صفحات الرأي

كيف حكم “البعث” سوريا ولبنان؟


وسام سعادة

-1-

أول الكابوس البعثي حلّ الجيش الوطني واستبداله بعقائدي طائفي

لماذا لم ينتفض “الجيش العربيّ السوريّ” كمؤسّسة على نظام بشّار الأسد؟ ولماذا ظهر “الجيش السوريّ الحرّ” كمعطى أساسيّ في الثورة السوريّة بعد شهور من الإصرار السلميّ الجماهيريّ في مواجهة حمّام دمّ مستمرّ، وجرائم ضدّ الإنسانيّة متواصلة على مسمع ومرأى البشريّة جمعاء؟

هل “الجيش العربيّ السوريّ” من نسيج خاص، يختلف فيه عن المؤسستين العسكريتين المصريّة والتونسيّة، وأيضاً عن الحالة الليبية، التي انشق فيها النظام على نفسه، بشكل نصفيّ، منذ اليوم الأوّل للثورة؟

للإجابة على ذلك، لا بدّ من الرجوع إلى أوّل نكبة سوريا بالكابوس الذي اسمه “حزب البعث العربيّ الإشتراكيّ”. أي يوم لم يتح للنظام البرلمانيّ فيها أن يعود بعد سقوط تجربة الوحدة مع مصر، فدخلت البلاد مرحلة من الإضطرابات، كادت تصل الى شفير حرب أهلية عام 1962، واستفاد البعثيّون العسكريّون من الوضع، ليفرضوا إرادتهم داخل حزبهم وعلى المجتمع في آن، بدءاً من انقلاب 8 آذار 1963. ثم ليكشفوا شيئاً بعد شيء، بدءاً من 23 شباط 1966، عن الطابع الفئويّ، الأقلويّ، لسياساتهم، الإستئثارية بالسلطة، التي ستتخذ طابع ديكتاتوريّة فرد واحد، حافظ الأسد، ومعه أشقاؤه ثم أبناؤه، ابتداء من انقلاب الحركة “التصحيحية” في 16 تشرين الثاني 1970.

في الستينيات من القرن الماضي، قامت مجموعة سريّة داخل الجيش السوريّ، تعتبره جيشاً انعزالياً، غير قوميّ، وبرجوازياً، غير اشتراكيّ، وتراتبياً، غير ثوريّ. وارتأت استبداله بجيش قوميّ، وتقدميّ، وثوريّ، يمكن أن يرفّع فيه المرء بشكل اعتباطيّ، وهو ما خبره حافظ الأسد عندما رفّع بسرعة قياسية عام 1963 من نقيب مسرّح إلى مقدّم إلى آمر قاعدة الضمير الجويّة، إلى أمر لسلاح الجوّ السوريّ، إلى لواء، ثم سيعود ويَخْبِرَه نجله بشّار الأسد بعد وفاة أبيه، عندما سيخلع عليه لقب “فريق”.

1962: الحرب الأهليّة المؤجّلة

لم تفلح سوريا، بعد انفكاك دولة “الوحدة” مع مصر، في 28 أيلول 1961، وإعلان “الجمهوريّة العربية السوريّة” في اليوم التالي، في العودة مجدّداً إلى رحاب النظام الديموقراطيّ البرلمانيّ كما كان معمولاً فيه بين العامين 1954 (منذ سقوط ديكاتوريّة أديب الشيشكلي) و1958 (قيام “الجمهوريّة العربية المتحدة” على قاعدة إلغاء الحياة النيابية والتعدّدية الحزبية).

في أوّل الأمر، أعلن قادة “الإنفصال”، وفي طليعتهم “الكولونيل” عبد الكريم النحلاوي، عودة الجيش إلى الثكنات، على أنّ يتكفّل في الوقت نفسه بالسهر على إعادة النظام الديموقراطيّ، وكذلك الحيلولة دون وقوع الديموقراطيّة في الفوضى أو انقلابها إلى ديكتاتوريّة واستبداد، راجياً من الساسة المدنيين عدم توريط الجيش في الوقت نفسه بانقساماتهم وخلافاتهم. لكنّ النحلاوي لن يتأخّر بعد أشهر قليلة من انتخابات كانون الأوّل 1961 في القيام بانقلاب جديد، في 28 آذار 1962، مستبقاً موجة متصاعدة من مناشدات المدنيين للعسكر بعدم التدخّل في الحياة السياسية. هذا الإنقلاب افتُتِح ببلاغ حمل الرقم 26، للدلالة على أنّه تكملة للإنقلاب الأوّل (مذكرات أكرم الحوراني). وقضى الإنقلاب الجديد بـ”حلّ المجلس النيابي لأنّه عجز عن القيام بالمهمة الموكولة اليه وسعى لتأمين مصالح أعضائه ومنافعهم الشخصية”، وبإقالة حكومة معروف الدواليبي.

وخلافاً لتوقّعات النحلاوي، وضع الإنقلاب الجديد سوريا على شفير حرب أهلية، وهو ما فسّره الفرنسيّ برنار فرنييه في دراسة له حول “الدور السياسيّ للجيش السوريّ” عام 1964، بأنّه يعود الى عدم رغبة الأقاليم السوريّة، الأخرى، التي غذّت فترة الوحدة مع مصر نزعتها اللامركزيّة في الخضوع مجدّداً لسلطة دمشقية أحاديّة، علماً أنّ هناك كمّاً من التعليلات الأخرى تركّز على الدور المصريّ في دفع النحلاوي للقيام بخطوته، ثم في الإيقاع به.

وهكذا، أعلن العميد بدر الأعسر قائد المنطقة الوسطى في حمص، بعد ثلاثة أيام من الإنقلاب مقاومته له، مطالباً بإجبار جماعة النحلاوي على مغادرة البلاد. أما في حلب، فتمرّد الضباط البعثيّون والناصريوّن بقيادة جاسم علوان، ورفعوا علم “الجمهورية العربية المتحدة”، غير أنّ سلاح المدّرعات انحاز إلى سلطة دمشق، ما مكّن من قمع الحركة.

وفي ظروف كهذه، كانت الوحدة الوطنيّة مهدّدة، وكذلك وحدة الجيش، انعقد مؤتمر عسكري عام في حمص في نيسان 1962، وطالب بإعادة الضبّاط المسرّحين منذ “الإنفصال”. إلى الجيش، أي، بمعنى ما، إعادة ضبّاط الأقليّات المذهبية، لأنّ هؤلاء كانوا سرّحوا أكثر من سواهم، سواء في مرحلة “الوحدة” أو في مرحلة “الإنفصال”، فكانت عودتهم، بعد مؤتمر حمص، بمثابة “رّدة عكسيّة”، أي الإنتقال من جيش تستبعد منه الأقليّات، إلى جيش بصبغة أقلويّة.

لكن ذلك، حدث تدريجياً. اتفق المؤتمر العسكري العام على ابعاد النحلاوي قائد الإنفصال وكتلة ضباطه الشاميين من سوريا. واللافت يومها أنّ العميد الدمشقي مطيع السمان خطب في مؤتمر حمص مطالباً بطرد ستة ضباط غير دمشقيين، لكي تتحقق المساواة، هذا بغض النظر عن تورّطهم أو عدم تورّطهم في أحداث 28 آذار 1962.

في مذكراته، يصف أكرم الحوراني (1911-1996) انقلاب 28 آذار 1962 الداميّ بأنّه “أحدث آثاره الطائفية المقيتة، فدمشق بأسرها حزنت على أبنائها من الضباط الذين أودى بهم عصيان حلب، وفي مقابل ذلك وصلتني رسائل من بعض القرى في شرقي حمص ومن منطقة اللاذقية تستنجد بي لانقاذ الموقوفين المتهمين بحوادث حلب”. ويتابع “كان اعتقادي ان واجبي يقضي أول ما يقضي وضع حد للآثار الطائفية التي خلفتها أحداث حلب، ثم السعي فيما بعد الى عدم تنفيذ الأحكام أو التخفيف منها، ولا سيما أن مؤتمر الجيش في حمص قد قرر وجوب اصدار عفو عن المشاركين بحوادث العصيان”.

أما الهولنديّ نيقولاوس فان دام، صاحب الكتاب المرجعيّ “الصراع على السلطة في سوريا، الطائفية والإقليميّة والعشائرية في السياسة 1961-1995″ فيعلّق على انقلاب 28 آذار بالقول انه أدّى إلى الإنهيار السريع لـ”جماعة النحلاوي المكوّنة من ضباط دمشقيين، ويرجع ذلك جزئياً الى أن النحلاوي لم يتلقَّ الدعم الكامل من غير الدمشقيين” ويتابع “لقد حاول جاهداً دون جدوى في 28 آذار أن يقوي قبضته المتراخية على جهاز الجيش والحكومة عن طريق انقلاب عسكري، وبعد هذه المحاولة الفاشلة تم طرده من سوريا مع خمسة من أبرز زملائه العسكريين الدمشقيين”.

ويستشهد فان دام بمذكّرات القائد الأعلى للقوّات المسلّحة السوريّة حينذاك. اللواء زهر الدين (درزي)، الذي يقول أنّه في الفترة اللاحقة على نفي النحلاوي وجماعته، تمّ استبدال الضباط الدمشقيين في العاصمة بـ”ضباط لا يضمرون لدمشق وأهلها إلا الحقد والكراهية”.

وهناك من يحلّل الأمور، فيقول أنّ مسارها تطوّر سريعاً من الغاء الضبّاط الشاميين والحلبيين لبعضهم البعض، إلى ارتفاع سهم الضباط الريفيين من السنّة، إلى تسلّم الضبّاط الريفيين من غير السنّة للدفّة.

وإذا كان اقصاء النحلاوي في نيسان 1962 قد أضرّ بالمجموعة الدمشقية داخل هرم القيادة العسكرية السورية، فإنّ عودته بعد 7 أشهر على ابعاده، ومغامرته بتمرّد عسكريّ فاشل في 13 كانون الثاني 1963 ستتكفّل بتصفية شاملة لهذه المجموعة. ويشرح كمال خلف الطويل بأنّ النحلاوي الذي كان “دمشقياً بامتياز ومحافظاً متديناً لدرجة الارتباط غير المعلن مع جماعة الإخوان المسلمين، قد عاد متسللاً الى سوريا في 13 كانون الثاني 1963، ليحرض بقاياه في الجيش على الانقلاب”. الا ان “ما فتك بالنحلاوي كانت الوعود المعطاة له من قبل أطراف وحدوية وبعثية بنصرته إن تحرّك، فهذه الأطراف أوقعته في الفخ، بل وتحرّكت ضده لدرجة إيصاله لليأس، والخروج القسريّ من البلاد ثانية.

الخماسيّ الإنقلابيّ وانقلاب 8 آذار

وجد “حزب البعث العربيّ الإشتراكيّ” صعوبة بالغة في إحياء تنظيمه أو في تحديد رؤاه في تلك المرحلة. وجاء المؤتمر القوميّ الخامس الذي عقده الحزب في حمص في أيّار 1962، ليعكس حدّة الأزمة. فكانت القطيعة النهائية بين “البعث” وبين تيّار أكرم الحوراني، الذي دافع بقوّة عن خيار الإنفصال عن “الجمهوريّة العربيّة المتحدة” ولم يتراجع عن ذلك كما فعل صلاح الدّين البيطار. أمّا المؤسّس ميشيل عفلق، فطلع بصيغة أنّ “أخطاء الوحدة لا تبرّر الانفصال” لكنّه كان يواجَه من داخل “البعث”، وتحديداً من الجناح العسكريّ، بنصيبه من هذه الأخطاء، أي موافقته على حلّ الحزب، وهو الشرط الذي وضعه جمال عبد الناصر لإتمام الوحدة في شباط 1958.

عام 1962 إذاً، اعتبر عفلق ان “خطر الأخطاء التي سبّبت فشل تجربة الوحدة على القضية القومية ينتهي بمجرد ان يطلع الشعب على هذه الأخطاء ويعرف كيف يصحّهها ويتلافاها، أما خطر الوضع الانفصالي فلا ينتهي بمجرد الاطلاع على حقيقة مفضوحة، وانما يترتب على الشعب ان يستجمع كل طاقته النضالية ليقاوم المصالح الرجعية والاستعمارية التي يتكوّن منها الوضع الجديد”.

إلا أنّ هذا الحكم السلبيّ على الإنفصال، الذي يتقاطع مع نظرة الضباط البعثيين الشبّان يومها، كان يمتزج عند هؤلاء مع حكم سلبيّ على عفلق والبيطار والحوراني كونهم قبلوا بحلّ الحزب، كما قبلوا بإبعادهم كضبّاط إلى مصر، ولم تقنعهم كلمات عفلق بأن “الحزب فوجىء في سوريا أثناء مباحثات الوحدة حين اشترط عبد الناصر حل الأحزاب في سوريا وحين أرجأ دراسة صيغة الوحدة الى ما بعد اعلانها. ولكنه لم يضع هذه العوائق بمستوى الوحدة نفسها ومضى في تنفيذ خطته وقبل بشروط عبد الناصر، لأنه كان يريدها وحدة يتقوى بها العرب جميعاً، ويتدعم بها نضالهم في كل مكان، يريدها ضمانة لانتصار ثورة الجزائر وبداية لتحرير فلسطين”.

فمن جهتهم، استكمل هؤلاء الضباط البعثيّون الشباب الحكم السلبيّ على الإنفصال بحكم سلبيّ نهائيّ على “الأساتذة الثلاثة” (عفلق، البيطار، الحوراني)، وحكم سلبيّ آخر على من يرى العودة فوراً إلى الوحدة مع مصر. وبالنتيجة نشأت نواة عسكرية بعثية سرّية، لها مرمى واحد: اقامة نظام بعثيّ عسكريّ، يفرض من خلاله “البعث” إرادته في الجيش، ويفرض الجيش من خلاله إرادته في “البعث”، وهو ما كان يعني موضوعيّاً. صعوداً لأقليّة الأقليّة، الأقليّة العسكريّة في البعث، والأقليّة البعثيّة في العسكر. وإذا ما احتسبنا أنّ البعث كان حزباً يجتذب أبناء الأقليّات، فهذا يعني بداية العدّ العكسيّ لنظام حزبيّ أحاديّ وعسكريّ وأقلويّ في آن.

وبأسلوبه، يقول حازم صاغية في كتابه “البعث السوريّ” أنّه “ومن دون أن تكون الأمور مصمّمة على نحو تآمري مسبق، قضى تركيب الحزب أن يكون ثلاثة من قادة اللجنة العسكريّة علويّين، وهم أبرزهم محمد عمران، وثانيهم صلاح جديد، ثم حافظ الأسد. أما الإثنان الآخران، عبد الكريم الجندي وأحمد المير، فكانا اسماعيليين”. ويتابع “بالطبع توسّعت تدريجياً اللجنة التي حافظت على سرّيتها لتضمّ الضبّاط البعثيين من سائر الطوائف، كأحمد سويداني ومصطفى طلاس من السنّة، وحمد عبيد وسليم حاطوم الدرزيين، إلا أن قيادتها الفعليّة بقيت في أيدي المؤسسين الخمسة”.

ويشرح فان دام أن “القيادة العليا للجنة العسكرية البعثية” تأسّست عام 1959 في أيّام الوحدة، وتشكّلت من “الخمسة” الذين جرى تعدادهم خلال تواجدهم في مصر قسراً. ويقول أن “معظم أعضاء اللجنة العسكرية من أصول قروية وينتمون لعائلات فقيرة، ما عدا صلاح جديد وعبد الكريم الجندي فكانا ينتميان لعائلات بارزة من الطبقة المتوسطة”، ففي حين يعتبر جديد حفيداً لأحد زعماء اتحاد الحدادين للعشائر العلوية، ينتمي حافظ الأسد لشق “النميلاتية” من “المتاورة”.

وجاء انقلاب 8 شباط 1963 على حكم عبد الكريم قاسم في العراق، الذي تشارك فيه الوحدويّون، من ناصريين وغير ناصريين، مع البعثيين من عسكريين وميليشيويين، ليدغدغ آمال “اللجنة العسكريّة” بظهور سريع لنظام بعثيّ صاف في سوريا.

وكان لـ”اللجنة” ما أرادت، بانقلاب نفّذه زياد الحريري، الذي لم يكن بعثيّاً، وإنما “وحدويّاً عربيّاً مستقلاً” غير ناصريّ. وزياد الحريري سنيّ من حماة، ويعتني برنار فرنييه باظهار صلة القربى التي تجمعه بالرئيس أديب الشيشكلي (اغتيل عام 1964 في منفاه البرازيلي على يد الشاب نواف غزالة)، فيما يصفه حازم صاغية بأنّه “ضابط مغامر كان مقرّباً من أكرم الحوراني قبل أن يبدأ العمل لحسابه الخاص” (هنا أيضاً ثمة علاقة قربى عائلية بين الحريري والحوراني تتيح للبعض التقدير بأنّ الأخير كان على علم بانقلاب 8 آذار 1963، والله أعلم).

ويستخدم كمال خلف الطويل صيغة أخرى فيصفه بأنّه “ضابط طموح انتهازي برتبة عقيد يتولى قيادة القطاع الشمالي للجبهة” (مع اسرائيل) وأنّه “لم يكن محسوباً لا على الوحدويين ولا على البعثيين بل قد عرف عنه إعجاب مكتوم بأكرم الحوراني”. ويلفت الطويل إلى حيثيات تحلّق مجموعة من الضبّاط حول هذه الشخصية: “ففي الشهور الأخيرة من الانفصال وخصوصاً بعد دورة شتورا للجامعة العربية في آب 1962 والتي شهدت أعنف الحملات على عبد الناصر من قبل انفصاليي دمشق قام استقطاب داخل الجيش بين ضباط الانفصال والذين أضحى رمزهم العميد مطيع السمان قائد قوى الأمن الداخلي وبين الضباط المناهضين للانفصال والذين تكوكبوا حول العقيد زياد الحريري”.

وكما أنّ انقلاب 8 شباط العراقي غّذى طموحات البعثيين، فإنّه استوجب تحسّباً زائداً من قبل حكام الإنفصال وقتها من مغبّة قيام انقلاب وحدويّ، بعثيّ أو ناصريّ أو بين بين، فقرّروا اخراج زياد الحريري ملحقاً عسكرياً في بغداد أو في عمّان، ثم غطوا القرار بابعاد العميد مطيع السمّان نفسه ملحقاً عسكرياً في دولة آسيوية. ويروي الطويل أيضاً أنّه “لوهلة وهنت أعصاب الحريري فهو ليس من زمرة المتآمرين المخضرمين الأشداء وقرّر الخضوع لقرار التسفير” الا أنّ ضغوط حلفائه، بعثيين وناصريين، أثنته عن ذلك ودفعته للإنقلاب، الذي لم يكن مفاجئاً لأحد من حيث توقيته.

ويصف عزو محمد عبد القادر ناجي في دراسة له تحت عنوان “العشائرية وخصوصية الشعب والعوامل الشخصية وصراع الأجيال وتأثيرها على عدم الاستقرار السياسي في سوريا” العناصر المكوّنة لإنقلاب 8 آذار 1963 فيقول أن “معظم قادة انقلاب زياد الحريري كانوا من جيل الشباب الذين تقل أعمارهم عن متوسط أعمار ضباط الجيوش النظامية الأجنبية، وكانوا متميّزين بانخفاض مستواهم التعليمي عن مستوى الصفوة السياسية المدنية، التي كانت سائدة قبل ذلك”.

والحال أنّ زياد الحريري تمكّن صبيحة 8 آذار هذا، من مغادرة الجبهة على رأس لواء من الجيش، ودخل دمشق في انقلاب ميسّر، فسيطر على الدوائر الحكومية من دون أن يلقى مقاومة حقيقية، مع أنّ الوحدات العسكرية التي مرّ بها ما بين الجبهة ودمشق كانت تفوق في عددها خمسة أضعاف اللواء. بهذه السهولة المجانيّة ولد عهد “سيكون أحد أطول العهود السلطويّة في التاريخ العربيّ الحديث، كما سيكون واحداً من أقساها” (حازم صاغية).

ولا تعني هذه السهولة شعبية من أي نوع. بالعكس تماماً. فمن ناحية الجيش، نأى سلاح المدرّعات بنفسه عن الإنقلاب، ولو أنّه لم يبلّغ القيادة المركزيّة في دمشق بتحرّك اللواء الإنقلابيّ للزحف عليها. وكذلك فعل سلاح الطيران، في حين سجّلت مشاركة “المظليين” في الزحف على العاصمة. أما “البعث”، فكان أعضاؤه لا يزيدون إلا قليلاً عن 400 عضو، وسيفاخر حافظ الأسد “ما أن يحكم قبضته على مفاصل القوة العسكرية والمدنية أنّ عدد أعضاء الحزب كله سبعة أعضاء في مدينة حلب كلها، متباهياً بأن انقلابه هو الذي أحيا الحزب وأعاد إليه كيانه” (عدنان سعد الدين).

وأوّل ما سيقوم به الإنقلابيّون هو اعادة أعضاء اللجنة العسكرية البعثية الخمسة إلى الجيش، وقد تضمّن البيان التاسع الصادر عنهم ذلك اضافة إلى حوالي 30 ضابطاً آخرين، كما جرى ترفيع النقيب حافظ الأسد المعاد بدوره إلى الجيش إلى رتبة مقدّم، من دون أن يمرّ برتبة رائد.

وبشكل أعمّ، تلهّى الإنقلابيّون بترفيع بعضهم لبعضهم الآخر في الرتب العسكريّة، من دون أي معيّار غير الإعتباطية. فالعميد لؤي الأتاسي صار فريقاً ركن، والعقيد زياد الحريري سمي لواء، والعميد راشد القطيني كذلك، وكل ذلك في يوم الإنقلاب نفسه، في حين سيتم ترفيع العميد غسان حداد لواء، والعقيد محمد عمران لواء، والمقدم صلاح جديد لواء في 1 12 1963، وهكذا. كان ذلك بالطبع قبل أن تضرب هذه العادة الإنقلابيّة البعثية رقمها القياسيّ مع بشّار الأسد لاحقاً، يوم رفّع مقدّم ركن عام 1997، ثم إلى عقيد ركن عام 1999، ثم إلى رتبة فريق إثر وفاة والده.

ومع اعادة أعضاء اللجنة العسكرية إلى القوات المسلحة، صارت هذه اللجنة النواة الموجّهة الحقيقية لمجلس قيادة الثورة، في حين صار الأعضاء الآخرون واجهة تنتظر التصفية تدريجياً.

ولم يتأخّر البعثيّون في الإستئثار بالحكم الإنقلابيّ، فكانت أمورهم في سوريا أسهل نوعاً ما من حال العراق. استفادوا في مرحلة أولى من الغطاء الذي أعطاه جمال عبد الناصر لهم، ولزملائهم العراقيين، من خلال توقيع مشروع الإتحاد الثلاثيّ بين مصر وسوريا والعراق. فتمكّن البعثيّون في هذا الوقت الثمين من تثبيت دعائم حكمهم في وحدات الجيش والأجهزة الأمنية، ويومها كان عبد الناصر مندفعاً إلى طرح تصوّره لتنظيم حزبي على شاكلة الإتحاد الإشتراكي تندمج فيه القوى السياسية “الوحدوية” في البلدان الثلاثة، وفي هندسة دستور لجمهورية عربية متحدة ثلاثية. في هذا الوقت، كانت اللجنة العسكرية البعثية تعمل ميدانياً لعزل العناصر المريبة لها داخل الأجهزة الأمنية، ولم تتأخر في طرد اللواء زياد الحريري وزير الدفاع ورئيس الأركان.

فكان أن دعي الأخير إلى الجزائر “لإعادة توثيق العلاقات” بين البلدين، وما إن غادر حتى جرى تكليفه بوظيفة ملحق عسكريّ هناك، لكنه ركب رأسه وعاد إلى دمشق، متكلاً على تحرّك الضبّاط الـ25 الحمويين من خاصته، فاكتشف أنهم ابعدوا جميعاً، ولم يجد بدّاً من قبول وظيفة ديبلوماسية، لكن مدنية هذه المرّة. ومما يرويه هنا القيادي الإخواني الحموي عدنان سعد الدين أن الضابط عارف الجاجة من حماة أيضاً، رغب في تلك الأثناء بلقاء عدد من الإخوان مستنجداً بـ”المنظمات الحزبية والجماهير الشعبية لفك الحصار الذي ضربته الفئات الطائفية بالجيش حول الحريري، وطلب منا أن نخرج في مظاهرات صاخبة وداعمة، فسألناه: تحت أي لافتة أو شعار تتحرّك المظاهرات؟ فقال: تحت شعار الحرية والوحدة والإشتراكية”. فيخلص سعد الدين الى القول “سرعان ما افترقنا مدركين ما كانت عليه هذه المجموعة من الغفلة والسذاجة”.

قمع الإنتفاضات وحلّ الجيش

لكنّ تحكّم العناصر البعثية العسكريّة الأقلويّة بالسلطة على هذا النحو سرعان ما فجّر تململاً ثم احتقاناً ثم انفجاراً سنياً ناصريّاً، عبّرت عنه انتفاضة دمشق في 18 حزيران 1963، التي جاءت كانتفاضة شعبية مدعومة بانقلاب عسكريّ سيىء التحضير والتجهيز، خصوصاً وأنّ التنظيمات الناصرية في الجيش، كانت مشرذمة ومخترقة أكبر اختراق من قبل البعثيين، وكان العقيد جاسم علوان عرّاب المحاولة الإنقلابية الناصرية التي سحقها البعثيون سريعاً ببحر من دماء، ناهز 800 قتيل في يوم واحد في دمشق وحدها. وهنا سيبدأ الفصل الأكثر احتداماً من الحرب الكلامية بين جمال عبد الناصر والبعثيين الذين سيصفهم بـ”الفسقة والقتلة”، فسقط مشروع الوحدة الثلاثية.

وفي التصدّي للإنقلاب الناصريّ، سيضع البعثيّون الفريق أمين الحافظ في الواجهة، حيث سيخرج الأخير من مبنى الأركان ورشاشه بيده ليقود عملية المواجهة. وبعد دوره في إفشال الانقلاب الناصريّ، سيتولّى الحافظ عزل لؤي الأتاسيّ الذي شغل بعد 8 آذار منصب رئيس مجلس قيادة الثورة، وسيتولى الحافظ هذا المنصب ورئاسة الجمهورية، لكن كل ذلك لم يكن الا تمهيداً لإقصائه هو الآخر.

وبعد تصفية الناصريين في دمشق، سيواجه الحكم البعثيّ العسكريّ الأقلويّ انتفاضة إسلاميّة في مدينة حماة، ويتمكّن من إخمادها مرة أخرى بالحديد والنار، وبهدم المساجد. فجرى هدم جامع السلطان. وفي حمص اقتحمت المجنزرات مسجد خالد بن الوليد في صيف 1964. ويروي عدنان سعد الدين ان “نور الدين الأتاسي كان وزيراً للداخلية في حكومة أمين الحافظ، وقد أشرف بنفسه على عملية اقتحام المسجد واعتقال المصلّين، فقد شاهده المعتقلون عندما أخرجوا من المسجد، وهو واقف خارجه يقود أو يشرف على عملية الاقتحام”.

ثم كانت تصفية جماعة أمين الحافظ، الذي سيقول حافظ الأسد عنه أنّه “ما كان يستطيع أن يحرك جنديأ من مكانه”. حاول الحافظ التذاكي، مستدعياً اللواء محمد عمران، الذي كان نفاه رفيقاه صلاح جديد وحافظ الأسد إلى اسبانيا، تبرّؤاً من طائفيته العلنية. فكان الرد صبيحة 23 شباط 1966، بهجوم شنّه عساكر الصاعقة بقيادة سليم حاطوم، وسرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد على منزله. وبإسقاط الحافظ، كان الثنائيّ “البعثي العسكريّ الأقلويّ” جديد الأسد يُحكم قبضته تماماً على الحكم.

لكن أهمّ ما تضمّنته هذه المرحلة الممتدة من انقلاب 8 آذار إلى 23 شباط 1966، هو قرار “اللجنة العسكريّة” حلّ الجيش السوريّ النظاميّ، بالشكل الذي عرفته سوريا منذ استقلالها عن الفرنسيين، والسعي إلى تشكيل جيش جديد، دعي بـ”الجيش العقائديّ”، في شيفرة كلامية لا يجد أحد كبير صعوبة في ترجمتها “الجيش الفئويّ”.

لقد أدى تسريح مئات الضباط بعد هذه الإيقاعات الإنقلابية المتتالية إلى مشكلة حقيقية. فبعد انقلاب حزيران 1963 الناصريّ لوحده، سرّح ألف ومئة ضابط وصف ضابط، كانوا في سوادهم الأعظم من اللون السنيّ. وما كان بمستطاع البعثيين وهم، بضع مئات من المدنيين والعسكريين، تعبئة هذا الفراغ، الأمر الذي استدعى تعويلهم أكثر فأكثر على البنى العشائرية والمذهبية التي ينتمون إليها، إلى حدّ استغاثة مشايخ عشائرهم وطوائفهم الدفع في هذا الإتجاه، أي حثّ أبناء عشيرتهم وطائفتهم للإنخراط في الجيش، وفي المقابل تسهيل شروط قبولهم في الكليات العسكرية، والبحرية، والجوية.

هذا عموماً الخط التحليلي الذي يترصّد نيقولاوس فان دام في دراسته حول “الطائفية والإقليمية والعشائرية”، في المقابل، فإن العودة إلى الدراسة القيمة لبرنار فرنييه في منتصف الستينيات، تشير الى أنّ هذه المعادلات الطائفية كانت تسوّغ نفسها بتخريجة خاصة، وهي تحويل معلّمي المدارس من البعثيين وأقربائهم إلى ضبّاط وصف ضبّاط، بل أنّ ذلك كان ركيزة من ركائز بناء هذا “الجيش العقائديّ”

-3-

الاغتيال بقرار رئاسي… المهنة الأساسية للعائلة الأسديّة

في صبيحة الإثنين 21 حزيران 1980 اغتيل صلاح الدين البيطار، أحد المؤسّسين التاريخيين لـ”البعث” في باريس، على باب صحيفته “الإحياء العربي”، التي لم يغفر لها الرئيس حافظ الأسد أنّها تحمل الاسم الأوّل لما سيُعرَف لاحقاً بـ”البعث”، وأنّها تنكر عليه بعثيّته وقوميّته العربية، وأنّها تفضح الطابع الفئويّ والإجراميّ لنظامه. مثلما لم يغفر للبيطار، بما يمثله من ثقل رمزيّ، حيث أنّه بالإضافة إلى كونه المؤسّس التاريخيّ الثاني إلى جانب ميشال عفلق، تميّز بأنّه ابن عائلة دمشقية برجوازية سنيّة عريقة، وكان على رأس حكومات متتالية بين العامين 1963 و1966، أي قبل أن يأخذ “البعث” وبشكل نهائيّ الطابع الفئويّ الشموليّ الذي لا رجعة فيه. علماً أنّها كانت الفترة نفسها التي مهّدت للكارثة، من خلال تفكيك بنية الجيش السوريّ وصولاً إلى “حلّه” واستبداله بجيش “عقائديّ” لا تحترم فيه تقاليد الجيوش النظاميّة، ويرفّع الإنقلابيّون رتبهم فيه على هواهم، بقوّة العسف والبطش، وهو في الحقيقة جيش فئويّ، استفاد في مرحلة أولى من التناقضات التي كانت تعتمل في المؤسسة العسكرية بعد التجارب المريرة للديكتاتوريّات العسكرية (1949-1954، أي مرحلة حسني الزعيم، وسامي الحناوي، وأديب الشيشكلي) ثم الديموقراطيّة البرلمانية غير المستقرّة (1954-1958) ثم الوحدة “التمصيريّة” مع جمال عبدالناصر وصولاً إلى حكم الانفصال (1961-1963). وكانت نتيجة هذه التناقضات، تمكّن الضباط البعثيين من فرض إرادتهم على البعثيين المدنيين من جهة، وعلى العسكريين من غير البعثيين من جهة ثانية، أي بمعنى آخر تمكّن خمسة إلى ثمانية ضبّاط من فرض إرادتهم على الأقليّة البعثية الضحلة في المجتمع السوريّ آنذاك (بضع مئات)، ثم فرض هؤلاء إرادتهم على نصف القرن الآتي من عمر السوريين، وكذلك اللبنانيين والفلسطينيين.

إذاً، في صبيحة 21 حزيران 1980، كان “حزب البعث العربي الاشتراكي” بقيادة “الرفيق المناضل” حافظ الأسد، يقتل ثاني مؤسّسي الحزب صلاح الدين البيطار، في باريس، بعد سنوات من فشل الجهود التي بذلها الأسد لإقناع البيطار بتأمين تغطية رمزية عقائدية لنظامه، بما يمثّله البيطار سواء على صعيد التاريخ الحزبي، أو على صعيد الانتماء المناطقيّ والمذهبيّ، أو على صعيد التاريخ الوطنيّ السوريّ، وذلك في مقابل تلطّيّ النظام البعثيّ العراقيّ بمرجعيّة ميشيل عفلق، التي لم يكن لها تلك الصفات التي اجتمعت في البيطار.

والبيطار، مولود عام 1912 في حي الميدان بالعاصمة السوريّة، حفيد الشيخ سليم البيطار الفرضي. وقد شارك عفلق عام 1939 في تأسيس منظمة “الإحياء العربي”، التي ستتخذ لاحقاً اسم “البعث العربي” قبل أن تتحد مع جماعة أكرم حوراني في بداية الخمسينات لتأسيس “حزب البعث العربي الاشتراكيّ”. إلا أنّ تاريخ البعث، كما أعاد حافظ الأسد وعائلته كتابته سوف ينحّي كلّ هذه الأسماء، لصالح “فرض” مؤسّس من نوع آخر، هو زكي الأرسوزي العلويّ من لواء الإسكندرون.

وعندما قامت الوحدة مع جمال عبدالناصر، عُيّن البيطار نائباً لرئيس “الجمهورية العربية المتحدة”، ليستقيل من منصبه لاحقاً في كانون الأوّل 1959 احتجاجاً، ويوقّع على وثيقة الانفصام عام 1961، إنما ليتراجع بعد ذلك، وليسبّب نقمة دفينة في نفوس المنتظمين ضمن “اللجنة العسكرية السريّة”، أي أساساً، الثلاثي محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد.

“الحكم الأقلوي” واستغلال التناقضات

ومع ذلك تولّى البيطار رئاسة الوزراء أربع مرّات بعد أنّ نفّذت هذه اللجنة مرادها بالاستيلاء الانقلابيّ على السلطة، إلى أن كان انقلاب 23 شباط 1966 على أمين الحافظ، وهو الانقلاب الذي أرسى بوضوح “الحكم الأقلويّ”، فتمكّن البيطار من الفرار إلى لبنان، وصدر حكم غيابي بإعدامه عام 1969.

وفي السبعينات، سيحاول حافظ الأسد استغلال التناقضات بين البيطار وعفلق، فيستدعي على هذا الأساس صلاح الدين البيطار إلى خمس ساعات من المحادثات، يوم 25 أيار 1978، يسجّلها البيطار في مقالة له بعنوان “سورية مريضة مريضة وتعيش محنة ومأساة”.

ويصل البيطار في سرده للمحادثات إلى لحظة التطرّق إلى الوضع الداخلي في سوريا، فيقول “حدثته عن أعباء سوريا القومية، وأن هذه الأعباء لا تستطيع سوريا أن تتحملها إلا إذا جرى داخلياً خلق مناخ ديموقراطي وانفتاح سياسي على الشعب”، فأجاب الأسد: “لسنا كإنكلترا ولا كالكونغو، والديموقراطية تحتاج الى مستوى ثقافي معيّن”. قلت هذا صحيح، ولكن كيف نبلغ هذا المستوى الثقافي إذا لم تكن هناك حرية فكر وإبداء رأي وحريّة صحافة ومعارضة ديموقراطية. قال الأسد: هل تقرأ الصحف هنا؟ إنها تنتقد وتكتب بحرية لا تتمتع بها الصحف اللبنانية، صحيح أن هناك بعض القصور ولكن يمكن تفاديه. أجبت: قليلاً ما أقرأها، ولكن الموضوع الذي أطرحه هنا، يتعلق بمبادئ وباتجاه، فأنا انطلق من أن جانباً واحداً لا يملك الحقيقة حتى يفرضها على الجميع، وهناك حقيقة في سوريا وهي أن فيها تيارات فكرية وسياسية واجتماعية لا يجوز إغفالها. فالرأي الواحد، والحزب الواحد، وحكم الفرد، لا يمثل الواقع في شيء. بل هناك تيارات في هذا الواقع تريد أن تبرز لحيز الوجود عبر تنظيمات سياسية مستقلة وصحافة حرة، ومعارضة ديموقراطية لها شرعيتها”.

وحاول البيطار الاستدلال على موقفه بما عرفته سوريا من فترة حريّات برلمانية وصحافية وجيزة في الخمسينات، فردّ عليه الأسد “إن سوريا بالعكس، كانت منقسمة، وفي حالة صراع مع الدول العربية والأجنبية، واليوم لأول مرة قضينا على هذه الصراعات وحققنا الوحدة الوطنية”. ومضى الأسد ليزعم أن ما هو قائم في سوريا في ظل حكمه هو الديموقراطية، “فهناك الحزب الذي يعد 550 ألف عضو، كل عضو منهم يقضي سنتين كنصير، وهناك الى جانبه المنظمات الشعبية والجبهة الوطنية ومجالس المحافظات”.

يقول البيطار “لقد أحسست بعقم الاسترسال في طرح النقطة الأساسية التي أردت أن تكون محور البحث في هذا اللقاء، أي محاولة النظام إجراء انفتاح شعبي صادر عن قناعة تامة بخطورة الظروف، وضرورة خلق مناخ ديموقراطي كمرحلة انتقالية يجري خلالها التحول بصورة سلمية من الحكم البوليسي العسكري الى حكم شعبي ديموقراطي”. كما يخلص الى أنه “منذ ذلك الوقت قدّرت أن سوريا سائرة الى أزمة نظام، لن تحل إلا بالعنف ما دام النظام لم يرد حل الخلاف بينه وبين الشعب بصورة سلمية”.

كانت كلمات البيطار هذه استشرافية للغاية، لما سيحدث لاحقاً في شباط 1982، في مجازر حماه الرهيبة، ثم مع الجرائم ضدّ الإنسانية التي تنفّذها كتائب النظام ضدّ الشعب الثائر منذ 15 آذار 2011 وإلى اليوم بوتيرة لا تلين، بل تتصاعد، سواء من جهة الخروج على الطغاة، أو من جهة الدم الذي يسفكه الطغاة.

مسلسل الاغتيالات… المتوارثة

وفي المقابل، لم تكن كذلك كلمات ميشيل عفلق، في الحفل التأبيني الذي أقيم بعد اغتيال البيطار، وحيث توقّع أن يولّد اغتياله بداية “تاريخ جديد بالنسبة الى نضال الشعب في القطر السوري وبالنسبة الى موقف الرأي العام العربي والعالمي من قضية سوريا ونكبة شعبها بحكامها المتسلّطين”.

فقد بدا اغتيال البيطار حلقة من سلسلة طويلة من الاغتيالات الأسدية، سيورثها الطاغية الأب لأبنائه لاحقاً.

فقبل البيطار، جرى اغتيال محمد عمران، أحد أفراد اللجنة العسكرية الانقلابية، التي كانت تضم حافظ الأسد وصلاح جديد، وكان وزيراً للدفاع عام 1963. وعلى الرغم من طائفيته الفصيحة، ودعوته إلى “تحالف فاطميّ” بين الأقليات في الجيش بوجه الأكثرية، إلا أنه كان معارضاً للتنكيل بأبناء حماه بالشكل الذي جرى عام 1964، وقد أبعد الى إسبانيا، ثم لم يغفر لأمين الحافظ استدعاءه منها، وأطيح بكل منهما في 23 شباط 1966، ليتم اعتقاله، ثم يفرج عنه ويقيم في طرابلس، إلى أن تمتد إليه أصابع الغدر الأسدية في 14 آذار 1972، حيث هو في طرابلس. وبعد البيطار، جرى اغتيال بنان الطنطاوي، ابنة الشيخ علي الطنطاوي وزوجة عصام العطار الذي كان مراقباً عاماً لجماعة الإخوان، وجرى ذلك في مدينة آخن في ألمانيا.

الاغتيال السياسيّ شكّل عموداً أساسيّاً من أعمدة استمرار النظام البعثيّ، بصيغته الأسديّة. لم يردعه في ذلك حاجز “جغرافي”، فمورس الاغتيال ضدّ معارضين سوريين سواء في لبنان أو في فرنسا أو في ألمانيا أو غيرها. كما لم يردعه في ذلك حاجز “ديبلوماسيّ”، حيث أنّ باريس عبّرت صراحة عن اتهامها للنظام السوريّ بحادثة اغتيال سفيرها لدى لبنان لوي ديلامار في 4 أيلول 1981. هذا، وقد أثيرت المسألة مجدّداً قبل سنوات، عندما دعا الرئيس الفرنسيّ نيكولا ساركوزي الرئيس بشّار الأسد لمشاركته في ذكرى الثورة الفرنسية، في 14 تموّز، تلك الثورة التي رفعت شعارات “الحرية، والإخاء، والمساواة”.

والدافع إلى اغتيال ديلامار وقتها كان محاولة الأخير ترتيب عقد اجتماع بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ووزير الخارجية الفرنسية، بدون حضور ممثّل عن النظام السوريّ.

كل هذه المسيرة الدموية من الاغتيالات عرفها اللبنانيّون أكثر من سواهم طبعاً، سواء باغتيال المعلم كمال جنبلاط، أو الرئيس بشير الجميل، أو المفتي حسن خالد، أو الرئيس رفيق الحريري، وعشرات الأسماء الأخرى من المفكرين والمثقفين والصحافيين والمناضلين.

ويضاف الى كل ذلك ملف قائم بذاته، يتصل بالترجمة “العنفية” للتوتّر السوريّ الأردنيّ في الثمانينات..

هذه المسيرة الاغتيالية تستند إلى “فلسفة أسدية” كاملة، قوامها أنّ الاغتيال هو الحل الأبسط لأي “عقدة”، وأنّه رسالة رادعة، وأنّ لا عواقب حقيقية له، وأنّ الذاكرة تبقى في هذا المجال قصيرة، بحيث يمكن لأي تبدّل في التوازنات والمصالح أن يجعل أهل الضحية في مقلب آخر، وأن يجعل قضيّتهم محفوظة، أو مبتلعة، في الأرشيف البعثيّ الأسديّ. لكن الأمر الأساسيّ في لعبة الاغتيال الأسديّة، وهو ما يغفله كثيرون في تحليلاتهم، لكن تؤكّده شهادات كثيرة، هو أنّ قرار الاغتيال في النظام السوريّ هو “قرار سياديّ” بمعنى أنّ الرئيس هو الذي يصدره، بشكل مباشر، ولا لبس فيه، وليس فقط بشكل “إيعازي” أو “إيحائيّ”. ليس هناك من قرار اغتيال يمكن أن يمرّر في سوريا إلا بقرار مباشر من الرئاسة. أكثر من ذلك، يمكن تعريف “رئيس الجمهورية” في النظام البعثيّ الأسديّ على أنّه صاحب القرار بالاغتيالات.

طبعاً، لم يعترف هذا النظام بأي من “الاغتيالات” في أي يوم، مع أنّ الأب والابن كانا يعترفان في أي مقابلة إعلامية بحصول “أخطاء”، لكنها بقيت أخطاء مبهمة، وأخطاء يشيرون دائماً إلى مكان غامض لها، لا نعرف في أي جهاز، ولا تحت أي أرض. في المقابل، كانت بعض هذه الاغتيالات تسمّى “انتحارات”، وحتى لو بخمس رصاصات من الخلف.

لماذا اغتيل محمد سليمان… العلوي؟

لكن يبقى اغتيال محمد سليمان في 2 آب 2008، المستشار الأمني للرئيس بشار الأسد (أبو حافظ)، هو أكثر الاغتيالات غموضاً. وسليمان من الطائفة العلوية أيضاً، ومن مواليد بلدة الدريكيش شرق طرطوس، والمسؤول عن برامج تحديثية عديدة للتسليح وشراء الأسلحة وتطويرها. كان تسلّم منصب مدير مكتب بشّار الأسد الخاص، ويدير غرفة العمليات الخاصة لبشّار، وكان المسؤول بعد وفاة حافظ الأسد عن تأمين الغطاء الأمنيّ لعملية التوريث. سادت تكهّنات، وراجت تحليلات كثيرة بصدد مقتله، منها ما يربط الأمر بعملية نوعية لـ”الموساد” الإسرائيليّ، ومنها ما يربطه بالحاجة إلى تنظيف أرشيف النظام في ما يتعلّق بجرائم ارتكبت في لبنان، ومنها ما يربطه بمتاهات البرنامج النووي السوريّ، أو بالتعاون العسكري والأمني السوريّ الإيرانيّ، خصوصاً وأنّ بشّار الأسد كان يقوم يومها بزيارة إلى طهران، ومنها ما يربطه بتناقضات بين “أجنحة السلطة”، لكن المعطى المغيّب في كل هذا، هو أنّ الذي جرت إزاحته يومها كان الرقم 2 داخله، الذي ينتمي إلى جميع الصفات المفترضة، حزبياً ومذهبياً وأمنياً، إلا صفة واحدة: وهو أنّه من خارج العائلة الأسديّة. وهذا المعطى يمكن أن يفسّر لاحقاً مساحة أساسية لا تزال ملتبسة تتعلّق بهذا الاغتيال، علماً أن اغتيال سليمان هو من الأسرار التي لا يمكن فكّ شيفرتها بشكل حقيقيّ قبل سقوط النظام البعثيّ، وقد يكون سقوط النظام حتمياً، إلا أنّ معرفة جرائم اغتياله، ودوافعها، والتقنيات التي استخدمت، والوسائل السياسية التي جرت التغطية بها، كلّ ذلك يحتاج إلى جهد واسع النطاق، ولعلّه لن يصيب إلا جزءاً يسيراً من هذا المسار الذي عمل على تأبيد حكم العائلة الأسديّة بواسطة الحرفة المثلى لهذه العائلة: الاغتيال السياسيّ.

-4-

التوريث” في سوريا أنضجه النظام الأمني المشترك في لبنان

من دون تظاهرات ولا تصادمات في الشوارع هبط بشار الأسد على كرسي الرئاسة في عاصمة الأمويين بتوريث “بيولوجي” وعملية إستثنائية أمنية لوجستية، غطّاها نظام البعث وأدارها محمد سليمان وآل مخلوف، ذلك النظام الذي استطاع أن يحكم سوريا في ظلّ حافظ الأسد من وراء القبر الى حين اندلاع الثورة في 15 آذار 2011. ومن لبنان شكّلت التركيبة الأمنية، التي أوجدها النظام الأمني اللبناني- السوري المشترك، سنداً للانتقال الذي بقيت المؤسسات الحزبية بعيدة منه وتحقّق بسوريا وحدها “بقرار جمهوري” وتعديل للدستور لم يحتَج الى أكثر من خمس دقائق. تركيبة كانت المحور والمبادر في التحرك لدعم التوريث وشكلت منظومة الوصاية التي لطالما خنقت اللبنانيين منذ ما بعد الحرب وانتكاسة اللعبة الديموقراطية البرلمانية مع وصول إميل لحود الى سدّة الرئاسة، ومن ثم التمديد له بالتوازي مع التوريث ضمن معادلة أن من يعارض الأول فهو متآمر ضد الثاني ومصيره القتل. المعادلة وضعت في وجه “الحريرية” التي كان العداء لها يومها حاضراً بشكل منهجي، وكان الاسد الابن منذ البدء يرى في هالتها وحضورها في السياسة والاقتصاد خطراً حيوياً عليه.

لخدمة التوريث قُدّم الرئيس “العتيد” على أنه علماني وداعية المعلوماتية. النخب طالبته بان يظهر اختلافه عن والده وانتمائه الى جيل آخر، ذلك الاختلاف الذي حاول اثباته بتسامح أبداه مع “المضافات المدنية” ثم ما لبث ان بدده بسياسة القمع الاولى ضد “ربيع دمشق” على ما وُصف. كثر اعتقدوا أنه سيكون أقلّ جوراً ودموية وهو الآتي من “المدنية” والبعيد من الجيش والعسكر، إلا أنهم ما لبثوا أن اكتشفوا أنهم مخطئون بعدما أظهرت مواقفه أنه ما زال يحافظ على شوكة العصبية الفئوية. عصبية تجلّت بقوة باستخدامه التصفية الجسدية حتى داخل النظام العلوي الحاكم وداخل عائلة الأسد نفسها، ومن ثم بانتهائه بدخول الموقع التبعي في تحالفه مع منظومة “ولاية الفقيه” التي لطالما حرص الأسد الأب على عدم انزلاقه فيه.

نجح “البعث السوريّ” في ما عجزت عنه جميع الأنظمة التسلّطية في الجمهوريّات العربيّة: التوريث. بقي التوريث حلماً لم يتحقّق في العائلات الرئاسية الأخرى. عُدي وقصيّ قُتِلا قبل والدهما. علاء وجمال اعتُقلا مع والدهما. زين العابدين بن علي هرب مع زوجته. مصير “القذاذفة” كان دمويّاً مثلهم. ضاعت جهود علي عبد الله صالح التوريثيّة لنجله أحمد. باختصار شديد، كان “التوريث بقرار جمهوريّ” حديث الساعة في السنوات الماضية، في بغداد أو في القاهرة، في صنعاء أو في ليبيا أو في تونس، إلا أنّ الحالة السوريّة بقيت الإستثناء: في دمشق وحدها استطاع النظام، المتمسّك بأيديولوجيا تصف نفسها بأنّها تقدمية وعلمانية وديموقراطيّة شعبية، أن يؤمّن الغطاء للتوريث، الذي استطاع أن يحكم سوريا، في ظلّ حافظ الأسد من وراء القبر، إلى حين اندلاع شرارة الثورة السوريّة في 15 آذار 2011.

“التوريث”.. وتعديل الخمس دقائق

في الوقت نفسه، شكّل الإستثناء السوريّ حافزاً لجميع الأنظمة التسلّطية الأخرى في المنطقة، فالنغمة لم تزحف على البلدان الأخرى بهذا الشكل، إلا بعد أن كان رؤساء الجمهوريّة العرب ينصتون لمحاضرات بشّار الأسد في القمم العربية المتعاقبة، فيستحضر كل واحد منهم صورة نجله أو زوجته، ويقول لنفسه انّه كما ورّث حافظ لإبنه، فلإبني أو لزوجتي الحقّ كذلك، والقمم العربية يمكن أن تتسع لشتى أنواع المحاضرات.

بشّار الأسد كان استثناء من ناحية أنّ التوريث انتقل إليه، ليس بشكل تلقائيّ كما يخيّل للإعتقاد لكن من دون مصادمات في الشارع، ولا تظاهرات رافضة، كتلك التي واجهت بها بعض المجموعات السوريّة الإنقلاب “التصحيحيّ” الذي أوصل والده الى السلطة في تشرين الثاني 1970. بيدَ أنّ التوريث في سوريا لم يحصل مع ذلك إلا بفضل نجاح كوكبة من ضبّاط العصبية الغالبة في النظام، في تأمين غطاء أمنيّ لازم لذلك فور وفاة حافظ الأسد في 10 حزيران 2000، الأمر الذي تعيده مصادر أساسية إلى غرفة عمليات كان يقودها العميد محمد سليمان، وتكفّلت بمراقبة ومنع التقاء أي من العناصر التي كان يمكنها أن تغامر سواء داخل الأجهزة الأمنيّة أو ضمن من يوصفون بأنّهم أهل العصبية الواحدة، وبشكل مركّز “ذوي القربى”، في إفساد الطبخة، طبخة توريث رئاسة الجمهورية العربية السوريّة إلى بشّار الأسد. بفضل هذه التغطية الأمنيّة المتقنة كان ممكناً، في هذا البلد الذي عرف الحيوية السياسية، سلمية أو عنفية، أكثر من سواه، أن يشهد على توريث رئاسة الجمهوريّة للإبن، بعد وفاة الأب، من خلال تعديل الدستور في خمس دقائق، ودون أن يكون النجل وقتها قد احتلّ منصباً أساسيّاً في الدولة أو في الحزب.

وحيث “لا مكان لعفويّة الجماهير” (وهذا لا ينفي أنّ للنظام جمهوره لكنّه تحديداً جمهور لا عفويّة لديه)، أخذ التلفزيون الرسميّ يذيع جلسة طارئة للبرلمان تلا فيها رئيسه آنذاك عبد القادر قدورة نعياً للأسد، وعرض اقتراحاً بتغيير الدستور لتعديل السنّ القانونية للمرشح لرئاسة الجمهورية من أربعين عاماً إلى أربعة وثلاثين عاماً، في حين كان التلفزيون يواصل بثّ مشاهد لجموع تبايع بشّار الأسد.

وفي 11 حزيران 2000، أصدر السيد عبد الحليم خدّام، نائب الرئيس السوري، مرسومين تشريعيين، “بترقية الدكتور العقيد الركن بشّار الأسد إلى رتبة فريق، وتعيينه قائداً عاماً للجيش والقوات المسلّحة”.

“عبادة الفرد”.. والرواية اللحودية

وهنا، يظهر فارق كبير بين “الحالة” بشّار الأسد، التي نجح نظام العصبية الفئوية والتركيبة الشموليّة في توريثها الحكم، وبين المشاريع التوريثيّة المجهضة في العالم العربيّ. فإذا قارنا مثلاً بحالة جمال مبارك، نجد أنّ مشروع توريث الأخير، اتخذ مساراً انتقالياً، اسمه “لجنة السياسات في الحزب الوطني”، أمّا في حالة الأسد الإبن فبدا الأمر أشبه بهبوط مظليّ على كرسي الرئاسة الأوّلى في عاصمة الأمويين.

بيد أنّ النظام البعثيّ، كان استقرّ على “عبادة الفرد” المطلقة لحافظ الأسد وحده، خصوصاً بعد تخلّص الأخير من مغبّة الوقوع في ثالوث الأخوة، الموقعين ببعضهم البعض، حافظ وجميل ورفعت. و”عبادة الفرد” هذه ليس من السهل توريثها داخل النظام، إن لم يكن هناك “وصيّة” أو “نصّ” من حافظ الأسد يقضي بتوريث بشّار الأسد.

وهنا، ولو كان الأمر رمزيّاً، إلا أنّ من تكفّل بالمهمّة كان الرئيس اللبنانيّ، البشّاريّ جدّاً، إميل لحّود. سيكرّس لحّود، ومعه النظام البعثيّ، الرواية التالية: انّ وفاة الرئيس حافظ الأسد حدثت في أثناء مكالمة هاتفية مع لحّود، وأنّ آخر جملة قالها الأسد للحود قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة كانت: “قدرنا أن نبني لأولادنا مستقبلاً يطمئنون اليه، وواجبنا أن نورثهم أفضل مما ورثنا”.

على الأقل، كانت هذه الكلمات، في الرواية اللحودية الدراماتيكية، المعتمدة بعثياً، تستبق تذرّع أي ضابط طموح من داخل الصفوة الحاكمة، بما كان سبق لحافظ الأسد أن صرّح به أكثر من مرّة في عقد التسعينيات. مثلاً، في مقابلته مع مجلة “تايم” في 13 تشرين الثاني 1992، وردا على سؤال حول نيّته التوريث قال: “ليس لدي خليفة. إن من يحدّد الخليفة هم المؤسسات والمنظمات الحكومية والدستورية والمؤسسات الحزبية، وأنا أؤمن أنّها جميعها تتمتع بجذور عميقة نظراً لخبرتها الطويلة الممتدة عبر عشرين أو اثنين وعشرين عاماً، وهي قادرة على احتواء هذا الموقف”. اللافت هنا، أنّ “المؤسّسات الحزبية” تحديداً لم تلعب دوراً يُذكَر، ولو ثانويّاً، أو شكليّاً، في تأمين عملية التوريث، وهو ما أوقع البعض في الفترة الأولى في وهم أنّ من طعن مفهوم الجمهوريّة بإنتقال كرسي الرئاسة إليه بهذه الطريقة اللادستوريّة، التوريثية، الفظّة والسريعة والكاريكاتورية والخائفة، لا نعرف من أين “تسلّل”، سوف يكون من نمط جديد، غير بعثيّ، أو إصلاحيّ. ويومها، قدّم الرئيس “العتيد” على أنّه داعية المعلوماتية، وهو وهم سيبدّده لاحقاً فيلم المخرج الراحل عمر أميرالاي “الطوفان في بلاد البعث”.

واضح إذاً اليوم أنّ عملية أمنية لوجستية كبيرة استطاعت تأمين “تعديل الخمس دقائق” على هذا النحو، وأنّ الخوف من حدوث أي ثغرة وصل وقتها إلى حدود قياسيّة في أجهزة النظام. هذه العملية الأمنية اللوجستية لعب فيها العميد محمد سليمان من ناحية، وعائلة مخلوف (أقرباء الأسد الإبن من جهة الأم) من ناحية ثانية (تحديداً عدنان مخلوف الذي كان قائداً للحرس الجمهوريّ وأولاده)، دوراً أساسيّاً، فكانوا العين الساهرة لتأمين الطريق أمام الرئيس العتيد، ريثما يشتدّ عوده أكثر، ويصير قادراً على قيادة “الأمة العربية” إلى حيث تقتضي “الرسالة الخالدة”.

بهذا المعنى، لا يتناقض القول بأنّ بشّار الأسد جاء بتوريث “بيولوجيّ” مع القول بأنّه جاء بعملية أمنيّة، من الممكن أن تنجلي تفاصيلها التقنية أكثر عندما تفتح ملفّات كثيرة بعد سقوط النظام.

“طبيب العيون”… على طريق التأهيل “البعثي”

لكن ذلك لا يعني أنّ بشّار الأسد كان لا يزال “طبيب العيون” إلى حينه. فبين 21 كانون 1994، تاريخ وفاة شقيقه الأكبر باسل اثر حادث سيارة عن عمر يناهز 32 عاماً، وبين تاريخ وفاة والده في 10 حزيران 2000، كان بشّار الأسد قطع ست سنوات من “التأهيل البعثي”، وذلك على مستويين: المؤسسة الأمنية الداخلية، وتأمين تركيبة أمنية مساندة له إنطلاقاً من النظام الأمنيّ اللبنانيّ ـ السوريّ المشترك الذي كان يشكّل منظومة الوصاية السوريّة المطبقة على اللبنانيين بشكل شامل، منذ انتكاسة اللعبة الديموقراطيّة البرلمانيّة اللبنانية الهشّة أساساً بعد الحرب، إنّما التي تعرّضت لضربة كبرى، بوصول إميل لحّود، إلى سدّة الرئاسة، في خريف 1998، بخطاب بونابرتيّ إستفزازيّ، يشكّل حركة مضادة لعملية الإعمار وإعادة تشغيل الإقتصاد اللبنانيّ من ناحية، وحركة مضادة للعبة الديموقراطيّة البرلمانيّة اللبنانيّة على هشاشتها، كما قلنا، تلك الهشاشة التي برّر بها إميل لحّود والنظام الأمني، حملتهما على ما أسموه يومها “الطبقة السياسية اللبنانية”.

عُجِنَ بشّار الأسد في هاتين المدرستين بين العامين 1994 و2000: تجاذبات مراكز القوى داخل سوريا، والتركيبة التي كانت تلتقي خيوطها على الثنائيّ إميل لحّود وجميل السيّد في لبنان، وهو ثنائي يستكمل سوريا بالنظيرين، رستم غزالي وجامع جامع. صحيح أنّه عندما نتحدّث عن “نظام أمنيّ مشترك” ينبغي عدم طمس علاقة التبعية الشديدة، والمذلّة، التي تربط المسؤولين اللبنانيين فيه بالمسؤولين السوريين عليهم، إلا أنّه، وفي الوقت نفسه، كان الفريق اللبنانيّ ضمن هذه المنظومة، محوريّاً، ومبادراً، في التحرّك لدعم التوريث لبشّار الأسد. من هنا، كان من تحصيل الحاصل بعدذاك أن يتقاسم بشّار الأسد مع هذا الفريق الأحقاد نفسها، والضغائن نفسها. أيّ أنّه بالمستطاع القول، انّ “العداء للحريريّة” على وجه التحديد، كان حاضراً بشكل منهجيّ منذ نهاية التسعينيات في هذا الفريق الرئاسيّ الذي سيشكله بشّار الأسد، وأنّ الأسد الإبن كان ينظر إلى الحريرية منذ البدء، وتحديداً إلى الهالة التي يشكّلها الحضور السياسيّ والإقتصاديّ للرئيس رفيق الحريريّ، على أنها خطر حيويّ عليه. وفي الأساس، كانت هذه محاولة من بشّار الأسد وفريقه، للهروب إلى الأمام من المشكلة الأساسية التي بدأت تعترضهم، ولو بدأت بأشكال خافتة في حزيران 2000، وهي أنّ الشعب السوريّ “لم يبلع” الطريقة الكاريكاتوريّة التي عدّل بها الدستور للإتيان بالإبن خلفاً للأب، ولو أنّ “المضافات المدنية” التي سيتسامح معها الإبن نسبياً، وجزئياً، لأشهر قليلة، قبل أن يباشر سياسة قمعه الأولى، ضد “ربيع دمشق” كما كان يوصف آنذاك، كانت مضافات وأندية من النوع الذي يطالب الإبن بـ”الغاء حالة الطوارئ” وبإعادة مناخ الحريات والتعدّدية شيئاً فشيئاً إلى النخب ثم إلى البلد، أي بمعنى آخر كانت تطالبه بأن يظهر اختلافه عن والده، أي أن يظهر أنّه محكوم ليس فقط بثوابت انتمائه إلى عشيرته وعصبيته، وإلى تاريخ دمويّ بلغ ذروته في مجازر حماة 1982، بل أن يظهر أنّه ينتمي إلى جيل آخر.

لكن من كان ليرصد مسيرة الشاب آنذاك (مواليد 1965) منذ البدء، ما كانت لتخدعه حكاية “طبيب العيون” الذي سيتزوّج بالحسناء البرجوازية أسماء فواز الأخرس (المولودة عام 1975)، ابنة الطبيب المعروف المقيم في لندن، كاسراً بذلك القيود الطائفية أو المذهبية، رغم اعتراض والدته وشقيقته وربعه.

صورة “الجزار” بانت سريعاً

هذه اللوحة الزاهية ستنجح في خلق أوهام كثيرة لفترة غير قليلة حتى عند الكثيرين، ممن كان يراهن على أنّ التجربة اللندنيّة، الطبية والعاطفية فضلاً عن المناخ الثقافي العام، ستجعل الرئيس الجديد لسوريا بعيداً كل البعد عن شلالات الدمّ التي شكّلت تاريخ التجربة البعثية في سوريا، أو تاريخ نكبة سوريا بالبعث. كثيرون اعتقدوا أنّ مدنيّاً يجري إقحامه في الجيش فجأة، ويرفّع الرتب على نحو إعتباطيّ، سيكون أقل وطأة وجوراً وعنفية ودمويّة من الذين تمرّسوا في الإنقلابات، وتنقّلوا بين “اللجان العسكريّة السريّة” و”مجالس قيادة الثورة” و”المحاكم الثوريّة”. وكم كانوا مخطئين.

ومع أنّ نيقولاوس فان دام كان نشر كتابه “الصراع على السلطة في سوريا” قبل بضع سنوات من وفاة حافظ الأسد، إلا أنّه كان من أوائل من رصد الصورة المتعنّتة لبشّار الأسد، قبل أن يتقلّد الأخير أي منصب رسميّ. يعيدنا فان دام إلى اللحظة التي غطى فيها الإعلام الرسمي بشكل واسع عملية تقلد بشّار المهام التي كان يقوم بها شقيقه باسل قبل وفاته. وهكذا تخرّج بشّار الأسد في 17 تشرين الثاني 1994، أي في ذكرى الحركة التصحيحية، رسمياً من الكلية العسكرية في حمص التي التحق بها مباشرة بعد مصرع باسل. وحصل طبعاً على المركز الأول بين دفعته، في حين حصل “على المركز الثاني قريب بشار وهو ابن عدنان مخلوف قائد الحرس الجمهوري”. يقول فان دام، انه بدا آنذاك “وكأن جيلاً من الشباب (العلوي) الذي يتكون جزئياً من أبناء وأقارب اللواءات العلويين كان في طريقه إلى التكوين ليخلف داخل القوات المسلحة والمخابرات وفروع الأمن عامي 1994 و1995”.

في الوقت نفسه يلمّح فان دام إلى أنّ ذاك تضمّن أيضاً “بعض العناصر المحتملة لنشوب نزاعات بين الأجيال داخل المجتمع العلويّ”، وهو يضع في هذا الإطار تصادم بعض كبار ضباط الجيل السابق، مع بشّار الذي كان لم يبلغ الثلاثين عاماً آنذاك، وهو ما حدث تحديداً للواء العلوي علي حيدر، الذي اعتقل مع آخرين لفترة في صيف 1994.

لكنّ ما بات واضحاً أكثر اليوم، هو أنّ بشّار الأسد استعاد من أخيه باسل مسألة الترويج لنفسه تحت مسمّى الإصلاح ومحاربة الفساد، إنّما ما كان يندرج عند باسل الأسد ضمن طقوس معيّنة لتشكيل جيل عسكريّ أمنيّ جديد يتمكّن من خلافة الجيل القديم، ويحافظ على شوكة العصبية الفئوية إيّاها، إنّما بعد أن يعيد الحيوية إليها، صار يندرج بشكل أكثر مباشرة مع بشّار الأسد، على أساس “المعادلة المخلوفية الأسديّة”. أي أنّ مركز النظام سينزاح تماماً من “ذوي القربى” بمعنى حافظ وجميل ورفعت وكامل الدائرة، ليستقرّ في عائلة رئاسية محدّدة، تشكّل عقدة الوصل البيولوجية بينها، زواج حافظ الأسد من أنيسة أحمد مخلوف. لكنها عقدة الوصل.. الأيديولوجيّة أيضاً.

فالمعروف أنّ السيدة أنيسة تزوّجت حافظ الأسد رغم معارضة عائلتها، رغم انتمائهما للطائفة نفسها. وذلك بسبب من التحزّب “القوميّ الإجتماعيّ” عند آل مخلوف. إلا أنّ ما سيحصل بنتيجة هذا الزواج هو تزاوج البعث السوريّ، في صيغته الفئوية الشموليّة، الطائفية ثم العائلية، مع كثير من رؤى وتصوّرات القوميين الإجتماعيين. الأمر الذي يجعل من هذا البعث، خصوصاً في المرحلة البشّارية، بعثاً قوميّاً إجتماعيّاً، على الصعيد العقائديّ، وأسرة حاكمة “مخلوفية أسديّة”، قد لا يظهر إختلافها عن سياسات حافظ الأسد بالشكل الذي سيظهر فيه في أسلوب إدارتها للصراعات داخل الطائفة العلويّة.

فالأسد الأب كان يحاول التخفيف من إراقة الدماء ضمن هذه الطائفة، كما كان يميل للتخفّف، أو ابعاد كل من يغامر بجعل الطائفية علنية، ومجاهر بها، في حين أنّ من المطلوب، كي يبقى النظام واقفاً على قدميه أن تكون هذه طائفية سرّية.

وفي المقابل، الأسد الإبن لم يتورّع في استخدام التصفية الجسديّة حتى داخل الطاقم العلويّ الحاكم، تحديداً مع حالة غازي كنعان، لكن أيضاً في حالة محمد سليمان. كما أنّه ما كان بمستطاعه استيعاب أولاد عمومته، سواء أبناء جميل أو رفعت، وتحديداً في ما يتّصل بالنفوذ على مرفأي اللاذقية وطرطوس.

أمّا على صعيد المسألة الطائفية، فقد ذهب بشّار الأسد بعيداً على الصعيد الشخصيّ، بزواجه الجريء مذهبياً من أسماء الأخرس، رغم اعتراض والدته وشقيقته، إلا أنّ هذا المسلك العلمانيّ على الصعيد الشخصيّ شيء، ودخوله أكثر فأكثر، ومن موقع تبعيّ، في تحالف مع منظومة “ولاية الفقيه” التي يقودها نظام الملالي في طهران شيء آخر. وبنتيجة هذا التحالف التبعيّ، كان من الطبيعيّ أن يشعر الشعب السوريّ مجدّداً بالمسلك الفئويّ، المذهبيّ، المقلق، للطاقم الحاكم، ولو كان التعبير الأوّلي عن هذا القلق هو الأحاديث الكثيرة التي صار يرويها السوريّون في السنوات الخمس السابقة على اندلاع الثورة، حول “التشييع المنظّم” التي تمارسه ايران في أحياء من دمشق وغيرها. ويقيناً أنّ معظم هذا مبالغة، لكنّه يشي دون أدنى شك، بانزلاق فئويّ مذهبي كبير للنظام في مرحلة بشّار الأسد، الأمر الذي يعود إلى معطيين أساسيين: نشأة العائلة “الأسدية المخلوفية الجديدة” من جهة، والتحالف مع ايران ولاية الفقيه من موقع التبعية من جهة ثانية.

وهنا أيضاً، تجدر العودة إلى لبنان، وما شكّله هذا البلد في مرحلة “إعداد” بشّار الأسد لـ”الخلافة”، التي هي توريث بتغطية أمنية محكمة. فعلاوة على صعوده داخل المؤسسة الأمنية الحاكمة التي استدعي إليها بعد وفاة شقيقه، وهو صعود اتسم أساساً بتصليب عود “العائلة الأسدية المخلوفية المشتركة”، كان النظام الأمنيّ اللبنانيّ السوريّ المشترك ممرّاً أساسيّاً لتمكين التوريث السوريّ من أن يتمّ. وبهذا المعنى، لعب فرض هذا النظام الأمنيّ لإميل لحود رئيساً للجمهورية اللبنانية عام 1998، دوراً عضوياً في تأمين السبيل لوصول بشّار الأسد إلى الرئاسة بعد وفاة والده، ثم عادَ التوريث السوريّ فأراد أن يترجم نفسه لبنانيّاً، فاستبقته انتخابات آب 2000 التي ألحقت هزيمة كبيرة بالنظام الأمنيّ، ثم كان نداء مجلس المطارنة الموارنة مطلقاً عملية استعادة السيادة اللبنانية، وبعده إعادة تموضع “قرنة شهوان”، وانطلاقة الحركة الإستقلالية المتعدّدة الأوجه والأطر والمستويات، فكانَ أن كشف “طبيب العيون” مبكراً عن تعطّشه للقمع الدامي، من طريق أعوانه اللبنانيين، كما في ضربة 7 آب 2001، لكنّ الأخطر من ذلك كانت المعادلة التي أوجدها في خريف 2004: التوريث سوريّاً يعني التمديد في لبنان، ومن يعارض التمديد في لبنان يتآمر ضدّ التوريث في سوريّا، ومن يتآمر بهذا الشكل يُقتَل.

إنّ التوريث في سوريّا كانَ، منذ البداية، وبالاً على السوريين واللبنانيين، وندر من كان يعرف ذلك منذ البدء. لكن يروى، أنّ البعض كان يتهامس، أثناء مراسم جنازة الأسد الأب حول المصيبة التي تنتظر البلدين، في زمن بشّار وماهر وآصف وآل مخلوف.

-5-

الأب والابن.. من “التصحيح” في حماة الى “الإصلاح” في حمص

وَقَع بشار الأسد في أخطاء قاتلة كثيرة، كان اهتم والده في تفاديها، ولعلّ في تحطيمه الرقم القياسي في الاستهانة وفي هدر العروض والمبادرات وفي ما وصل اليه من قطيعة نهائية من جانب الإجماع العربي خير دليل على ذلك. إلا أنه على الرغم من الاختلافات في التقدير والنتائج، فإن التعطّش للقمع والدماء شكّل القاسم المشترك لمنهج الأب والابن من “التصحيح” في حماة الى “الإصلاح” في حمص. هو المنهج نفسه المعادي لفكرة الكيان انطلاقاً من عقدة “الكيان الناقص” لديهما، عقدة دعّمتها لعبة “فرق تسدّ”، المبرّرة دوماً بـ”العروبة” وقدسيتها، والتي لم تستثنِ العشائر والعائلات والمناطق وحكمت الخارطة السورية كلّها وتجاوزتها الى لبنان وفلسطين. ولعلّ في شعار الثورة الذي يرتفع اليوم “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد “، خير دليل على إيمان شعبوي ان الثورة هي طريق للوحدة التي لطالما حدّها النظام من خلال العمل الدؤوب على تفعيل التباعد بين المناطق لمحاصرة معاقل المقاومة وحفظ موقعه. وكما في الداخل، كذلك في الخارج، فان النظام البعثي الذي لم يرقَ الى رتبة قطب رئيس في المنطقة، ومن عقدته نفسها وخدمة للعقيدة البعثية، عمل على حماية وجوده بسياسة “العميل المزدوج” من خلال خدمة محورين أو تأمين وظيفتين متعارضتين في آن أو بالتتابع. سياسة انتهجها الأسد الأب في الستينيات في مواجهة جمال عبد الناصر، ومن بعده أنور السادات مروراً بمواجهة “البعث الآخر” مع صدام حسين ومواجهة السوفيات لصالح أميركا، وصولاً الى لبنان وما أوقعه فيه من تناحر دموي بين ميليشيات “حزب الله” و”حركة أمل”. وعلى عكس الأب الذي اعتمد مواجهة السوفيات لصالح أميركا في الحرب الباردة، فإن الابن اليوم يراهن على استئنافها معتمداً على روسيا وحليفه الإيراني المرتبط به من موقع التبعية التامة. ويبقى القول ان بشار الاسد أعطي ما لم يعطَ لغيره في مواجهة الربيع العربي، فما كان منه إلا ان ابتعد تماماً عن إمكان التصالح مع وجهة نظر الأكثرية الأهلية وهذا خطأ مميت حتى بعرف الأسد الأب.

لا بدّ من الإقرار أنّ المشكلة اللبنانية – السوريّة سابقة، في جذورها، أو في منحى تطوّرها، على استيلاء “حزب البعث العربيّ الإشتراكيّ” على السلطة في سوريا. بمعنى من المعاني ثمّة أيضاً بُعد “كيانيّ” لهذه المشكلة.

فسوريا الحديثة كيان تعوّد النظر إلى نفسه على أنّه كيان ناقص، كيان لا بدّ أن يسعى إمّا إلى التوحّد مع بلدان عربية أخرى وإمّا إلى إلحاق بلدان أصغر منه به. وهذه نقطة استثمرها النظام البعثيّ جيّداً، ليروّج من خلال باتريك سيل، إلى أنّ هذا النظام نقل سوريا من طور البلد الذي كانت تتقاسمه المحاور، إلى البلد الذي يوجد نفسه كقطب رئيسيّ في المنطقة، ويخوض الصراع من أجل توسيع نفوذه هنا وهناك كما تفعل كل الدول الإقليمية القادرة او الطموحة.

1 الاختلاف الجذريّ بين الأب والابن: مسألة التحالفات

لكن هذا، في أقل تقدير، محض تبسيط. ذلك أنّ ما فعله “النظام البعثيّ” لم يؤمّن له التحوّل إلى قطب رئيسيّ في المنطقة، بل انّ هذا النظام وجد نجاته، واستمراره، لعقود، وتحديداً مع حافظ الأسد، على أساس أنّه بمثابة “عميل مزدوج” قادر على خدمة محورين أو تأمين وظيفتين متعارضتين في وقت واحد، أو بالتتابع. فالنظام “البعثيّ الفئويّ” كان حاجة لأخصام جمال عبد الناصر في الستينيات، للمزايدة عليه بشعارات العروبة والوحدة والإشتراكية ردّاً على مزايداته هو بهذه الشعارات، أو بحرب اليمن. ثم تحوّل هذا النظام إلى تأمين وظيفة مواجهة أنور السادات وخياراته في السبعينيات، هذا من جهة، والدخول إلى لبنان لتقويض المقاومة الفلسطينية أو تطويعها من جهة ثانية. وفي الثمانينيات صارت وظيفة هذا النظام مواجهة “البعث الآخر”، أي نظام صدّام حسين. ومع أنّ حافظ الأسد كان أكثر من ندّد بتخلّي العراق عن مناطق منه لإيران بموجب اتفاقية الجزائر في السبعينيات، إلا أنّه وقف إلى جانب نظام الملالي الإيراني في الحرب العراقية – الإيرانية، لكن أيضاً دون أن يقطع مع المحور الآخر في المنطقة، بل يحاول الجمع بين المحورين، كما حصل عندما نظّم الملك حسين لقاء سريّاً بين الرئيسين صدام حسين وحافظ الأسد استبق لقاءهما العلني على هامش قمّة عمّان 1987، تلك القمّة التي اشتهر فيها وزير الخارجية آنذاك فاروق الشرع بأنّه شارك في إعداد بيانها الختامي الذي يدين احتلال ايران لأراض عراقية خلال الحرب، ثم لينفي موافقة بلاده على هذا البيان مباشرة في اليوم التالي!

لم يكن النظام البعثيّ قطباً أو محوراً في أيّام حافظ الأسد، بل كان “نظاماً واحداً في محورين أو أكثر”، بل انّ هذه كانت وصفة الأسد لإستمرار حكمه، ومن ضمن فهمه، لضعف الموقف السوفياتي، ولأولوية الولايات المتحدة الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط في الوقت نفسه.

في المقابل، مع الإنتقال من “تصحيحية” حافظ الأسد إلى “إصلاحية” بشّار الأسد نجد من يأخذ على محمل الجد أن سوريا محور إقليميّ، فتكون النتيجة ما هي عليه اليوم. فحافظ الأسد ظلّ يحفظ خطّ الرجعة في أصعب الأوقات، مع دول الخليج مثلاً. وظلّ يتحسّب من انزلاق تحالفه مع ايران الخمينية إلى موقع تبعيّ، بل انّ توترات غير قليلة شابت السياستين الإيرانية والسوريّة في لبنان الثمانينينات، ولا يفسّر بعيداً منها التناحر الدمويّ بين الميليشيات التابعة لـ”حزب الله” ولـ”حركة أمل”.

مع بشّار الأسد، سنرى العكس. فإذا كان الوالد يقول بأولوية أميركا على السوفيات في المنطقة، في عزّ تعملق السوفيات ومنافستهم للأميركيين في “حرب النجوم” وغيرها، فإنّ الإبن يراهن الآن على استئناف الحرب الباردة، معتمداً على روسيا، بكل ما تتحمّله الأخيرة من مشكلات اقتصادية وديموغرافية وسياسية، علماً أنّ ما يحرّك توتّرات روسيا الموسمية إزاء الغرب في السنوات الأخيرة هو الشعور بضياع الإمبراطوريّة السوفياتية، وليس أبداً الشعور بإستعادتها، أو أن استعادتها ممكنة في الأمد المنظور.

كذلك، فإنّ الأسد الإبن لم يستطع أخذ مسافة من حليفه الإيرانيّ في أي مناسبة، وفي أي ملف، وهذا التطابق قاده بالنتيجة إلى موقع تبعية لحليفه الإيرانيّ، بكل ما يوجده ذلك من أسئلة محرجة، سواء على صعيد الحسابات المذهبية والاهلية الداخلية السورية، أو على صعيد الخيارات الإقليمية والدولية.

وأخيراً وليس آخراً في هذا المجال، تمرّس حافظ الأسد بين مدّ وجذر مع دول الخليج، ولم يغب عن باله يوماً، أنّ أي انسداد أفق للعلاقة بين نظامه والبلدان العربية الثريّة سوف يكون وبالاً على نظامه بالدرجة الأولى. وفي نهاية المطاف، لم يتردّد الأسد الأب في مشاركة الأميركيين في عملية تحرير الكويت.

في المقابل، حطّم الأسد الإبن الرقم القياسيّ في الإستهانة أو في هدر العروض والمبادرات وبادرات حسن النية التي قدّمت له على غير صعيد، وخصوصاً من البلدان العربية الأخرى على امتداد السنوات الماضية. لكن النتيجة كانت تعنّتاً ليس بعده تعنّت، ونتيجة التعنّت كانت الوصول إلى حيث وصلنا اليوم: القطيعة النهائية من جانب الإجماع العربيّ.

إلا أنّه، ما بين الإختلافات الواسعة بين منهجية الأب ومنهجية الإبن، بقيت هناك مشتركات أساسية، ليس فقط من ناحية التعطّش للقمع والدماء، لكن أيضاً من ناحية استعداء الفكرة الكيانية، سواء عنت انبثاق كيان فلسطيني مستقل، أو لبناني مستقل، أو عنت خروج سوريا من عقدة أنّها “كيان ناقص” يطمح لأن يكتمل إمّا بتوحّده مع كيان آخر أو بذوبان كيان آخر به. كذلك، ورث الإبن عن الأب هذه النظرة إلى لبنان من ضمن مجموعة أراض سليبة يُستكمَل بها النفوذ المطلوب. فلبنان يحضر هنا من ضمن عقدة رباعية مزمنة اسمها: الإسكندرون، فلسطين، الجولان، لبنان.

2 تماهي الأب والإبن: “فرّق تسد” على الجبهات كافة

والحق أنه، لم يلحق ضرر في العصر الحديث بالعلاقات بين الشعوب العربية مقدار الضرر الذي أحدثه “البعث العربيّ الإشتراكيّ” بمدرستيه، “البعث العراقيّ” و”البعث السوريّ”. وليس معلوماً بعد كم من وقت تحتاج شعوب هذا المشرق العربيّ لتدفن الكابوس وراءها، وتلملم جراحها، وتصيغ يومها وغدها.

ثمّة بالتأكيد من يرى أنّ “حزب البعث العربيّ الإشتراكيّ” كان أوّل ضحية للنظام البعثيّ نفسه، وخصوصاً في سوريا، التي كان حافظ الأسد سباقاً فيها لجهة تحويل الحزب إلى مومياء أو إلى كيان كرتونيّ، على رأس كيان كرتونيّ آخر، هو الجبهة الوطنية التقدّمية، فيما السياسة الداخلية السوريّة تصاغ إعتماداً على التركيبة العشائرية، أي على خارطة تفاهمات أو حملات ترهيب او تنكيل، يتمكّن من خلالها النظام من الإستمرار، بوصفه مدير لعبة الـ”فرّق تسد”.

وثمّة من يرى في المقابل أنّ الدوافع الأيديولوجيّة بقيت مؤثّرة في التجربة “البعثيّة” السوريّة، وأنّها لا تتناقض أساساً مع هذا الإعتماد على اللعب بالنسيج العشائريّ للمجتمع، فضلاً عن اللعب على الوتر المذهبي والطائفي أنى دعت إلى ذلك الحاجة. بمعنى آخر، ثمّة شيء مبهم، غامض، يقدّسه النظام، ويسمّيه “العروبة” ويبرّر باسمه لعبة الـ”فرّق تسد” التي ليست محصورة فقط بالبعد الطائفيّ، بين أكثرية وأقلية، أو بين أقلية وأقلية أخرى، إنّما هي أساساً، “فرّق تسد” بين العشائر والبطون والأفخاذ والعائلات الكبيرة، وبين المناطق. ومن هنا حتى، كان تحكّم بخارطة المواصلات في سوريا، بالشكل الذي يؤمّن الحدّ الأقصى من التواصل بين المناطق المؤيدة أو المنتظر منها، بحكم نسيجها الإجتماعي، تأييد النظام، والحدّ الأقصى من التباعد بين المناطق التي ينظر إليها كمعاقل للمقاومة بوجه النظام.

لأجل ذلك، لم يكن ثانوياً أبداً هذا الهتاف الذي يحرص على ترداده السوريّون الثائرون كل يوم، ويغتبطون به “واحد واحد واحد، الشعب السوريّ واحد”. ليسَ لأنّ الشعب السوريّ لم يتأثّر سلباً بعقود من سياسات فصل أبنائه عن بعضهم البعض، بألف وسيلة أمنيّة، ترهيبية بمعظمها، وترغيبية في البعض منها، بل لأنّ الشعب يصنع بثورته، وحدته.

فلو أنّ النظام البعثيّ كان اكتفى بوضع الأقلية في مواجهة الأكثرية منذ البدء لما صمد هذا النظام لأكثر من بضع سنوات، ولو أنّه انقاد وراء أوهام “تحالف الأقليّات” باكراً لكان دفن نفسه مبكراً أيضاً. النظام البعثيّ كان أذكى من ذلك: فهم أنّه يستطيع أن يحكم بمجرّد أن يتبنى عقيدة وحدويّة مطلقة، هي العقيدة البعثية، وأن يسعى في الوقت نفسه، وراء خدمة هذه العقيدة من خلال سياسة “فرّق تسد”.

امّا المخرج من التناقض بين هذين الأمرين، فهو أنّ البعث الأسديّ ولمّا كان “رسالة قوميّة” كان عليه توسيع منطقة نفوذه العقائدية كما السياسية كما العسكرية والامنية، أي توسيع منطقة النفوذ الخاضعة لهذا النمط من الفكر “الوحدويّ” العربيّ، وفي الوقت نفسه، لهذا النمط من سياسة الـ”فرّق تسد” التي تعرقل أي تطوّر طبيعيّ للبنية العشائرية، وأي علاقة سويّة بين المدن والأرياف، وبين الأكثرية والأقليّات، وبين الأقليّات في ما بينها.

وهكذا، عمد هذا النظام إلى تطبيق وصفاته نفسها التي اعتمدها في الداخل السوريّ، على الساحتين اللبنانية والفلسطينية. في الحالتين، مزايدة “وحدوية” على كل مناد بالقرار الوطني اللبناني المستقل، والقرار الوطني الفلسطيني المستقل. وفي الحالتين أيضاً، ادمان لسياسة الـ”فرّق تسد” من أعلى إلى أدنى مستوى.

لم يكن ممكناً للنظام البعثيّ في سوريا الإستمرار كل هذه السنوات لولا حربه المستمرّة على الإرادتين الإستقلاليتين اللبنانية والفلسطينية. بهذا المعنى، النظام “قوميّ” من حيث انّه يفهم تماماً العلاقة المتداخلة بين الدوائر السورية واللبنانية والفلسطينية. لكنّ ما يخرج به، بنتيجة هذا الفهم، هو صناعة التفتيت في كل من هذه الدوائر.

3 من الأب إلى الابن: المراهنة على القمع الدمويّ لتجديد حيوّية النظام

يتعامل البعثيّون مع الدّم على أنّه منشّط، على أنّه سائل يعيد تحريك عجلات النظام ساعة يتهدّدها الصدأ، ويكسبها طاقة وحيوية. فالنظام الذي لا يقمع لا أهلية له على البقاء، وبمجرّد أن يكون النظام قادراً على القمع والبطش الشديدين فإنّه بذلك يوجد مسوّغاً لبقائه.

وهكذا، فإنّ الإبن عندما ينوجد في ورطة تراه يستنجد بسيرة الأب، وتحديداً بكبرى جرائم الأب، أي مجازر حماة 1982.

لكن، هل فعلاً، كان حافظ الأسد لينجح في إنقاذ نظامه، من خلال ابادته الناس في حماة؟ احتاج بالإضافة إلى ذلك لأمرين: ظرف إقليميّ مؤات له بعد ذلك، حيث انّه بعد القمع الدمويّ لإنتفاضة حماة كان الإجتياح الإسرائيلي للبنان حتى بيروت، وكان اخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. أمّا الأمر الآخر، فهو ما حدث بين العامين 1983 و1984، وحسم تماماً في المؤتمر القطري لحزب “البعث” عام 1985. كان على حافظ الأسد أن يبعد شقيقيه رفعت وجميل، إذا ما أراد تأمين الإستقرار لنظامه بعد مجازر حماة. ولم يحدث ذلك بشكل سلميّ طبعاً، بل حدثت اشتباكات بين “سرايا الدفاع” وبين الحرس الجمهوريّ، وكاد الوضع يتطوّر إلى حرب أهلية شاملة. لم يتمكّن حافظ الأسد من الإنتصار على شقيقيه في تلك المنازلة لولا أنّه تحصّن بمصالح الأكثرية الأهلية من السوريين، وأظهر شقيقيه على أنّهما يمثلان وجهة نظر طائفية. وقبل ذلك قام حافظ الأسد بالشيء نفسه عندما انقلب على رفاقه المزايدين يساروياً مثل صلاح جديد وغيره. مثّل أيضاً ارتياحاً للأكثرية الأهلية، على اعتبار أنّ الأكثر فئوية ومغامرة قد أزيح.

في المقابل، فإنّ الإبن، بشّار الأسد، الذي يتقاسم مع الأب، المراهنة على القمع الدمويّ لتجديد حيويّة النظام، تراه يأخذ مساراً آخر. المزيد من التضامن مع كامل أفراد الأسرة “الأسدية المخلوفية” بالتحديد البشاريّ لها، أي التي تجمعه بشقيقه وصهره وأولاد خاله، وعدم الإستعداد أو عدم القدرة بالتضحية بأي منهم، وأكثر من ذلك، الإستحالة التامة لكي يمثّل وجهة نظر ترتاح لها الأكثرية الأهلية من السوريين. هذه الفرصة كانت متاحة له فقط لأسابيع معدودة في بداية الثورة، يوم كان هناك رأي منتشر في سوريا ينتظر أن يتجدّد الإفتراق بين “سرايا الدفاع” من ناحية، وبين “الحرس الجمهوريّ” من ناحية ثانية. لكن، هذه المرّة، كانت “سرايا الدفاع” و”الحرس الجمهوريّ” هما الشيء نفسه: بشّار ماهر، وماهر بشّار. انتظرنا أسابيع قليلة لنقطع الشك باليقين. أعطي بشار الأسد ما لم يعط لأحد غيره من رؤساء الجمهوريات العربية التسلّطية في مواجهة الربيع العربيّ. وبالنهاية، ابتعد تماماً عن إمكان التصالح مع وجهة نظر الأكثرية الأهلية، وهذا، حتى بعرف حافظ الأسد، خطأ مميت.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى