صفحات مميزةميشيل كيلو

كي لا تصاب سوريا «بداء البعث» على يد المعارضة: حـد أدنـى مـن الخـلافـات


ميشيل كيلو

بعد أن صار جلياً كم هو متعذر الاتفاق بين أطراف المعارضة السورية، وكم هي كبيرة خلافاتها الصغــيرة ومؤثرة تناقضاتها الشخصية، وكم هي رئيسة قضاياها الثانوية، تمس الحاجة إلى بديل يكون مقبولاً، قد يكون من الحكمة بدء العمل في سبيله بإزالة الخلافات والمشاحنات الشخصية، على أن تعقب ذلك مرحلة تالية تزال فيها الشكوك والريب بين التنظيمات عامة، وتنظيمي المجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق لقوى التغيير الديموقراطي بصورة خاصة، بما أنهما التنظيمان اللذان يتبادلان جميع أنواع الاتهامات، التي لا يعلن عنها صراحة، وإلا لكانت وجدت لها حلولا معقولة، ولكان تأثيرها على علاقاتهما وعملهما قد تضاءل بمرور الوقت، وإنما تترك للغمز واللمز في جلسات مغلقة أو لمداولات لها طابع السرية والخطورة. ولا بد أن نصل في نهاية الأمر إلى توافقات عامة، جد عامة، تخلو من التفاصيل المختلف عليه، فيلتزم الجميع بقبولها والتقيد بنصها وروحها أخلاقياً ووجدانياً قبل أن يلتزموا سياسياً، ويعتبروا تنظيم علاقاتهم في ضوئها ومن خلالها مصلحة وطنية عليا من واجب الجميع تحقيقها، لأن فيها مصالحهم الحزبية والشخصية، ولأنها تتخطى مصالح أي تنظيم بمفرده، مهما كان اسمه وموقعه ودوره.

لنبدأ إذن من الخاص بأضيق معاني الكلمة: من الخلافات الشخصية، التي لعبت دوراً غير قليل في إفشال وثيقة القاهرة بين المجلس والهيئة، وكان لاسمَي من وقّعا عليها دوره في إثارة المشاعر والمواقف ضدها، على غير ما كان المرء يتوقعه ويتخيله. ومع أن بروز العلاقات الشخصية على حساب المصالح العامة يعطي انطباعاً سيئاً عن أية معارضة، ويؤكد كم هي متخلفة سياسياً ووطنياً، فإن الواقعية تتطلب التوقف عنده بكل جدية، أقله لأن بين أسبابه عوامل واعتبارات تراكمت على مر عقود، لذلك أخذ بعضها طابعاً شخصياً مع أن منبته سياسي وعام، فلا بد من أن يعد التصدي لعيوبها تصدياً لعيوب سياسية عميقة الأغوار والجذور، بلغت من التوطن في النفوس حداً أقنع مختلف الأطراف بالتعامل معها بوصفه جزءاً تكوينياً من مواقفهم ورؤاهم، يتداخل مع أشخاصهم وقناعاتهم حتى صار من الصعوبة بمكان التخلي عنه، لأنه من الصعوبة الفصل في حالات كهذه بين ما هو ذاتي وموضوعي، خاص وعام، كما بين الرأي والحكم المسبق، والشحن الشخصي والحكم الرصين… الخ. إذا نجحت المعارضة السورية في تنقية علاقات قادتها وممثليها الشخصية، فإنها تكون قد وضعت نفسها على سكة السلامة، وبدأت تخرج من مأزق تتخبط فيه بنجاح منذ وقت طويل، من دون أن تفلح في مغادرته أو في إيجاد الطرق الصحيحة للابتعاد عنه.

بإزالة أو تجفيف الخلافات الشخصية، يصير من المرجح النجاح في تجفيف الشكوك والاتهامات الصريحة والمضمرة بين طرفي المعارضة الرئيسين، المجلس والهيئة، ويغدو بالإمكان طرحها بكل شفافية، والتحدث عنها بموضوعية ووضوح، ويصير من المستبعد تخوين الآخر والتشكيك في مواقفه والتزاماته، ومن المرحّب به الحديث بروحية نقدية عن كل شيء وأمر، ويتم تدريجياً بلوغ نقطة يسهل بعدها التخلص من الريب والشكوك، أرضيتها الثقة المتبادلة القائمة على التفهم والتسامح، فلا ينصب الواحد لغيره الفخ تلو الفخ، ويترك له هوامش حركة حرة يعتبرها شرعية وإن أخذ موقفا نقديا وصريحا منها بين حين وآخر، مثلما يحدث عادة بين أشخاص أحرار وأنداد وأحزاب وتنظيمات ديموقراطية.

ثمة قدر هائل من عدم الثقة بين المجلس والهيئة، فالأول يتهم الثانية بالضلوع في خطط سرية هدفها إنقاذ النظام، والثانية تتهمه بالعمل على تسهيل التدخل العسكري في سوريا وعسكرة الانتفاضة وخدمة مصالح خارجية وجهات سرية.

أي اتفاق يمكن أن ينجح بين جهتين تتبادلان هذا القدر من الشك وانعدام الثقة؟ ولنفترض جدلاً أنهما اتفقا، كيف ستطبقان ما اتفقا عليه، إن كانت علاقاتهما قائمة على الشك المتبادل، الذي كثيراً ما يبلغ حدود التخوين؟ لا بد، إذن، من حديث صريح ومفتوح عن أزمة الثقة، ومن الضروري أن توضع أسس مشتركة بهدف إزالتها بجهود متضافرة ومتكاملة، وأن ينطلق المختلفون من المشترك إلى المختلف عليه، وليس العكس، وأن تتم تسوية ما يختلف عليه في إطار عام يوسع ما يجمع ويقلص ما يفرق، إلى أن يرجح الأول على الثاني ويقلصه إلى أدنى الحدود.

لن ينجح هذا من دون توافق جدي وصادق على أسس للعمل المشترك تغطي الحقول العليا من الشأن الوطني والمصالح الخاصة بالدولة والمجتمع، التي يجب أن يتعهد الجميع برؤية الشأن العام في ضوئها، والنضال في سبيل حل قضاياه على هديها. هذه الأسس موجودة في العقل السياسي المعارض السوري، لكن خلافات ممثلي أحزابه ومنظماته، وشكوكهم المتبادلة حوّلتها من جوامع مشتركة إلى أدوات إضافية للخلاف والشقاق، مثلما حدث لإعلان دمشق، الذي أراد توحيد المعارضة فاستخدم لتمزيقها، أو مثلما حدث في مفاوضات المصالحة بين جماعة الإعلان والتجمع الوطني الديموقراطي، التي انتهت إلى تأسيس هيئة التنسيق، وهي تكوين جديد حلت فيه تنظيمات يسارية لا شأن لها ولا دور محل جماعة الإعلان، التي اتخذت من جانبها مواقف غريبة من محاولات لتوحيد طيفي المعارضة تولاها مثقفون مستقلون ناضلوا جميعهم تقريباً في إطار «لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا». من دون هذه الأسس التوافقية، لا سبيل إلى إزالة الخلافات الشخصية أو تحييدها، ولا مجال لخلق ثقة تكفي لحفز العمل المعارض باعتباره عملاً وطنياً بالأساس والجوهر والنتيجة، من الضروري الانطلاق فيه من العام إلى الخاص وليس العكس، وإلا أصاب بلادنا على يد المعارضة ما أصابها على يد البعث، وهو يقوم على رؤية العام، أي الوطني والجامع، في ضوء وجهات نظر ومصالح خاصة وضيقة، تجعل الوطن مجرد تابع للسلطة، وترفض أن ترى له مصالح مستقلة عن مصالح الممسكين بها وهي نفعية وشخصية غالباً. هذه الأسس يجب أن تتعلق بمصالح الدولة والمجتمع العليا، وأن توفق بينها وبين حقوق الإنسان وحرياته كمواطن دولة تساويه حريته مع غيره، وإن اختلف وضعه عن أوضاع سواه. إذا ما رسمت الأحزاب سياستها في ضوء هذه الأسس، ماذا يبقى للخلاف والشكوك والبغضاء بين قادتها وأعضائها، وفي المجال العام؟

ليست وحدة المعارضة السورية شرط نجاح عملها، وليست ممكنة اليوم على كل حال، ربما لأنها تريد التفاهم على سياسات عليها لا تقوى أرجلها على حملها، بسبب خلافاتها الشخصية وشكوكها المتبادلة وافتقارها إلى جوامع ومشتركات عليا توحّد نظراتها وواجباتها. إنها كمن يريد إشادة بناء بدءاً من طابقه الأعلى نزولاً إلى أساساته، مع أن الأصل في أي بناء البدء من أساساته صعوداً إلى طوابقه العليا.

بعد المحاولات الكثيرة الفاشلة، ما رأيكم، سادتي في المعارضة، أن نبدأ من تضييق خلافاتنا وتناقضاتنا الشخصية والعامة وصولاً ذات يوم إلى وحدة يتأكد اليوم أن الجري وراءها عبث لا طائل تحته ولا جدوى منه؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى