على التكيّف، تلك التي أظهرها النظام عندما تغيّرت البيئة المحلية والإقليمية والدولية عبر الزمن. فالنظام السوري تحديداً، مثله كمثل أنظمة عربية أخرى، كان قد شارك في عملية كنت دعوتُها في أماكن أخرى: “تحديث التسلطية” الذي يعيد تشكيل استراتيجيات الحكم من خلال عمليات التكيّف من الأعلى الى الأدنى، والمصمّمة لتأمين حياة النظام على المدى الطويل.

من مزايا التحديث أن يتخذ أشكالاً متنوعة، متأثرة بالتوترات الخاصة التي تواجه كل نظام على حدة، وسيكون من الخطأ أن نضخم ترابطها؛ فليس هناك طراز أو نمط وحيد اتبعته الأنظمة العربية، كما لا ينبغي أن نبالغ في مقدرة الأنظمة العربية على امتصاص وتطبيق الإبداعات في السياسة. مع ذلك، فالتحديث قد صيغ بوضوح بما يمكن تسميته: “التعلم التسلطي”، حيث الدروس والاستراتيجيات التي نشأت داخل الشرق الأوسط وخارجه على حد سواء، انتشرت عبر المنطقة منتقلة من نظام الى نظام، وقد خضعت للتعديل خلال العملية. الأنظمة تتعلم بعضها من بعض وغالباً من خلال المشاركة الصريحة في التجارب لكنها تتعلم أيضاً من مراقبة التجارب في مناطق أخرى. وأخيراً انبثقت الصين بوصفها نموذجاً للاهتمام الخاص لدى الحكومات العربية التي تستكشف طرقاً لتحسين الأداء الاقتصادي من دون الإذعان للسيطرة السياسية، أكثر من ذلك فإن التعلم يتجاوز الافتتان بالطراز الصيني.

في سوريا كما في باقي بلدان المنطقة، نجح التحديث عبر التجربة والخطأ أكثر من التصميم المتعمّد من جانب نظام الأسد. إضافة الى ذلك، وبالتعارض مع مصر والأردن والمغرب، كان النظام السوري كارهاً بشدة للمغامرة في مقاربته للتغيير، مفضّلاً اتخاذ خطوات متواضعة جداً وشديدة البطء ومعطياً لنفسه الوقت لقياس الآثار الناجمة عن كل زيادة في التغيير قبل المباشرة بأي تغيير إضافي. مع ذلك، فإن آثار التحديث مرئية في أماكن عدة؛ فالنظام لطّف من معارضته للتيارات الإسلامية ضمن المجتمع السوري من دون المساومة على التزامه بالطائفية، واستكشف استراتيجيات جديدة لإدارة النزاع الطويل بين الدولة السورية والحركات الإسلامية. فقد استجاب، بانتقائية، لمطالب اللبرلة الاقتصادية واندماج الاقتصاد السوري في الأسواق العالمية، كما وسّع الفرص للنخب الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن رؤية العروض الطنّانة لثرواتها المتزايدة في شوارع أحياء دمشق مثل أبو رمّانة والمالكي والمزّة.

يضاف الى ذلك أن النظام السوري، كباقي نظرائه في دول المنطقة كلها، قد طوّر تقنيات لإدارة وتسهيل الوصول الشعبي الى الإنترنت وتقنيات الاتصال الجديدة التي كانت تعدّ، حتى وقت قريب، حوامل محتملة للأفكار الديموقراطية وبالتالي قوى يجب مقاومتها. كما ميّزوا أيضاً أن الحكم التسلّطي غير متضارب مع، بل إن بقاءه يمكن حقيقة أن يعتمد على تقوية طاقة الدولة والخدمات العامة من خلال برامج مثل: الإصلاح المدني الخدمي وإصلاح التعليم وإصلاح سوق العمل، وكل من هذه الإصلاحات قبلت بها حكومة بشار الأسد بطرق محدودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى